لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب
أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار
عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب
القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار،
ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد
السياسي في المنطقة العربية.
ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة
التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال
التاريخي بين
التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين
والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على
هامش هذا السجال.
وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات
الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية،
ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم
يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع
السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر
صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.
"عربي21"، تفتح ملف القومية
العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها،
وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف
الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية،
وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.
يواصل الكاتب والإعلامي
الجزائري حسان زهار في ورقته الخاصة لـ
"عربي21"، عرض تاريخ التيار القومي في الجزائر، ويرصد اليوم رموز الفكر
القومي في الجزائر وأطروحاتهم..
العروبة في مواجهة الاستعمار الفرنسي
يعتقد الدكتور مصطفى نويصر، الباحث الجزائري في التاريخ المعاصر، أن
جذور الفكرة القومية الحديثة في الجزائر، واستنادا إلى العديد من المؤرخين، تعود إلى سنة 1830 مع بداية الغزو الفرنسي للجزائر، وبداية المقاومة الجزائرية لهذا
الغزو، حيث يرى الكثير من هؤلاء المؤرخين وعلى رأسهم المؤرخ الجزائري الكبير أبو
القاسم سعد الله، أن الأمير عبد القادر هو رائد الفكرة القومية الحديثة في
الجزائر، وقد وافقه الكثير من المؤرخين الكبار الآخرين في هذا الرأي من أمثال
المؤرخ العراقي الكبير محمد مظفر الأدهمي والمفكر اللبناني كلوفيس مقصود وعادل
الصلح وغيرهم.
ويرى أن الفكرة القومية في الجزائر ثم في المغرب العربي أخذت بعدا
إسلاميا على أساس أن المواجهة مع الآخر، الذي هو الأوربي المسيحي الرومي الكافر،
هي مواجهة مغطاة بالدين الإسلامي، وقد استمرت الفكرة مع ميلاد الحركة الوطنية
الجزائرية بمختلف توجهاتها، وخاصة في اتجاهيها الكبيرين الإصلاحي والاستقلالي،
والذي مثل اتجاهه الإصلاحي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بزعامة الشيخ بن
باديس، والاتجاه الوطني الثوري الاستقلالي بقيادة الزعيم التاريخي مصالي الحاج،
أين تبنى كلا الزعيمين المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومصالي الحاج، الفكرة
القومية العربية المعاصرة، بل إن الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي يعد أبو النهضة
الحديثة ورائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، قد كتب الكثير في هذا الموضوع بالذات،
ولعل من أهم ما كتبه مقالة في مجلة الشهاب تحت عنوان :"محمد رسول الله رجل
القومية العربية"، كما كتب مقالين أو ثلاث مقالات في ذات المجلة عن العرب في
القرآن، و عن الوحدة العربية وغيرها.
مصطفى نويصر.. جامعي جزائري
ومن الرموز الأخرى التي أكد عليها الدكتور مصطفى نويصر في حديثه لـ
"عربي21"،
والتي يمكن إدراجها في بدايات ظهور الفكرة الأولى، الشيخ إبراهيم حمدي أبو اليقظان
الذي يعد أحد رواد الفكرة القومية الحديثة والذي نشر الكثير من المقالات عن
القومية العربية وعن الوحدة العربية، في جرائده الثمانية التي أصدرها في ثلاثينات
وأربعينات القرن الماضي، إلى جانب بصمات المفكر الجزائري الكبير عبد الله شريط
الذي كتب سلسلة مقالات في جريدة الصباح التونسية في مطلع الخمسينات وتحديدا في عام
1951، تحت عنوان "القومية العربية بين الفكر والواقع".
ويؤكد الدكتور نويصر تبعا لذلك، أن الفكرة القومية العربية المعاصرة
لم تكن غريبة جدا عن الحركة الوطنية الجزائرية التي تبنت هذا البعد القومي العربي
وقد تمثل ذلك في نهاية المطاف في بيان الثورة الجزائرية المجيدة في الفاتح من
نوفمبر 1954، الذي اعتبر الجزائر جزء من العالم العربي الإسلامي وأن تحرير الجزائر
ثم تحرير شمال إفريقيا ضمن لا يكون إلا ضمن الاطار العربي الإسلامي، وبالتالي
فهنالك تزاوج أو تداخل بين الفكرتين الوطنية والقومية في الجزائر منذ بداية
الاحتلال الفرنسي إلى غاية الاستقلال.
ابن باديس سبق ميشيل عفلق
ويذهب الدكتور مصطفى نويصر إلى أبعد من ذلك، بالقول إن الشيخ عبد
الحميد بن باديس عندما كتب مقالته الشهيرة عام 1938 "محمد رجل القومية
العربية" كان بذلك قد سبق ميشيل عفلق في محاضرته الشهيرة التي ألقاها سنة
1943 بعنوان "ذكرى الرسول العربي الكريم " أين اعتبر فيها الإسلام هو
أساس النضال القومي العربي المعاصر، ولولا الإسلام لما كان العرب، حيث أن الإسلام
هو من حول العرب إلى أمة، وبالتالي فالحركة القومية في الخمسينات تحولت إلى حركة
تحرر لمحاربة الاستعمار بكافة أشكاله ومحاربة الصهيونية العالمية التي أصبحت هي
الأداة الرئيسية للاستعمار لبلادنا العربية .
ولذلك ينافح الدكتور نويصر على فكرة عدم التضاد بين الإسلام وبين
الفكرة القومية العربية، منوها إلى أن هنالك أفكار أو أحكام خاطئة في قضية القومية
في الجزائر تحديدا، كما أن التيار القومي العربي في المشرق في بداياته لم يكن ضد
السلطنة العثمانية كما يقول البعض، وإنما جاءت مواقفه المناوئة كردة فعل على
سياسة
"التتريك" التي انتهجها العلمانيون الأتراك الذين استولوا على السلطة
عام 1908 وانقلبوا على السلطان عبد الحميد الثاني. كما أن الثقافة في المشرق
العربي تحمل طابعا تعدديا من حيث التنوع الديني (مسيحيين ومسلمين) أو التعدد
الطائفي والمذهبي ، وبالتالي كان تبني الأيديولوجية الدينية لأي حزب قد يؤدي إلى متاهة طائفية لهذا تبنى البعث القومية العربية بعلمانية ليست معادية للدين على
الإطلاق.
معركة استرجاع "العروبة" المستلبة بعد الاستقلال
ويشرح الدكتور مصطفى نويصر حال الفكرة القومية في الجزائر بعد
الاستقلال عام 1962، مذكرا بحقيقة أن
الجزائر لديها خصوصية فريدة عن باقي الدول العربية التي عرفت الاستعمار أو
الانتداب، حيث كانت الجزائر تعد مستوطنة فرنسية بامتياز بسبب تعرضها لاستعمار
استيطاني شرس طيلة قرن و32 سنة كاملة، حاولت خلالها فرنسا الاستعمارية اجتثاث
الهوية الجزائرية في بعدها العربي والإسلامي وفي مقدمتها اللغة العربية، وبالتالي
رأينا كيف انبرى في سنوات الاستقلال الأولى كل الجزائريين تقريبا للدفاع وإعادة
الاعتبار لهذه الهوية وفي القلب منها كانت قضية استرجاع اللغة العربية التي تعرضت
لعمليات طمس شاملة وواسعة وخطيرة، وقد ظهر عدد كبير من الجزائريين وخاصة منهم
الطلبة الجزائريين الذين كانوا يدرسون في جامعات المشرق العربي في مصر والعراق
وسوريا والأردن وحتى في تونس وليبيا، للدفاع عن اللغة العربية والبعد العربي
للجزائر، وشرع الكثيرون بداية من عام 1963 في الكتابة والدفاع عن العروبة والقومية
العربية والوحدة العربية ووحدة المغرب العربي التي كانت جزء مهم جدا من استراتيجية
العروبيين الجزائريين، وقد كان المنبر الرئيس الذي كان ينشط من خلاله هؤلاء هو
جريدة الشعب الحكومية الجزائرية، وكان من أبرز تلك الأسماء نور مروش الذي كان
مديرا لمجلة لمجاهد إلى غاية 1965، والكاتب الكبير محمد الميلي الذي كتب في عام
1963 مقالا رد فيه على أطروحات مصطفى الأشرف الذي يدعو للكتابة بالعامية، وعلى
كاتب ياسين الذي انبرى للدفاع عن الأمازيغية، وبرز كذلك المؤرخ الكبير أبو القاسم
سعد الله بعد عودته مباشرة من الدراسة في أمريكا سنة 1965، حيث ألقى وقتها محاضرة
هامة أحدثت لغطا كبيرا جدا في تلك الفترة تحت عنوان "الجزائر والقومية
العربية"، إضافة إلى الدكتور عثمان سعدي رحمه الله والدكتور عبد المالك مرتاض
والأخضر السائحي الصغير بالإضافة إلى أحد الرواد الأوائل محمد علي غزالي الذي كتب
بدوره كثيرا عن العروبة والوحدة العربية والقومية العربية ، بالإضافة إلى الشيخ
العلامة محمد الصغير بلعلام، وهؤلاء في معظمهم كانوا طلبة في المشرق العربي أين
احتكوا هنالك بالحركة القومية العربية التي كانت تمثل رمزية النضال العربي
المعاصر، سواء كانوا حركة القومين العرب أو الحركة الناصرية إو غيرها.
بن بلة.. بومدين وجبهة التحرير الوطني
ويشير الدكتور نويصر في هذا الصدد، إلى أن التيار القومي العربي في
الجزائر بشقيه الوطني والعروبي ، الذي عرف عصره الذهبي في فترة حكم كل من الرئيسين
بن بلة وهواري بومدين، قبل أن يعرف حالة من النكوص والتراجع بداية من عام 1976، قد
وجد منبره السياسي بعد سنوت الاستقلال الأولى في حزب جبهة التحرير الوطني، لأن
السلطة السياسية الجزائرية بعد الاستقلال تبنت نظام الحزب الواحد، وقامت بتحويل
جبهة التحرير الوطني إلى حزب طلائعي، أين ناضل خلالها الغالبية الساحقة من الرموز
العروبية في الجزائر في صفوف جبهة التحرير الوطني كحزب حاكم واحد إلى غاية
التعددية السياسية والحزبية سنة 1988، على الرغم من أن هؤلاء المناضلين العروبيين،
قد حاولوا طوال تلك الفترة من زمن حكم الحزب الواحد أن يشتغلوا ضمن أطر أخرى من
خلال الجمعيات والنوادي الفكرية، أين كان أبرز منبر ناضل من خلاله التيار العروبي
في الجزائر المستقلة، هو تأسيسه في عام 1964 ل "نادي الفكر العربي"
والذي انتخب رئيسه المفكر القومي الكبير عبد الله ركيبي، وكان من بين أعضائه
الأستاذ عبد الله عثامنية وغيره ، كما حاول تيار آخر من الشباب القومي في الجزائر
في نفس الفترة تقريبا، تأسيس رابطة أخرى أسموها "الرابطة الجزائرية للثقافة
القومية" وكان في طليعتهم الدكتور علي بن محمد ومحمد الأخضر بلعيد وغيرهما .
اقرأ أيضا: القومية العربية في الجزائر.. في ثوب الوطنية.. محطات تاريخية