نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية حوارًا مع الدكتور عياض بن عاشور، والذي عبر فيه عن قلقه الشديد بشأن العدالة الاجتماعية في
تونس، حيث يرى أن الحرية السياسية قد فشلت في تحقيق العدالة الاجتماعية في البلاد.
وعياض بن عاشور، قانوني، وعميد سابق لكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (1993-1999)، وهو خبير في القانون العام والنظريات السياسية الإسلامية، كما شغل منصب عضو في المجلس الدستوري التونسي (1988-1992)، ورئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي (2011)، وهو أيضا مراقب ذو خبرة في الحياة السياسية التونسية، وأصدر مؤخرا كتابه "أخلاق الثورات".
وبينت الصحيفة الفرنسية أنه في سنة 2019، كتب بن عاشور أن الحرية السياسية قد خرجت متفوقة من التجربة الثورية التونسية، لكن العدالة الاجتماعية لا تزال تواجه صعوبات في التحقق.
وفي سؤال الصحيفة عما إذا كان لا يزال يحافظ على هذه الرؤية، أشار الخبير إلى أنه للأسف، تحول انتصار الحرية السياسة إلى كابوس، حيث لم تتمكن الأنظمة السابقة ولا النظام الحالي من حل مشكلة العدالة التوزيعية.
اظهار أخبار متعلقة
مشاريع خيالية
وأضاف عياض قائلًا: "أحيانا نبني مشاريع خيالية، نلقي خطابات، ونرسم آفاقًا جديدة أو مزاعم جديدة، مثل "البناء من القاعدة"، نتهم "المفسدين، المتلاعبين، الخونة"، بتجويع الشعب، نعد وعودًا كثيرة، لكن المسافة بين الكلام والفعل كبيرة للغاية، حيث ازدادت الأوضاع الاجتماعية للأشخاص الأكثر ضعفا سوءًا، وارتفعت نسبة البطالة، والتضخم، ونسبة الانقطاع عن الدراسة، والمديونية المفرطة للدولة، ويأس الشباب، والبحث عن الهجرة بأي ثمن".
ونقلت الصحيفة عن بن عاشور قوله إن الوضعية المأساوية للبنى التحتية والخدمات العامة في مجال النقل والصحة والتعليم تتدهور بشكل مستمر، حيث يجب الاعتراف بأن حل هذه المشكلة أكثر تعقيدًا من حل مشكلة الحرية؛ فعندما تسقط الدكتاتورية، يسقط الخوف معها، وتزدهر الحرية، ويمكن أن يحدث ذلك من حين لآخر كما حدث في تونس في 14 كانون الثاني/ يناير 2011. في المقابل، تتطلب قضايا البنية التحتية والعدالة التوزيعية سياسات طويلة الأجل في مجال الاستثمار والتعليم والثقافة والصحة، ومعظم الثورات تفشل في هذه المسألة. وبالتالي، لا يزال السؤال مطروحا على هذا المستوى.
وعلى حد تعبيره، فإنه "من المؤسف أننا بصدد خسارة كل ما تم تحقيقه بفضل ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، من خلال عودة ملتوية ومبرمجة للديكتاتورية.
اظهار أخبار متعلقة
هدف سعيد
تتجه اختيارات الرئيس الحالي بالكامل نحو هدف واحد، وهو إقامة سلطة شخصية مطلقة. بدأ ذلك مع انقلاب الثاني من تموز/ يوليو 2021، واستمرت بهذا المرسوم المذهل رقم 117 الصادر في 22 أيلول/ سبتمبر 2021، والذي يمنح رئيس الجمهورية جميع السلطات، التنفيذية والتشريعية وحتى التأسيسية، بحسب بن عاشور.
ويقول بن عاشور: "من الناحية القانونية، يُعد هذا المرسوم من أكبر "الفظائع" في تاريخ القانون الدستوري، لقد أدانها معظم فقهاء بلادنا بشدة، لأنه يحمل في طياته كل إمكانات الديكتاتورية، لكن هذه الإمكانات أصبحت حقيقة واقعة".
وأكد بن عاشور أن بعض المثقفين التونسيين لم يشعروا أو يفهموا هذه المخاطر منذ البداية، فقد وقعوا على عريضة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 للتأكيد على أنها ليست ديكتاتورية، متناسين أنه بمجرد أن يحتكر الرجل مهارات قانونية استثنائية، فإننا على حافة الديكتاتورية.
وبحسب بن عاشور، على الرغم من الإخفاقات المتكررة، واصل
قيس سعيد عمله في تقطيع أوصال الدولة قطعة قطعة؛ بهدف وضعها تحت سلطته الوحيدة.
وعلى ضوء ذلك، أكد أن إنشاء مجلس أعلى جديد للقضاء، تعتمد تعييناته على الرئيس، وإقالة 57 قاضيًا بناء على مزاعم فساد أو سلوك غير أخلاقي، تبين أنها غير مبررة لمعظمهم. في الواقع، رفضت هذه الأغلبية الانصياع للأوامر، وأثارت هذه الإقالات غير المبررة ردًّا حازمًا من جمعية القضاة التونسيين وإضرابًا عامًّا للقضاء استمر شهرًا. واعتبرت المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان أن المرسوم رقم 117 ينتهك القانون التونسي والقانون الدولي على حد سواء، ولكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بناءً على هذه القرارات القضائية، حيث أوضح بن عاشور قائلا: "في بلادنا، اختفت حالة القانون تمامًا. نحن نعيش في نظام الأمر الواقع والانقلاب المستمر".
ونحدث بن عاشور عما يُقال إن الرئيس يتمتع بشرعية لا جدال فيها لأن غالبية الشعب تؤيد سياسته، مبينا أنه بادئ ذي بدء، يجب أن نتذكر أن هذا التقسيم بين الشرعية والقانونية فكرة خاطئة، حيث إن فصل هذين المفهومين الأساسيين عن المؤسسة الديمقراطية يمكن أن يفعله فقط عقل سطحي، فالشرعية تمنح الديمقراطية شكلها وأساسها، بينما القانونية تمنحها جوهرها، والقانونية هي أخلاق الدولة الديمقراطية.
وذكرت الصحيفة أن الدستور الجديد يدَّعي بأنه يضمن مقاصد الإسلام. في هذا السياق، تساءلت عما إذا يشكل هذا البند خطرا على حرية الضمير وحقوق المرأة؟، فرد بن عاشور بأن الجزء المخصص لضمان الحقوق والحريات في الدستور الجديد - والذي استُلْهِمَ إلى حد كبير من دستور 2014 - لا يشكل أي مشكلة.
في الواقع، يضمن الدستور الجديد صراحة حرية الضمير وحقوق المرأة على حد سواء. ومع ذلك، هناك قلق بشأن المادة 5 الجديدة، حيث تنص هذه المادة على أن: "تونس تعتبر جزءًا من الأمة الإسلامية. ويتعين على الدولة فقط العمل في إطار النظام الديمقراطي، لتحقيق مبادئ الإسلام الأصيلة التي تتمثل في الحفاظ على الحياة، الشرف، والممتلكات، والدين والحرية"، فقد تؤدي هذه المادة إلى إثارة تفسيرات تشكك في بعض الإنجازات، مثل حقوق المرأة، أو تعيد إحياء الحنين إلى هوية قانونية. لكن المشكلة التي يجب طرحها - وفق بن عاشور - ليست حقيقة من الناحية الدستورية، بل من الناحية السياسية والثقافية، حيث يتعلق الأمر بالأجواء العامة أو المناخ "الأصولي" الذي يميز النظام الحالي.
حقوق المرأة مهددة
ولمزيد توضيح هذه النقطة، أكد بن عاشور أن حقوق المرأة كانت مهددة بالفعل، حتى قبل دستور سنة 2022. ففي آب/أغسطس 2020، أوقف قيس سعيد التقدم الذي أحرزته لجنة الحريات الفردية والمساواة (كوليبي)، التي أطلقها الرئيس الباجي قايد السبسي في سنة 2017، ولا سيما المساواة في الإرث بين الرجال والنساء. وبحسب قيس سعيد، فإن هذا مخالف لأحكام القرآن الواضحة، ولكن يجب فهم هذه المواقف في ضوء الأفكار العامة للرئيس، والتي تتسم بالتحفظ الشديد لأن ثقافته في مجال الفلسفة وحقوق الإنسان محدودة.
وقد أعطى قيس سعيد مؤخرا دليلًا على ذلك من خلال مواقفه بشأن وجود الأقليات جنوب الصحراء في تونس، حيث يقول بن عاشور: "لا أعارض بالمرة حق كل دولة في تنظيم أو الحد من أو تحديد شروط وجود الأجانب على أراضيها بناء على مصالحها الوطنية، ولكن المثير للصدمة أن قيس سعيد أكد بوضوح في بيانه الصادر في 21 شباط/فبراير 2023 أنه كان هناك في تونس منذ بداية القرن مشروع إجرامي يهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وإبعادها عن هويتها العربية الإسلامية.
وفي هذا التصريح أوضح أن بعض الجهات تحصلت على أموال لإدخال مهاجرين من جنوب الصحراء إلى تونس خارج الإطار القانوني بهدف تحويل تونس إلى بلد إفريقي فريد، على حساب انتمائه إلى الأمتين العربية والإسلامية. وفي نفس البيان، ندد بهذه المجموعات من المهاجرين غير الشرعيين “المسؤولين عن أعمال العنف والجرائم. بطبيعة الحال، كان ذلك كافيًا لإثارة مواقف معادية وحتى موجة من العنف ضد المهاجرين من دول جنوب الصحراء. الأكثر أسفًا في هذه القضية هو أنها تكشف لنا عن وجود عنصرية كامنة في تونس لا تمارس فقط ضد الأفارقة من جنوب الصحراء، ولكن ضد التونسيين ذوي البشرة السوداء أيضًا، إنها خطأ لا يُغتفر من جانب دولة تعمل على إغراق شعبها بدلًا من تثقيفه ورفع مستوى قيمه وثقافته".
اظهار أخبار متعلقة
وأضاف بن عاشور: "يبدو أن تأثيرات الشعبوية الثقافية مدمِّرة. فالآن، تزرع السلطة اتجاهات من قبيل الهوية الخائفة المتحصنة بذاتها، الانتقام، كراهية الأجنبي، السيادة الوهمية. في هذا النقطة الأخيرة، من المثير للسخرية ملاحظة أن السلطة ترنم بأوبرا السيادة، في الوقت نفسه التي تستمر في التوسل إلى المنظمات الدولية والدول الأجنبية لمنحها بعض المساعدات المالية!".
وأوضحت الصحيفة أن الدستور الجديد لا يشير إلى حياد قوات الأمن بعد الآن.
تأثير الاعتقالات
وردًّا على السؤال المتعلق بما إذا كانت الاعتقالات الأخيرة للمعارضين السياسيين تثير مخاوف من انحراف استبدادي للنظام، أكد بن عاشور أنه في نيسان/ أبريل 2021، قبل الانقلاب الذي حدث في 25 تموز/ يوليو 2021 بفترة طويلة، ركز الرئيس الحالي على حقيقة أن جميع القوات المسلحة، المدنية والعسكرية، يجب أن تتبع الرئيس الجمهوري فقط وفقا لرأيه، وكان ذلك علامة مبشرة بمشروع لتجنيد الدولة تحت أوامر الرئيس، بدعم من القوات المسلحة، ويتوافق هذا المشروع تماما مع الشك الذي يتمتع به قيس سعيد تجاه الأحزاب السياسية والهيئات المكونة ومنظمات المجتمع المدني والنظام التمثيلي.
وأضاف قائلا: "يمكننا الاتفاق تمامًا على أنه لتنفيذ الإصلاحات المستهدفة لمكافحة الفساد وتطهير أجهزة الدولة، بما في ذلك القضاء والإدارات، يجب أن يتمتع مسؤول سياسي بدولة ذات سلطة أخلاقية ومادية قوية. وخير مثال على ذلك الاعتقالات الأخيرة لعدد من شخصيات المعارضة المتهمين بالتآمر على الأمن الداخلي والخارجي للدولة، وبارتكاب جرائم إرهابية، ومحاولة اغتيال رئيس الدولة".
وفي الواقع، على الرغم من أن هذه الاعتقالات وقعت منذ أكثر من شهر، لم يتم تقديم أي دليل ملموس للمحاكمة القضائية، ولم يتم وضعه بين أيدي المحامين.
وفي الختام، أكد الخبير التونسي أنه في مواجهة هذا، تظل السلطات القضائية صامتة، فقد وقعت الاعتقالات في ظروف متسرعة، وأحيانا عنيفة تتعارض مع قواعد الإجراءات الأساسية، بما في ذلك تلك المتعلقة بقانون مكافحة الإرهاب، الذي يتم تطبيقه بشكل مصطنع؛ بهدف اللجوء إلى إجراءات مبسطة. كما أصبحت التهديدات والضغوط على القضاة والمدعين العامين تجعل الحياة اليومية للعدالة تعيسة ومرعبة.