كتب

أنا والقدس.. سيرة ذاتية تؤرخ لقصة فلسطين من الانتداب إلى الاحتلال

يشكل هذا العمل أحد الأعمال القليلة التي يؤرخ لها من جانب امرأة فلسطينية، ومصدرا غنيا للمكتبات العربية في إبقاء القدس حية في وجدان الأجيال الشابة.
يشكل هذا العمل أحد الأعمال القليلة التي يؤرخ لها من جانب امرأة فلسطينية، ومصدرا غنيا للمكتبات العربية في إبقاء القدس حية في وجدان الأجيال الشابة.
الكتاب: أنا والقدس... سيرة ذاتية
المؤلف: هالة خليل السكاكيني
ترجمة: هلا الشروق
الناشر : مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى، بيروت، 2019م


باتت المكتبة العربية والفلسطينية خاصة تفتقر لمؤلفات السير الذاتية، واليوميات، والمذكرات، وارتبط ذلك بالخشية من السلطة السياسية والملاحقة القانونية، حال نشرها مؤلفها على قد الحياة، فالمذكرات واليوميات والسير تكتسب أهميتها بما تضمنته من محتوى تاريخي وأحداث عميقة، رصدها المؤلف من موقعه ومكانته، كونها متعلقة بالماضي، يمكن للباحث المتخصص والقارئ أن يعيد تشكيلها وتحليلها وفهمها في سياق الحاضر ومعطياته، كما أنها تمثل شهادة وثائقية مؤرخة مختومة بخط ونبضات صاحبها، ورجفة يد المؤلف ومشاعره الجياشة، ترصد التجارب، وتوثق مراحل النضال السياسي، والعسكري، والأحوال الاقتصادية والاجتماعية، فتقرأ السير واليوميات والمذكرات، من منظور علم التاريخ، وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، والأدب والتراث، وتمكن أهمية هذه النوعية من الدراسات أنها تمثل تحديا غير مباشر لمحاولات الطمس والتشوية للوجود والهوية والذاكرة الفلسطينية الجماعية، فهي أرشيف غني بحد ذاته يجب المحافظة عليها، وإخراجها من حيز الأوراق المهملة والأدراج المغلقة.

تتناول هذه الدراسة حياة هالة خليل السكاكيني منذ طفولتها عام 1924م حتى حرب النكبة عام 1948 في مدينة القدس، وما تخللها من محطات وأحداث اجتماعية وثقافية وسياسية عاشتها الكاتبة في كنف عائلتها، ووالدها الكاتب المشهور خليل السكاكيني، في دراستها حاولت هالة إيصال صورة للقراء الأجانب كون الدراسة نشرت باللغة الإنجليزية ومن ثم ترجمت، عن التفاصيل الصغيرة للأمكنة والشوارع وحارات القدس العربية، وأجواء الحياة في مدينة القدس، وأسماء عائلاتها، ومسارحها ومدراسها، ومقاهيها وطقوسها في احتفالات المواسم والمناسبات الدينية المتنوعة خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات، حيث يشعر القارئ بأنها ترافقه في الزيارة إلى مدينة القدس، ولا يرغب أن تتوقف هالة عن سرد أحداثها، ويستمع القارئ باستحضار القدس شعوريا بسلاسة، وصناعة صور دقيقة للمدينة المقدسية بمناسباتها الدينية، مظاهرها الحضارية التي تعكس خصوصيتها الثقافية والوطنية كمدينة جامعة تؤرخ لانفتاح ثقافي واسع، ولها حضورها العربي والعالمي على مختلف الأزمنة، لتكون تلك المواصفات مطمعا لكل من داس ترابها من الأغراب، يحيكون ضد أهلها الدسائس والمؤامرات لانتهاب التاريخ والجغرافية، ومحو الوجود الإنساني الفلسطيني عن مدينة تنطق حجارتها وحاراتها بعربيتها وفلسطينيتها.

قامت هالة بزيارة مدينة القدس وحي القطمون مكان منزلها مع أختها دمية عام 1967م، فتقول: "ذهبنا إلى حينا القديم مشيا على الأقدام؛ لأننا لم نرد أن نستعمل المواصلات الإسرائيلية، كانت رحلة تأثرنا بها كثيرا؛ لأنها أثارت لدينا ذكريات حميمة "، وعن سبب وضع هذا المؤلف  تشير" بدأت تراودني فكرة كتابة مذكراتي عن أيامنا في القدس قبل كارثة 1948م، وكانت غايتي من ذلك أن أطلع الأجانب وخصوصا الإسرائيلي على حقائق كانوا يجهلونها عن الأحياء العربية فيما يسمى الآن بالقدس الغربية، وعن سكانها العرب، وعن مستوى معيشتهم، ولهذا السبب كتبت الكتاب بالإنجليزية ".

استندت هالة في سيرتها هذه إلى يومياتها التي التزمت كتابتها منذ موت والدتها سلطانة عام 1939م، لتشكل هذه الدراسة مصدرا للتعبير عن حرارة المشاعر المرتبطة بالفقدان والتمرد في تلك المرحلة من العمر، ثم تتوقف عن الكتابة ليومياتها في السنة التي توفي فيها شقيقها سري ووالدها خليل الحياة عام 1953م، تعبيرا عن حزنها وزهدها في الحياة وتعود للكتابة من جديد عام 1967م، وتضمنت النسخة العربية ملحقا خاصا بيوميات هالة في القدس زمن الحرب 1940-1942 م.

يقول سليم تماري في مقدمته: "عاشت هالة السكاكيني معظم حياتها الأدبية في الظل الطاغي/ الحامي لأبيها خليل السكاكيني، على الرغم من نموها الفكري كمعلمة وكاتبة عندما توفي والدها عام 1953م، قامت بتحرير منتخبات من مذكراته، نشرتها لاحقا تحت عنوان كذا أنا يا دنيا، وهو كتاب رفع اسم السكاكيني عاليا في أدب السير، وأعيد طباعته عدة مرات على الرغم من أن اسم هالة لم يقرن بهذا العلم"، استطاع كتاب أنا والقدس الذي بين أيدينا... أن يخبر عن صوتها الأدبي الخاص، وأن تحصل على صفة أديبة مستقلة، وعلى الرغم أسلوب السرد الحكواتي القصصي، لهذا العمل فقد نجحت المؤلفة في إنتاج مذكرات حية للحياة اليومية في القدس.

أما رناد القبج فتقول في مقدمتها: "نجحت المؤلفة في إنتاج مذكرات حية للحياة اليومية في القدس الانتدابية، نجد فيها احتفاء مبهجا بحياة الطبقة الوسطى في أحياء القدس الممتدة خارج أسوار البلدة القديمة، التي شكلت محيطا اجتماعيا للحداثة الفلسطينية المتحررة من أوضاع البلدة القديمة الاجتماعية، ويشكل هذا العمل أحد الأعمال القليلة، التي يؤرخ لها من جانب امرأة فلسطينية، ومصدرا غنيا للمكتبات العربية في إبقاء القدس حية في وجدان الأجيال الشابة المقبلة ووعيها".

هالة التي أمضت حياتها منذ عام 1948م في المنفى حيث التهجير والتشريد، فقدت الأمل أن ترى بيتها وحي القطمون مرة أخرى، إلا بعد تسعة عشر عاما، حيث زارت القدس في الرابع من تموز/ يوليو 1967م مع أختها دمية: "أخذنا نتقدم نحو حينا القطمون، شعرنا بانفعال شديد ولم نكن نطيق الانتظار لرؤية بيتنا، كان أول ما لاحظناه هنا البنايات الجديدة التي انبثقت في الأماكن التي كانت خالية... وبشيء من الارتياح رأينا بيت عائلة طليل، كما عهدناهما، وكأنهما علامتان على المكان، بعدها أتينا إلى فيلتي مرقص التوأمي،نواللتين أيضا لم تتغيرا، وبينهما لمحنا بيتنا ومن بعيد، ولا مرة شعرنا بالراحة عندما رأينا قرميد السطح مازال مكانه... من الخارج بدأ البيت سليما مكانه، وبشكل ما، بدا قاتما، كانت الجدران مغبرة، والدرج قذرا... أما شجيرات الأضاليا متعددة الألوان، فهي طبعا لم تعد هناك، كانت الحديقة جافة، وبنية اللون، ومغطاة بركام مبعثرة".

ومع دخولها لبيتها، فتحدثنا: "ألقينا نظرة إلى مكان غرفة طعامنا، كنا كأننا في حلم تمنيا لو نستطيع تمضية بعض الوقت وحدنا في البيت، كي نعيش بهدوء كل تلك الذكريات التي تدفقت على ذهننا، لكن هذا لم يكن ممكنا، كنا نخشى أن يخرج أحدهم من إحدى الغرف، ويتهمنا بانتهاك المكان، كما حدث للعديد من أصدقائنا الذين ذهبوا لزيارة بيوتهم، كنا نستطيع أن نسمع أصوات أطفال تأتي من الغرفة، التي كانت فيما مضى غرفة جلوسنا، طرقنا الباب، فظهرت سيدتان أحدهما شابة سمراء، والثانية أوروبية متقدمة في السن... حاولنا أن نشرح لها أن هذا بيتنا كنا نعيش هنا قبل عام 1948م، هذه أول مرة نراه منذ تسعة عشر عاما، بدا التأثر على السيدة الطاعنة في السن، لكنها بدأت تشرح لنا فورا أنها هي الأخرى فقدت بيتا في بولندا، وكأننا نحن شخصياً أو العرب عامة، المسؤولون عن ذلك. وجدنا أنه من غير المجدي مجادلتها!!".

نساء فلسطين

في ثلاثينيات القرن الماضي التي اتسمت بالثورات الفلسطينية ضد المحتل، كانت نساء فلسطين وسط المشهد السياسي والنضالي، ومنهن عمة هالة السكاكيني ميليا الناشطة، التي شاركت في المسيرات، والتظاهرات الاحتجاجية بحماسة شديدة وحمية وطنية، التي كانت تروي لبنات أخيها في آخر النهار تجاربها المتعددة في كثير من الأحيان، حيث المواجهات الخشنة مع البوليس البريطاني ص40، ففي أحد المشاهد التي وصفتها تقول: "في ذلك اليوم ذهبت مع عدد من النساء المقدسيات إلى السراي لتسليم عريضة احتجاج قوية للمندوب السامي شخصيا، وقع الاختيار على عدد من النساء للحديث معه، وبينهن العمة ميليا، عندما جاء دورها شرعت في إلقاء قصيدة عربية تصف العلم العربي بطريقة مؤثرة ... إذ وقف المندوب السامي وحنى رأسه، وبقي كذلك حتى أنهت القصيدة، معتقدا أنها كانت تلقي صلاة".

أما عن والدها خليل السكاكيني، فتقول: "لقد ثقف والدي نفسه بنفسه لم يذهب قط إلى الكلية، ولم يحصل على شهادة جامعية، لكنه كان كثير القراءة، كصاحب فكر حر، كان شديد الإعجاب ببرتراند راسل، وجوليان هوكسلي اللذين كانا مع ألفرد أدلر من كتّابه المفضلين... في تلك السنوات، كانت مكتبة والدي تكبر باستمرار، كان يقرأ بكثافة ونهم يشتري كل أسبوع كتبا جديدة من المكتبة العملية الفلسطينية على طريق يافا، وكان صاحب المكتبة السيد بولس سعير أحيانا يطلب كتبا من إنجلترا خصيصا له، وفي سنة 1948م صادرت إسرائيل جميع كتب والدي وأخي؛ فقد اعتبرت هذه الكتب، مثلها مثل أثاثنا والبيانو القديم وثلاجتنا وسجادنا العجمي وصورنا العائلية وألبوماتنا، كلها أملاك متروكة، فصودرت أو دمرت" ص42 .

شاهدت هالة الهجرة اليهودية عن كثب: "منذ طفولتنا كنا نشعر بحب عميق لبلدنا، وكان السبب الرئيس في هذه الروح الوطنية الطريفة التي تربينا عليها في البيت، لكنها تعود أيضا إلى الأوضاع السياسية في البلد، كان هناك دائما خطر أن تذهب فلسطين إلى أيدي اليهود، وكأطفال... تدفقت الهجرة اليهودية على فلسطين ونوقشت بقلق في البيت، ولم نكن نستطيع تجنب الشعور بخطورة المشكلة، كان من الأسباب الرئيسية للتوتر عند العرب النفاق الذي اتسمت به السياسة البريطانية في فلسطين، فمن جهة كانت سلطات الانتداب تدعي أنها تحمي حقوق السكان الأصليين في البلد، في حين كانت من جهة تساعد آلاف الغرباء على القدوم واستيطان الأرض، فشعر العرب بأنه يتم خدعاهم، وهذه السياسة المخادعة أثارت حنقهم وغضبهم" ص73.

في الإضراب الكبير عام 1936م: أغلقت المدراس أبوابها، وفرضت مقاطعة شاملة على المتاجر اليهودية، لم يستخدم أي عربي باصا يهوديا، ولم يذهب إلى سينما أو مقهى يمتلكه اليهود، بدت المناطق التجارية العربية خالية من الحياة، والشوارع شبه مهجورة ...كانت تدور حرب عصابات في أنحاء فلسطين، وقد قاتل رجالنا ببطولة وحدات الجيش البريطاني عالية التدريب والتجهيز، وسرعان ما أصبحت أسماء أبطالنا على كل لسان، وصرنا نتحدث عن مآثرهم بفخر، وقد أصبحت قرى كثيرة بعيدة ومجهولة شهيرة بسبب المعارك الشرسة الدامية التي كانت تدور حولها".

كانت أكثر المناطق سخونة واضطرابا بالنسبة لحكومة الانتداب المنطقة المحيطة بنابلس، فنهاك حدثت أشرس المعارك، وقد سمى الفلسطينيين الجبال المحيطة بنابلس منذ ذلك الحين جبال النار، وكان الجنود الإنجليز يصابون بالفزع عندما يرسلون إلى هناك، فقد سقط العديد منهم قتلى على أيدي الثوار، ونتيجة هذا الوضع، أصبح أهالي نابلس، مثلهم مثل أهالي العديد من القرى في كل أنحاء البلد، هدفا لعقوبات قاسية من الجيش البريطاني. ص75.

القطمون

في سنة 1947م شنت عصابات شتيرن والأرغون الصهيونيتان حملة إرهابية شرسة على حكومة الانتداب، وعلى المواطنين العرب في فلسطين في آن واحد، ونتيجة ذلك قسمت السلطات القدس إلى مناطق لأسباب أمنية، كان هناك مناطق أو أربع تحيط بكل منها أسلاك شائكة، وكان على الشخص الذي يريد التنقل في القدس أن يحمل بطاقة هوية مذكورا فيها اسم المنطقة التي يعيش فيها، وتصاريح للذهاب إلى المناطق الأخرى، كانت الحواجز في كل مكان يوقف عندها الجنود البريطانيون الناس، ويتفحصون هوياتهم وتصاريحهم"ص.113.

في سنة 1947م، شنت عصابات شتيرن والأرغون الصهيونيتان حملة إرهابية شرسة على حكومة الانتداب، وعلى المواطنين العرب في فلسطين في آن واحد، ونتيجة ذلك قسمت السلطات القدس إلى مناطق لأسباب أمنية.
"خلال سنوات الحرب ـ العالمية الثانية ـ التي عشناها بسلام في أوائل الأربعينيات، كان عدد من مقاهي الحدائق حول القدس ذا شعبية كبيرة، وطوال أشهر الصيف كان المقدسيون يذهبون إلى هذه المقاهي بالمئات لتمضية أمسياتهم، كانت مقاهي أفرست وبانوراما وعايدة تقع على التلال المحيطة بقربة بيت جالا جنوبي القدس"، ومن ثم تصمت هالة قليلا لتحدث القارئ حول كيفية تحول ملكية عائلة شكري أنسطاس حنانيا إلى جبل هرتسل " ي بقعة مرتفعة على الطريق الرئيسي، على بعد عدة كيلو مترات من عين كارم، كانت هناك مقهى شعبي يرتاده المقدسيون في الصيف كان يسمى الشرقية، وقبالة هذا المقهى إلى الغرب كانت ملكية آل ديب، وتمتد مسافة كبيرة من أعلى الجبل إلى عدة مصاطب على السفح، كان المشهد مهيبا، بعد حرب عام 1948م حولت هذا المكان إلى ساحات تذكارية، باسم جبل هرتسل" ص115.

سهولة الحياة في القدس

في القدس ما قبل 1948م، وقبل أن تحل إسرائيل محل فلسطين، كانت عناويننا لا تزال بسيطة، لم يكن للبيوت أرقام، ولا للشوارع أسماء، ومع ذلك كان سهلا الوصول إلى شخص ما، إما شخصيا وإما عبر البريد، وكان أبناء الحي الواحد كأنهم عائلة كبيرة واحدة، إذا حدث أن كنت آتيا من بلدة أخرى، ولم تعرف أين يسكن الشخص الذي تقصده، فكل ما عليك فعله أن تسأل عنه، وطبعا ستجد من يدلك إلى بيته. هناك قول عربي شائع ينطبق تماما على أحياء القدس "إلي بسأل ما بيتوه". أما اليوم، فالبيوت لها أرقام والشوارع لها أسماء، لكن للأسف، فإن العلاقات الإنسانية شبه معدومة، وإذا تجرأت وألقيت سؤالا على أحد المارة، فإن كل الجواب الذي تحصل عليه هو هزة كتف! ص130

الرحيل

في أحد أيام الصيف الحارة في تموز/يوليو عام 1946م، وقبل الظهر بقليل، سمعنا صوت انفجار مروعا... رأينا سحابة ضخامة من الغبار خلف الكولونية الألمانية مباشرة، وكانت عصابة صهيونية إرهابية بزي الفلاحين الفلسطينيين قد وضعت كميات هائلة من المتفجرات في عبوات الحليب في القبو، تحت الجناح الجنوبي الغربي لفندق الملك داوود، الذي كان في ذلك الوقت مقرا للعديد من الدوائر الحكومية، في ذلك الصباح كان المكان مكتظا بالمسؤولين الحكوميين والموظفين والمراجعين من المواطني،ن دمر الانفجار ثلاث طبقات، وكانت النتيجة أن دفن ما لا يقل عن تسعين شخصا تحت الأنقاض، كانت الكارثة هائلة، وكان أهالي القدس العرب في حالة صدمة، كانت هذه الأساليب الإرهابية الحديثة التي استخدمها اليهود... الطريقة الماكرة الخائنة التي استخدمتها العصابات اليهودية في ممارسة إرهابها كانت بالنسبة إلينا طريقة جبانة ومقيتة... طوال الأسبوع الذي تلا الانفجار كانت القدس ميدانا للعديد من الجنائز، في كل يوم كان هناك على الأقل خمس جنائز أو ست. ص134.

في القدس ما قبل 1948م، وقبل أن تحل إسرائيل محل فلسطين، كانت عناويننا لا تزال بسيطة، لم يكن للبيوت أرقام، ولا للشوارع أسماء، ومع ذلك كان سهلا الوصول إلى شخص ما، إما شخصيا وإما عبر البريد، وكان أبناء الحي الواحد كأنهم عائلة كبيرة واحدة.
في تلك السنوات، كانت هجمات العصابات الإرهابية الصهيونية على قوات الجيش البريطاني والمدنيين أمرا متكررا، وقد وجدنا نحن العرب سلوك اليهود هذا غريبا، ولم نستطع أن نجد تفسيرا له. لقد اعتبرناه نكرانا فاضحا للجميل، فمن غير الإنجليزي فتح أبواب فلسطين على وسعها للهجرة اليهودية!! من غير الإنجليزي فرض الضرائب الباهظة على الفلاحين الفقراء وجردهم من أرضهم؟ من غير حكومة الانتداب استولى على الأرض قطعة قطعة وسلمها للمستوطنين الجدد؟ كان لدى اليهود جميع الأسباب ليكونوا شاكرين الإنجليز، لكن هاهم يقاتلونهم وكأنهم عدوهم الآن. ص136.

"في 14 نيسان/أريل عام 1948م منذ يومين ونحن ننام في شقة بالطبقة الأرضية؛ لأنها نعتقد أنها أكثر أمانا على الأقل تجاه قذائف المدفعية، والدي ينام في سرير سري والعمة ميليا على الأريكية وأنا على الأرض في المكتبة... عندما سمعنا أصوات انفجارات قوية، ميزنا فورا أنها قذائف مدفعية، وعندما سألنا القنصل العراقي عبر الهاتف أخبرنا أن قذيفة سقطت في حديقة جارنا، السيد سلحيت، وثلاث قذائف سقطت حول القنصلية، أسرعنا النزول إلى الطبقة الأرضية." ص147.

مذبحة دير ياسين

تقول هالة: "بدأنا نفكر جديا في مغادرة القدس، بلغتنا قصص فظيعة من شهود عيان هربوا من تلك المجزرة التي لا تصدق، لم أكن أعتقد أن اليهود، أن يكونوا بهذه القسوة والبربرية والوحشية النساء الحوامل والأطفال عذبوا حتى الموت، والفتيات الشابات تم تجريدهن من ملابسهن وإهانتهن وأخذن إلى الأحياء اليهودية لتبصق عليهن الجموع اليهود  المتحضرون، لا يشعرون بالخجل من جريمتهم على الإطلاق" ص148.

بدأ الهجوم على القطمون في 24 نيسان 1948م، الساعة العاشرة والنصف" في منتصف الليل، أيقظتنا أصوات إطلاق نار أعنف من المعتاد، أدركنا فورا أن ذلك كان هجوما يهوديا على القطمون، ارتدينا ملابسنا وجهزنا أنفسنا للذهاب إلى القنصلية العراقية إذا حدث الأسوأ، أما الهجوم الأعنف، فكان في 30 نيسان/ أبريل عام 1948م، كنا جميعا في شقة سري عندما بدأ هجوم القطمون... كان أعنف مما سبق كان إطلاق النار عنيفا ومتواصلا وقريبا، بحيث ظننا أن اليهود وصلوا إلى شارعنا كل واحد منا يشعر بأننا سنكون جميعا أمواتنا قبل الصباح... فقد جاء اليهود بأعداد كبيرة وهم يحاولون أن يطوقوا القطمون ويحاصروه، وقد قتل حتى الآن خمسة عشر من مقاتلينا وأصيب ثلاثون آخرون. ص151.

"اتصلنا هاتفيا بجميع مستشفيات المدينة نطلب سيارات إسعاف للتنقل، استمر إطلاق النار بلا توقف اعتقدنا أننا لن نستطيع أبدا أن نغادر القطمون، لكن لدهشتنا وصل عبد بسيارة مدرستنا، وبدأنا فورا بوضع حقائبنا في السيارة إذا لم يكن لدينا أي وقت لنضيعه، بينما كنا نقف حول السيارة آت رصاصة فوق رؤوسنا، فأنجينا بصورة عفوية، ومن القدس إلى الخليل إلى القاهرة في رحلة تشريد استغرقت ثلاث عشرة ساعة، وفي القاهرة 2 أيار / مايو 1948م سمعنا الإذاعة من القدس أن القتال في القطمون استمر بلا انقطاع ثماني وأربعين ساعة، عندما عقد الجيش البريطاني هدنة بموافقة الطرفين، لكن قبل انتهاء فترة الهدنة أتت الأخبار أن اليهود قد احتلوا القطمون كله. ص 154.

أخيرا، هذا الكتاب يعد إضافة للمكتبة الفلسطينية والإنسانية به مضامين غارقة في الخصوصية والحياة الشخصية من جانب، سردت هالة أحداثا سياسة واجتماعية عامة تغطي أجزاء من التاريخ الفلسطيني بحقبه المتعددة، ولا سيما تركيزها على مدينة القدس، من جانب آخر إذ يشكل هذا العمل أحد الأعمال القليلة التي يؤرخ لها من جانب امرأة فلسطينية، ومصدرا غنيا للمكتبات العربية في إبقاء القدس حية في وجدان الأجيال الشابة المقبلة ووعيها، وهذه السيرة الحية توضح مدى التطور الذي كانت عليه فلسطين، سواء على المستوى التعليمي أو الصحي والفن والرياضة.
التعليقات (0)