في القصة
المشهورة التي رواها ابن الجوزيِّ في كتابه بِرُّ الوالدين:
جاء رجلٌ إلى عمر
بن الخطاب يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنَّبه على عقوقه لأبيه، ونسيانه
لحقوقه.
فقال الولد: يا
أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟
قال: بلى.. قال:
فما هي؟
فقال عمر: أن
ينتقي له أمّاً لا يُعيَّر بها، ويحسن تسميته، ويعلمه القرآن.
فقال الولد: يا
أمير المؤمنين إنّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، فأما أمي فكانت خادمة لمجوسي فأنا
أُعيّر بها، وقد سمّاني جُعلاً -خنفساء- ولم يعلمني من القرآن حرفاً واحدا!
فالتفتَ عمر إلى
الأب وقال له: جئتَ تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأتَ إليه قبل أن
يُسيء إليك..
أول ما نسمع كلمة
"عقوق" تنصرف العقول مباشرة إلى عقوق
الأبناء للآباء، إلا أن حديثنا
اليوم عن نوع ليس بمشهور عن العقوق وهو عقوق
الآباء للأبناء.
أولاً:
دوافع عقوق الآباء لأولادهم
من المهم لكي نصل
للعلاج الصحيح أن نُشخّص المرض بشكل صحيح ودقيق، ودعنا نحاول الإجابة على سؤال: ما
الذي يدفع الآباء لعقوق أولادهم؟ وأحسب أن لهذه الظاهرة أسبابا:
1-
الجهل بالحقوق الشرعية للأبناء: فللأبناء حقوق وواجبات وهبها الشارع
الحنيف لهم، ولا بد لولي الأمر أن يعرفها بشكل صحيح حتى يؤديها ويُوفّي بها، وإلا
كان التقصير وعدم القيام بها خللا كبيرا يؤدي للوقوع في العقوق. قال صلى الله عليه
وسلم: "والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها
وولده، وهي مسئولة عنهم".
2- التخلي عن الدور التربوي: وما
أبشعها من جريمة عندما يتخلى الآباء والأمهات عن دورهم الأساسي بالأخذ بيد أولادهم
للخير والطاعة ولكل ما فيه فائدة لهم، حتماً سنرى عقوقاً ووقتها البداية ستكون من
قِبلهم لا من قِبل أولادهم، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ".
3- المتطلبات
الأُسرية المتلاحقة: مع تدني المستوى الاقتصادي للأسرة يلجأ
الآباء والأمهات للعمل ساعات أطول وربما لسفر سنوات طوال لتوفير متطلبات أولادهم المادية؛
فطال الغياب وغاب الحنان والدفء والحوار، ووسط هذا الضجيج يكون نسيان الحاجة الإيمانية
والمعنوية للأبناء، فلا توريث لقيمة ولا سلوك طيّب فيكون الانحراف أقرب.
كيف
نبرّ بأولادنا؟
وهذه بعض الأفكار
والخطوات يكون بها بر الآباء لأولاهم:
أولاً: الدعاء
للأبناء: وقد ورد الكثير من هذا، فسلاح المؤمن الدعاء يستقوي به على كل ما يتمناه ويريده: "رَبَّنَا
هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ
إِمَاماً".
ثانياً: الأم
الصالحة: هي بداية الطريق وأساسه والنبي -صلى الله عليه وسلم- يوضع الفكرة التي نريدها: "تخيَّروا
لنُطَفِكُم، فانكِحوا الأكفاء وأنكِحوا إليهم".
ثالثاً: كن أمامي: وأجمل
ما قيل هنا: "إذا كنت تريد أن تكون إمامي فكن أمامي". وقد علم الفاروق
عمر بن الخطاب خطورة وأهمية القدوة، وكان عمر رضي الله عنه يحث العلماء وأهل الفُتيا
على أن يكونوا قدوة للناس بأعمالهم قبل أقوالهم، فقد رأى ذات يوم على طلحة بن عبيد
الله -رضي الله عنه- ثوباً مصبوغاً وهو محرم، فقال: ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة؟
فقال طلحة: يا أمير المؤمنين، إنما هو مدر، فقال عمر: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي
بكم الناس، فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال: إن طلحة بن عبيد الله قد كان
يلبس الثياب المصبغة في الإحرام، وهي وصية الإمام الشافعي أبا عبد الصمد مؤدِّب
أولاد الرشيد، فقال له: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين
إصلاحك نفسَك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسَن عندَهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم
ما تركتَه".
رابعاً: بيان قبل
عقاب: لا بد من إيضاح الطريق قبل طلب المسير، فكيف لتكليف يُطلب قبل البيان؟ لا بد أن
نزوّد الأبناء بالمعرفة، وإلا كيف البر إن لم يكون على هدى ونور وعلم ومعرفة؟!