كان
للكثير من الناس الحظ في الاطلاع على
ثقافة الأندلس، وانتهى بهم المطاف معجبين مُتيمين
بها، وما زال هناك من يتلذذ بأدبها، وكأنه المحطة الأعظم للثقافة العربية، أو يرى شعرها
وكأنه عروس الشعر العربي.
وكانت
كثرة أغراض الشعر الأندلسي وتنوّعها سببا في جذب معظم الأذواق نحوها، والبيئة الأندلسية
الحاضرة بقوة في الشعر، جعلته يبدو شعرا أنيقا وملوّنا، فيه من الحيوية ما فيه، وفيه
من البريق ما يذهل قارئه.
ومن
أشد المعجبين بالأدب الأندلسي وشعره، شاعر من الأندلس وإليها، وهو الكاتب والشاعر الإسباني
أنطونيو غالا، والذي لُقب بـ (عاشق الأندلس).
أنطونيو
غالا
هو أديب
إسباني معاصر، ولد في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 1930، في إحدى قرى إقليم أندلوثيا
بمدينة سويداد ريال في إسبانيا، نشأ وترعرع في مدينة قرطبة "حاضرة الأندلس"،
وكان لها مكانة خاصة في قلبه، فقال: "كانت حياتي ستختلف جدا لو لم تتفتح وتزدهر
في قرطبة، أو لو لم تحتفظ قرطبة بهذه الأعجوبة، وكأنها كنز حقيقي"، وفي قصيدة
له بعنوان "قرطبة" قال: "أن أبعث وأراك.. يا مدينة مولدي الجميل"،
درس الآداب والحقوق، والاقتصاد والعلوم السياسية، كان له مشاركات قيّمة في مختلف الأجناس
الأدبية، فكتب في الشعر وله دواوين عدة منها: "العدو الحميم"، و"وصية
أندلسية"، كما كتب في المسرح، وتعدّ "خاتمان من أجل سيدة" من أشهر مسرحياته،
ونال جائزة "كالديرون دي لا باركا" في المسرح عام 1963، وكتب غالا أيضا في
القصة والرواية، وأول رواية له بعنوان "المخطوط القرمزي"، والتي نال عنها
جائزة "بلانيتا"، تحدثت الرواية عن الأيام الأخيرة للإسلام على أرض غرناطة،
في حكم أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك بني النصر، وله روايات أخرى كـ"العشق التركي"
و"وراء البستان".
وكانت
شخصيته كشاعر تظهر حتى في فنونه الأدبية الأخرى غير الشعر، فهو يَعتبر أن الحقيقة الجوهرية
للأشياء تعرف عن طريق الشعر، ففي لحظة وعي منه أو لا وعي يظهر شعره في رواياته ومسرحياته،
فالكثير من الحوارات المسرحية التي يكتبها لا كسر في الوزن فيها ولا تنقصها القافية،
يقول غالا: "عند الكتابة أنا لا أختار الشكل، فكل لحظة من لحظات الكتابة عندي
تقرر الشكل النهائي للعمل، والكاتب يتمتع بهذه الصفة، لأن له موهبة الاستقبال وموهبة
الإدراك، وهي التي تحركه".
تأثير
الأندلس في أنطونيو غالا
كان
التراث الأندلسي القديم المؤثر الأول في غالا، كما كانت الأندلس الملهم الأكبر له والذي
انعكس بشكل واضح على كتاباته، كما يعتبر نفسه أندلسيا ينتمي لهذا الفن وجزء منه، أو
امتداد له فيقول: "أنا أندلسي أحمل اسم بني أمية في روحي، واسم بني نصر حكام غرناطة
في قلبي، وأهيم حبا بتاريخ الأندلس وثقافتها وحضارتها".
وحين
كان يذكر إسبانيا فهو لم يعزلها أبدا عن تاريخها العربي أو الحكم الإسلامي فيها، كما
يفعل بعض الأدباء الإسبان اليوم، بل إنه يرى بأن التاريخ العربي في الأندلس له أثر
كبير في تشكيل صورة مشرقة للأندلس، تجعله يحبها ويبحث فيها وينتمي إليها، فيقول:
"إن كل الأشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية،
وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الاعتباط، فالعرب أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية
قرون".
اظهار أخبار متعلقة
كما
يرى بأن الأندلس هي جزء من الحضارة العربية، وأن محاولات الإسبان لإخراج العرب والمسلمين
منها هي عبارة عن حرب بين الإنسان ونفسه، كما يرى أنه لا يمكن فهم إسبانيا بمعزل عن
الإسلام، ودون النظر إليها بعيون الإسلام.
حتى
العمارة الإسلامية كان لها مكانة خاصة في قلبه، فقال: "ولو كان لي أن أشير إلى
أكثر المعالم تأثيرا في نفسي لاخترت –بلا ريب- هذا المسجد الجامع".
ويرى أن اللغة الإسبانية بشكل أو بآخر فهي مرتبطة باللغة العربية، وأن الإسبانية في الواقع
لغتان، الأولى لاتينية والأخرى عربية.
كما
يظهر تأثره بالشعر الأندلسي بطريقة كتابته، وانسيابية كلماته، وسهولة لغته مع بلاغتها،
وحتى معجمه اللغوي فهو معجم أندلسي، فالطابع الأندلسي كان قويا بداخله، وصريحا بما
كتب.
عُرف
غالا بأدبه الملتزم، وشجاعته الأدبية التي مكنته من تناول العديد من المواضيع الحساسة
تاريخيا وسياسيا في كتاباته، مثل تحدثه عن أمور تاريخية متعلقة بشبه الجزيرة الإيبيرية،
وعن الحكم الإسلامي بالأندلس، وتأثير الثقافة العربية في خلق إسبانيا.
إضافة
إلى أن إسبانيا اليوم هي مزيج من الحضارات التي تعاقبت عليها، إلا أنها لم تشهد حضارة
بثراء وتألق وبريق الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس.
وصل
العرب إلى إسبانيا بالعطر الشرقي
كان
أنطونيو غالا مدركا لحقيقة أن العرب نهضوا بإسبانيا، وساعدوا على نشر العلم والأدب
والحكمة والموسيقى فيها، وكان واعيا إلى أن ما تفخر به إسبانيا اليوم، هو امتداد لما
قدمته الحضارة العربية لإسبانيا في وقت من الأوقات، يقول غالا ضمن استجواب كان قد أدلى
به لجريدة "لا خورنادا" المكسيكية: "إن الذي حدث في إسبانيا ليس اكتشافا
أو غزوا مثلما هو عليه الشأن في أمريكا، فالذي حدث هنا كان تجليا ثقافيا واضحا، إنه
شيء يشبه الانبهار الذي يبعث على الإعجاب الذي يغشى المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب
والأمازيغ إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي العبق الفوّاح، الذي كانت
الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين الذين قدِموا من لبنان".
وأضاف أن "العرب والأمازيغ لم يدخلوا شبه الجزيرة الإيبيرية بواسطة الحصان وحسب،
بل إنهم دخلوا مستنيرين، مكتشفين، ناشرين لأضواء المعرفة، وشعاع العلم، والحكمة، والأنغام،
وبهذا المعنى كان دخولهم إليها اكتشافا ثقافيا خالصا".
رحل
الكاتب والشاعر أنطونيو غالا، بعد عمر ناهز الـ92 عاما، وترك خلفه إرثا ثقافيا وأدبيا
خالصا، له صداه القوي الذي يتردد في أروقة المكتبات الإسبانية.