من علامات الجدب في تاريخ الأفكار السياسة، الإسرافُ في تحميل وزر الديكتاتوريات والتوتاليتاريات الحديثة لسلسلة تبدأ من نيكولو مكيافيللي 1469-1527 في عصر النهضة الإيطالية، وتتألق مع توماس هوبز في عصر الحرب الأهلية الإنكليزية في القرن السابع عشر، ومن ثم جان جاك روسو قبيل الثورة الفرنسية، وغيورغ فيلهلم هيغل إبان هذه الثورة والحروب النابليونية، وفي إثره كارل ماركس في زمن ظهور الحركة العمالية.
والجدب، من حيث اللغة عند العرب هو نقيض الخصب. وعلامات الجدب المشار إليها هنا قد تشمل الافتئات على واحد من هذه الأسماء الآنفة التسلسل، والتشنيع على صاحبها بأنه عمد إلى تسويغ وتجميل لعبة الشرّ وتهديم جدوى طلب الفضيلة والمناقب في السياسة، ومن ثم إفقاد السياسة لضوابطها الأخلاقية وضمانات توازنها ورويتها.
وقد يكون ماركس، بعكس الشائع، هو فعليا الأقل عرضة لهذا الافتئات الصريح من سواه في هذه السلسلة. مع أنه الوحيد الذي يمكن أن يُربَط بأيديولوجيا سياسية – تعبوية، هي التي تنسّبت تحديدا إلى اسمه. وهذا لم يحصل لا لمكيافيللي مستشار جمهورية مدينته فلورنسا، ثم المنعزل «في وحدته» – إذا ما استعدنا عنوان مقال للوي ألتوسير – ولا لبقية السلسلة هذه.
ويعلّل هذا الاستثناء النسبي لماركس، في جزء منه، إلى أن «تعطيل» فكر ماركس اتخذ مسارا آخر، وهو أن يرى كل واحد في ماركس ما يريد، فالأولوية تتصل بصياغة تخريجات مختلفة من المناقضة بين فكر ماركس والأيديولوجيا التي تحمل اسمه، بتحويل نص ماركس إلى «حقل تأويلي مستدام» جرى العمل على تفكيك الصواعق في فكره. في المقابل، اقتضت الهجمات على أقطاب السلسلة التي تبدأ من مكيافيللي وهوبز أن تكون ضارية، بمضبطة اتهامية حرفية.
فالهجمة الضارية استهدفت بالأحرى من تعامل معهم كل من الفكرين المحافظ والليبرالي على أنهم «الشياطين الحقيقيون» للفلسفة السياسية الحديثة، أي مكيافيللي وهوبز وروسو وهيغل.
خذ مثلا روسو. بعد سنوات ضئيلة على قدوم الأيديولوجي النازي ألفرد روزنبرغ إلى باريس المحتلة، لإلقاء محاضرة في المتعاونين مع ألمانيا الهتلرية فيها، وتحت شعار تصفية الحساب مع أفكار روسو وثورة 1789، وإنباء الفرنسيين بأن الاحتلال الألماني جاء يحرّرهم من لوثة «العقد الاجتماعي» الاصطناعي، المُبطل للعقد الطبيعي الذي تصنعه البيولوجيا العرقية، وبأن فلسفة العقد الاجتماعي هي المسؤولة عن هزيمتهم في الحرب، جاء دور الهجمة من المكان الآخر تماما على روسو، من جاكوب تالمون وحنة أرنت وايزايا برلين، بحيث جرى تحميله وزر التوتاليتارية، من خلال مفهومه عن الإرادة العامة للمجتمع المستبيحة لحرية الفرد.
لا يعني هذا أنه بالمتسع إهمال الجوانب الحيوية والخلاقة في فكر حنة أرنت أو إيزايا برلين، ولا قراءتهما بالنفسية الاختزالية إياها، إلا أنّ الافتئات على روسو عندهما، هو من علامات الجدب المقترنة بالحاجة الأيديولوجية للانخراط في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية العالمية، بعد قليل على انهزام النازية والفاشية.
لكنّ التشنيع على هذه السلسلة لم ينتظر «اكتمالها» ونعني بالاكتمال هنا الوصول، في مرحلة ماركس إلى اللحظة التي ما عاد من الممكن لتراث
الفلسفة السياسية أن يتحرك فيه من دون التفكير في نمط ووجهة علاقته مع الأيديولوجيا. قبل ذلك بكثير، بدأ هذا التشنيع، من خلال شيطنة مكيافيللي، شيطنة هذه اللحظة المتوهجة في تاريخ الفكر الأوروبي، التي تخطت «أدب نصح» الأمراء من قبل، نصحهم بأن عليهم أن يتحكموا بأهوائهم ليتحكموا بأهواء العباد، وانتقلت إلى «نصح» من نوع جديد، وهو أن تحكم الأمير بغضبه ليس هو مربط الخيل، وإنما قدرته على المزاوجة بين صفته كأسد وصفته كثعلب، وفي الوقت نفسه التأسيس لفهم النزاع الاجتماعي على أنه القاعدة لا الاستثناء في حياة البشر، وأن نزوع من يمسك بالزمام مناقض في أساسه لنزوع رعاياه. في الوقت نفسه، لا يشطب فكر مكيافيللي، وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار كتاب جون بوكوك في سبعينيات القرن الماضي «اللحظة المكيافيللية» تراث الفضيلة الجمهورية المدنية الرومانية في العصر القديم، وإنما يبحث عن شروط إعادة الاستفادة منه في لحظة تاريخية مختلفة، في مطلع العصور الحديثة.
لقد ساهم كل من مكيافيللي وهوبز في تحرير السياسة من الارتهان للمنظار الأخلاقوي، وهو ما يؤسس في الوقت نفسه لتحرير الأخلاق نفسها من التحول إلى بازار سياسي. مساهمة مكيافيللية تمثلت بإدراك الطابع المؤقت لأي نسق سياسي، وأن أقصى ما يمكن فعله هو «المناسبة» بين الطارئ والداهم وغير المتوقع، وبين ما باليد من أدوات ومن مكنة. في المقابل، تمثل إسهام توماس هوبز في القطع مع مقولة الإنسان مدني بالطبع، التي نجدها من أرسطو حتى ابن خلدون، والاعتبار بعكس ذلك تماما، أن الإنسان متروك لطبعه غير مدني بتاتا، ليس لأنه شرير في مقصده، بل لأنه في حال الطبيعة ليست له مقاصد غائية، بل آليات محكومة بحفظ النفس، لكن هذه الآليات نفسها سوف تقود البشر في حال الطبيعة المتوحش والمتخيل هذا، إلى التصادم بعضهم مع بعض، بما أن كل واحد سيتبنى فكرة عن الخير متوترة بإزاء فكر الآخر عن الخير.
وربما يكون هوبز يعنينا في المجال العربي أكثر من باقي أقطاب السلسلة الخلاقة في تاريخ الفلسفة السياسية الغربية الحديثة هذه. لكن الرائج بصدده اختزاله في صورة من يسوغ الاستبداد والحكم المطلق، في عدم قدرة على فهم اختلاف المنظار من قرن إلى قرن. فهوبز، صحيح، حصر العقد الاجتماعي بتوكيل الناس لصاحب السيادة بحرياتهم في مقابل أن تصير لهم حقوق. ما كان يرى المناقلة إلا على هذا النحو. حريات أقل لنيل حقوق مؤطرة وممأسسة بشكل أفضل. وهذا يختلف بالتحديد عن أنماط الاستبداد التي تحارب الحقوق أكثر مما تحارب مفهوم الحرية نفسه. لا بل إن الاستبداد، وبخاصة في مجتمعات ما بعد رحيل المستعمر، أكثرها يتغنى بالحرية وبالثورة كشعارين له.
طور هوبز فكره في زمن الحرب الأهلية الإنكليزية. وحمّل بدوره مسؤولية تسويغ الاحتراب هذا إلى كل من غلاة التدين العاملين على تطبيق مشهديات مستلة من العهد القديم، وغلاة الانشداد إلى الفلسفة القديمة للإغريق والرومان. بدلا من أن يرى الاجتماع بين البشر يقوم على الوحي، كما عند الأوائل، أو على الطبيعة التي تنبثق منها الفضيلة، كحال الآخرين، رآه يقوم على التأسيس الاصطناعي فقط. جذرية هذه الفكرة عنده جعلت من بعده يعكف على تبيئتها وتشذيبها والتخفيف من حدتها. لكن، أهم ما تضمنته هذه الفكرة هي أن الحرب الأهلية التي ساوى حال الطبيعة المتوحش بها، لا تنعدم حتى عندما يقوم العقد الاجتماعي، بل تتحول إلى حرب أهلية «جوفية» تنساب تحته، وتتحين هي الأخرى الفرصة للانفلات. هنا بالذات، لدى هوبز ما يقوله عن أحوال متصلة بنا كثيرة.
(
القدس العربي)