الكتاب: les
Dispositions Generales De La Constitution
الكاتب: مجموعة من الباحثين التونسيين شاركوا في ندوة فكرية تتعلق بالذكرى الخمسين لإصدار دستور 1959،
بمساعدة المؤسسة الألمانية Hanns Seidel Stiftung
الناشر: كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، بالاشتراك مع الجمعية
التونسية للقانون الدستوري، تونس 2010
(236 صفحة من القطع المتوسط)
يتكون الفصل الثاني من الدستور التونسي من فقرتين تتكلمان حول نفس
الموضوع، المغرب العربي الكبير، ولكن في أسلوبين مختلفين، من المفيد لفت النظر
إليهما.
1 ـ الفقرة الأولى
تقول الفقرة الأولى: "الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي
الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة".
هذا هو النص الأصلي للفصل الثاني من الدستور الصادر في 1959، ولم تقع
مراجعته منذ ذلك التاريخ؛ إن أول ما يلاحظ هنا، هو أن الدستور التونسي، إن تكلم عن
المغرب العربي الكبير في الفصل الثاني منه، فإنه لم يتكلم عن مجموعات أخرى قد
يتبادر للذهن أن يلمح المشرع الدستوري التونسي في دستور اعتمده في ظروف صعبة
ومضطربة في تلك السنوات الأولى للاستقلال. فالدستور لم يتضمن فصلاً واحداً أو حتى
فقرة واحدة للكلام عن مجموعة الدول العربية، إذا استثنينا الفقرة من التوطئة التي
ذكرت بكل اختزال "انتماء الشعب التونسي إلى الأسرة العربية"؛ وفي
الحقيقة، ليس هذا من باب الصدفة، فالكل يعلم أن علاقة زعماء الحركة التحريرية
التونسية ببعض الأنظمة العربية، وخاصة منها النظام القومي الناصري في مصر، لم تكن
على أحسن ما يرام وأن تلك
العلاقات لم تتحسن بعد استقلال تونس بل إنها ذهبت في
اتجاه التأزم لفترة طويلة من الزمن.
على خلاف ما حصل على مستوى العلاقات مع المجموعات العربية، فإن فكرة
"المغرب العربي الكبير" كانت حاضرة في الفكر السياسي المغاربي من قبل
إنجاز استقلال كل البلاد المغاربية حيث اتفق القادة التاريخيون للحركات الوطنية في
مؤتمر طانجة عام 1958على العمل على تحقيق الوحدة المغاربية بصفتها مطلباً تُجمع
على الرغبة في إنجازه كل الشعوب المغاربية؛ ونجد صدى لهذا الحلم في الدستور
التونسي؛ من ذلك أن توطئة الدستور تكلمت عن تعلق الشعب التونسي "بوحدة المغرب
العربي الكبير" وأن الفصل الثاني أعلن أن "الجمهورية التونسية جزء من
المغرب العربي الكبير وتعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة".
لكن ورغم هذا التأكيد المكرر على فكرة الوحدة المغاربية وعلى تعلق
الشعب التونسي بها، فإن النظر في نص الفقرة الأولى من الفصل الثاني من الدستور يدل
بوضوح على أن واضعي الدستور كانت لهم، في الحقيقة، بعض الشكوك والاحترازات حول
مسار هذه الفكرة والأهداف الموضوعة أمامها.
يقول الدكتور صادق بلعيد في هذا الصدد:"فمن جهة أولى، اقتصر
الفصل الأول على القول بأن "الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي
الكبير"، ويبدو من وراء هذه العبارة أنها تتضمن مجرد تصريح عن حالة موضوعية
كون البلاد التونسية هي، من ناحية الجيوغرافيا ومن الناحية الثقافية، قسم أو جزء
من مجموعة دول "المغرب العربي الكبير"، ولا غير؛ فمن وجهة النظر الأولى
التي قلنا بأنها تصريح على حالة موضوعية، لا يعتبر ما جاء في الفقرة الأولى من
الفصل الثاني بأنه تعهّد ثابت وصارم لتحقيق الوحدة المغاربية أو للعمل عليها؛ أما
إذا نظرنا إلى هذه العبارة بكونها ترمي إلى توحيد المغرب العربي الكبير، فإن
الدستور التونسي لم يعلن إلا عن استعداده للعمل على تحقيقه مثلما ستعمل الدول
المغاربية في هذا المجال على نفس الوتيرة، ما يعني أنه كان عند واضعي الدستور بعض
الشكوك حول عزم تلك الدول على الذهاب قدماً في اتجاه إنجاز الوحدة المغاربية.
فالإعلان الوارد في العبارة الدستورية المذكورة هو مجرد تعبير من جانب الطرف
التونسي عن استعداده للتعامل الإيجابي مع فكرة التوحيد إذا وقدر ما توفر نفس
الاستعداد عند الأطراف الأخرى للعمل على تحقيق الوحدة المغاربية؛ ورغم أنه ليس هنا
المجال للحديث عن هذا الشأن بالذات، فإنه من المناسب الإشارة إلى أن بقية الدول
المغاربية لم تأت بأكثر التزاماً في سبيل الفكرة المغاربية وإنه أنجز عن ذلك أن
المشروع المغاربي بقي شبه حبر على ورق أو ما يقارب ذلك، إذا استثنينا المصادقة في
مراكش، سنة 1989، على "معاهدة إنشاء المغرب العربي الكبير".
ويضيف الدكتور بلعيد: "ثم ومن جهة ثانية، فإن الفقرة الأولى، إلى
جانب الشكوك حول حظوظ الفكرة الوحدوية وتحقيقها، تدل على بعض الاحترازات والحدود
التي وضعها الدستور التونسي أمام الفكرة الوحدوية في حالة الاتفاق على إنجازها أو
حتى للعمل على إنجازها؛ فلقد قالت الفقرة الأولى بأن الجمهورية التونسية تعمل
لوحدة المغرب العربي الكبير على أساس أن تكون ذلك "في نطاق المصلحة
المشتركة"؛ فهذا يعني في نظر المشرع الدستوري التونسي أن تشييد هذا الصرح يجب
أن يحصل على أساس مصلحة يشترك فيها كل أعضاء الاتحاد المغاربي وحسب تصور كل دولة
عضو لهذه المصلحة، بعبارة أخرى، فإن هذه العبارة تعني أن الجمهورية التونسية ستحفظ
لنفسها حق تقدير ما سيسمى «المصلحة المشتركة» في أي خطوة أو في أي مرحلة للعمل
الوحدوي؛ فإذا وافقت الدول المعنية، والجمهورية التونسية، في ما يخصها على تلك
المرحلة أو على ذلك المشروع المشترك، وقع إنجازه؛ وفي حالة عدم موافقة دولة ما على
ذلك المشرع، الدولة التونسية مثلاً، فإن ذلك المشروع لن يتحقق" (ص 38).
والشيء المومأ إليه في الفقرة الأولى من الفصل الثاني للدستور
التونسي هو أن الاتحاد المغاربي، الذي يجب أن يقع تحقيقه "في نطاق المصلحة
المشتركة"، سيجد في تلك العبارة حداً ومنتهى لإنجازه؛ فالحد هو "المصلحة
المشتركة"، أي بعض المصلحة التي من شأنها أن تقنع كل دولة بأن لها
"مصلحة" في كل عمل مشترك مع البلاد أو المنتهى للعمل الجماعي، بمعنى أن
هذا الأخير، في نظر المشرع الدستوري التونسي، ليس من شأنه أن يفضي إلى تجاوز
"المصلحة المشتركة" في التعامل المغاربي، ولا أن يرقى إلى ما فوق مرحلة
"التفاعل المشترك" مثل الاندماج الكامل للدول المغاربية ضمن مجموعة
موحدة وتعلو الدول المغاربية الموجودة حالياً.
الشعب هو صاحب السيادة
يقول الفصل الثالث من دستور 1959: "الشعب التونسي هو صاحب
السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه الدستور".
هذا الفصل، على اختصاره، هو الفصل الفيصل في كامل الدستور التونسي؛
ورغم أنه لم يهتم به أي أحد من السياسيين أو المنقحين للدساتير أو حتى من الباحثين
الجامعيين، فإنه هو البداية والنهاية في فهم سر التنظيم الدستوري والسياسي التونسي
المعاصر؛ وقبل أن نقيم الدليل على ذلك في هذا التعليق، علينا أن نقدم ملاحظتين
بخصوص العبارة الأولى الواردة في الفصل الثالث والتي تقول: "إن الشعب هو صاحب
السيادة".
إن ما يلفت النظر هنا هو الإعلان على مبدأ دستوري هام متعلق بتعيين
"صاحب السيادة"؛ ففي العبارة المذكورة، الاختيار واضح ولا لبس فيه؛
فالسيادة ترجع إلى الشعب التونسي؛ وفي العبارة المذكورة، تأكيد وجزم صارم لذلك
الاختيار تعبر عنه تركيبة الجملة: "الشعب التونسي هو صاحب السيادة"؛
وهذا الإعلان وهذا التأكيد لم يأتي من باب الصدفة؛ بل إن العبارة المذكورة جاءت،
في تركيبتها اللغوية القوية، لتأكيد حدوث القطيعة مع الماضي التي حصلت يوم 25
يوليو/جويليه 1957 بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، من جهة، وللتأكيد على أن صاحب
السيادة "هو" الشعب التونسي ولا غيره، من جهة أخرى؛ ففي ذلك الإعلان
استبعاد لأية سلطة أخرى تنافس الشعب أو تتقاسم السلطة معه، كما كانت الحال عليه في
بداية فترة الاستقلال؛ كذلك.
فإن الإعلان "الشعب التونسي هو صاحب السيادة" يعني أن
النظام السياسي سيكون بالضرورة نظاماً ديمقراطياً وذلك على أساس اشتراك مجموع
المواطنين التونسيين في امتلاك السيادة، وأننا نجد انسجاماً وتناسقاً كاملين بين
هذا المبدأ الأساسي، من جهة، وبين أحكام أخرى لا تقل أهمية مثل تلك التي تتعلق بالنظام الأساسي للدولة أو
تلك التي تتعلق بممارسته السيادة في المجال التشريعي، من جهة أخرى، ففي ما يخص
النقطة الأولى، سبق لفصل الأول من الدستور أن قال إن الدولة التونسية "نظامها
الجمهورية"؛ وفي ما يخص النقطة الثانية، جاء العمل 18 من الدستور فأعلن:
"يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس النواب ومجلس المستشارين أو عن
طريق الاستفتاء".
هناك تماثل بين الفصل الثالث من الدستور التونسي لسنة 1959، والفصل
الثالث من الدستور الفرنسي لسنة 1958، ولم نقل إنه ربما كان مستوحى منه؛ فالدستور
الفرنسي لسنة 1958 يقول في الفصل الثالث: "السيادة القومية ملك للشعب الفرنسي الذي
يباشرها بواسطة نوابه وبطريق الاستفتاء" ،فالتماثل بين النصين يدل على أن هناك تقارباً كبيراً بين
النظرتين التونسية والفرنسية للسيادة ولطريقة تطبيقها وممارستها في الواقع الملموس.
هنا يجدر أن نذكر بما جاء في آخر الجملتين في الفصلين الثالث
للدستورين التونسي والفرنسي هذه العبارة الأخيرة يقول بأن مباشرة السيادة يجب أن
تكون "على الوجه الذي ضبطه
الدستور" (التونسي) أو "بواسطة نوابه وبطريق الاستفتاء" (الدستور
الفرنسي).
يقول الدكتور صادق بلعيد: "إنَّه من الواضح أن هناك اختلافاً
شكلياً في المنطوق بين الدستورين في هذه النقطة بالذات ورغم هذا، فإن رأينا هو أن الفحوى هو نفسه، إذ إن المبدأ في الدستورين هو أنَّ السيادة ملك الشعب وأن هذا الأخير يمارسها طبقاً لما جاء به الدستور".
ولكن على خلاف النظام الدستوري الفرنسي، الذي وزع الصلاحيات بصفة
متوازنة ووضع لها آليات للمراقبة ولمنع حصول التجاوزات،فإنَّ الدستور التونسي
وضع نظامًا دستوريًا غير متوازن وغير
متكافىء، بما ينزع عنه الطبيعة
الديمقراطية التي تتضمنها العبارة
"الشعب التونسي هو صاحب السيادة.." ؛ فلمن يتمعن في الدستور التونسي
تتجلى له علامات الإخلال بالتوازن بين السلط والتي نذكرها على سبيل التدليل فقط:
إن الصلاحيات التي يتميز بها رئس الجمهورية بصفة رئيس الدولة وبصفته رئيس السلطة
التنفيذية ليس لها أي وجه مقارنة مع السلط الأخرى التي أنشأها الدستور، وليس لها
أي وجه مقارنة مع الأنظمة الدستورية المؤسسة على مبدأ ملكية الشعب للسيادة، وذلك
حتى إذا نظرت إلى ما يسمى "بالأنظمة الرئاسية"؛ اضف إلى ذلك أن الدستور
التونسي لا يحتوي على هياكل وقاية ولا ردع ذات مصداقية كافية، ما يجعل منها مؤسسات
صورية فقط..
على خلاف النظام الدستوري الفرنسي، الذي وزع الصلاحيات بصفة متوازنة ووضع لها آليات للمراقبة ولمنع حصول التجاوزات،فإنَّ الدستور التونسي وضع نظامًا دستوريًا غير متوازن وغير متكافىء، بما ينزع عنه الطبيعة الديمقراطية التي تتضمنها العبارة "الشعب التونسي هو صاحب السيادة
ومن جهة ثالثة، فإن رئيس الدولة له اليد العليا على نشاط الحكومة
(الفصل 59)، وله الكلمة الأخيرة في حالة الاختلاف المتكرر بين الحكومة وهي التي ما
هي إلا آلية تنفيذ لأوامر رئيس الدولة، وبين السلطة التشريعية، رغم أنها تمثل
"صاحب السيادة"!، ومن جهة رابعة، فإن رئيس الدولة يتمتع بالحساسية
القضائية (الفصل 41) إلى جانب عدم المسؤولية السياسية المستخرج من الفصول 61 علة
68 من الدستور؛ فهو في آن واحد، صاحب السلطة الكاملة والمعفى من كل مسؤولية،
سياسية كانت، أو جدالية..
فلا جدال أن النظام الدستوري هو بالأساس نظام غير متوازن وأنه يصعب
اعتباره نظاماً ديمقراطياً؛ولكن ليس هذا فحسب؛ بل إن هناك اعتباراً آخر لا يقل
أهمية يتعين إدخاله في الحسبان إذا أردنا تصنيفاً دقيقاً للنظام الدستوري؛ فهذا
النظام ليس فقط نظاماً غير متوازن، بل وزيادة على ذلك، فإنه نظام متحجر في اختلال
توازنه، ويبرز ذلك من خلال أحكام التنقيح الخامسة بالدستور، ما جاء في الفصل 76:
"لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس النواب الحق في المطالبة بتنقيح
الدستور.." ؛ ما يهمنا في هذه المسألة الشائكة هو فقط أن حق المبادرة يرجع
بالتوازي إلى رئيس الدولة أو إلى ثلث أعضاء السلطة التشريعية؛ وفي الواقع، فمن
جملة ما يقرب 15 تنقيحاً، قامت السلطة التشريعية بخمس مبادرات (أي الثلث) في حين
أن رئيس الجمهورية قام بما يقرب من عشر مبادرات (أي الثلثين)؛ فمن الواضح أن هناك
تفوقاً واضحاً لفائدة رئيس الجمهورية على حساب أعضاء السلطة التشريعية؛ ثم إن هناك
تفوقاً فادحاً لرئيس الجمهورية إذا نظرت إلى محتوى التنقيح بالذات؛ ففي حين أن
مبادرات أعضاء السلطة التشريعية هي بالأساس شكلية وصورية، فإن التنقيحات التي
قدمها رئيس الجمهورية لهم أسس النظام الدستوري، وجميعها كانت ترمي أو أدت إلى
الزيادة في السلطة الرئاسية وتراكمها..
وهذا شيء لا غرابة فيه؛ فمن طبيعة البشر أن كل من كان بيده سلطان لا
يفكر إلا في الزيادة فيه وفي توسيعه، مع الاحتمال الكبير الذي نبه إليه المفكر
الفرنسي منتسكيو، الذي يقول: "إن كل من ملك سلطة محمول على التعسف في استعمالها" (ص45).
ففي الحالة تحت الدراسة، رئيس الجمهورية جمع سلطة مفرطة وزادت
تراكماً مع مر الأيام، ثم إن هذا الاتجاه التصاعدي لا يوجد له منتهى لما في جبلة
البشر من حب مفرط السلطان "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة واكثر
أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم" (القرآن الكريم، سورة التوبة، 9، الآية
69)، فبما أن مفتاح باب التنقيح بيده ، فلا أمل في أن يقع تحسين ميزان السلطة عن
طريقه، ولا على حسابه.
إقرأ أيضا: قراءات في الدستور التونسي لعام 1959 بعد نصف قرن من صدوره
إقرأ أيضا: الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحرية التعبير.. جدل التأسيس