كل يغني على ليلاه، وليلى في
السودان مريضة!
فعلى المقهى تعرفت على ثلة من الإخوة السودانيين، سألتهم
واحداً واحداً عن موقفهم: مع الجيش أم مع الدعم السريع؟ فكان جواب كل واحد منهم أنه
مع الجيش، وبالإجماع، لكن هذه الإجابة لا تعبر عن جموع السودانيين، ففي المركز
هناك من يتمنون انتصار
حميدتي، لأنه منحاز للاتفاق الإطاري الذي سيمكن قوى
"قحت" من الحكم لعشر سنوات، كما كانوا يطالبون قبل اندلاع الحرب، ولا
نعرف كم نسبة من تعبر عنهم هذه النسبة في الأطراف، عندما تقل أهمية الدولة وترتفع
قيمة القبيلة!
ومهما يكن، فلا يمكن اعتبار الرأي المنحاز لقائد الدعم
السريع يمثل الأغلبية على أي مستوى، فيظل الجيش هو المعني بحماية الدولة. وهناك
أمر لا يمكن تجاهله، هو أنه رغم الثورة فقد بدا واضحاً أن حكم الرئيس البشير لم
يفقد شعبيته، وربما جاءت ممارسات الأقليات الاستئصالية لتعزز من الشعور بالخطأ
للتخلي عن البشير من جانب أنصاره، وهو أمر يمكن تداركه بالاحتماء بالجنرال عبد
الفتاح
البرهان، كجنرال بديل لجنرال؛ وذرية بعضها من بعض!
رغم الثورة فقد بدا واضحاً أن حكم الرئيس البشير لم يفقد شعبيته، وربما جاءت ممارسات الأقليات الاستئصالية لتعزز من الشعور بالخطأ للتخلي عن البشير من جانب أنصاره، وهو أمر يمكن تداركه بالاحتماء بالجنرال عبد الفتاح البرهان، كجنرال بديل لجنرال
الاعتماد على مؤسسات القوة:
ولعل السبب في تقاعس أنصار البشير عن نصرته، هو ما يحدث
دائماً في ظل الدولة المركزية، من اعتماد الجماهير على قوة مؤسسات الحكم. ومصر لم تشهد
مظاهرة من الحزب الوطني مناصرة لمبارك، لكن مظاهرات الأعداد القليلة لصالح الرئيس
أيام الثورة كانت من منتحلي صفة الأنصار، والذين كانوا يستوفون نصاب الحضور
بالشبيحة والمستأجرين!
تختفي الجماهير المؤيدة، استناداً لحكمة القرار السياسي
ولمؤسسة القوة في الدولة، ولا تنتبه إلا عندما ينتهي الأمر بإعلان البيان الأول،
ولم يكن القوم في السودان استثناء فقد حدث هذا في تونس ومصر. وقد وجدوا في استمرار
عبد الفتاح البرهان أنه البديل الاستراتيجي في مواجهة قوى الاستئصال، التي استقوت
بتحالف الجيش والدعم السريع في تمكينها من الحكم في البداية، وعندما قال الجيش بإجراء
انتخابات بعد سنة، طالبوا بأن تستمر الفترة الانتقالية لعامين، فلمّا سلم العسكر
بعامين قالوا نريدها عشر سنوات!
الأمر نفسه الذي كان يمكن أن يحدث في مصر بعد الثورة،
لولا جاهزية التيار الإسلامي، لخوض الانتخابات وإصراره عليها، وإذ حصل بكل مكوناته
على 60 في المئة من مقاعد مجلس الشعب، فقد حصلت القوى الأخرى على أقل من 40 في
المئة، ولم يمكن للحزب الوطني الحاكم أن ينافس، وهو عكس ما سيحدث في السودان،
فيبدو واضحاً أن أحزاب الحرية والتغيير ليست مستعدة الآن، ولن تكون مستعدة في
الغد، للمنافسة في أي انتخابات نزيهة، وهنا تكمن المشكلة!
رغم الوضع القانوني لقوات الدعم السريع، إلا أن أحداً لا
يمكنه أن يسلم بأنها ليست مليشيات، تمثل خطراً على السودان حاضره ومستقبله، وفي النهاية
فإن الجيوش لديها إطار يحكم تصرفاتها، إلا من استثناءات، وأن في انهيار الجيش
السوداني نهاية للدولة السودانية، لكن لا يجوز اعتماد عبد الفتاح البرهان على أنه
الممثل الرسمي والوحيد للجيش، لأنه جزء من الأزمة ولن يكون البتة جزءاً من الحل!
رغم الوضع القانوني لقوات الدعم السريع، إلا أن أحداً لا يمكنه أن يسلم بأنها ليست مليشيات، تمثل خطراً على السودان حاضره ومستقبله، وفي النهاية فإن الجيوش لديها إطار يحكم تصرفاتها، إلا من استثناءات، وأن في انهيار الجيش السوداني نهاية للدولة السودانية، لكن لا يجوز اعتماد عبد الفتاح البرهان على أنه الممثل الرسمي والوحيد للجيش، لأنه جزء من الأزمة
البرهان والسلطة:
البرهان يريد السلطة، وقد سعى لها سعيها وهو مؤمن؛ حتى
كان قاب قوسين أو أدنى منها، فإذا كان الطريق إلى الكرسي يمر عبر إسرائيل، فقد
تواصل مع القوم، وسط دفاع عن هذه الخطوة من الإسلاميين، والرد دائماً: لقد أبرمت
مصر معاهدة سلام مع إسرائيل، فلماذا تنكرون هذا علينا؟! ومصر التي أبرمت المعاهدة
لا تخصنا، فضلاً عن أن حاكم مصر عندما فعل دخل السلام لأنه كان في حالة حرب، وكان
الثمن هو استرداد الأرض المحتلة، فما هو العائد على السودان من هذه الخطوة، إلا لضمان
وُثوب البرهان على كرسي الحكم بدون اعتراض دولي؟!
بيد أنهم لا يمانعون في أن يحكم مهما كان الثمن، فلدى
القوم استعداد لممارسة السياسة، بكل ما تعنيه من صفات سلبية، إذا سنحت لهم الفرصة،
وما تعلقهم بالممارسة النزيهة إلا لأنها لم تسنح لهم!
وفي المقابل، فإن الأقليات التي تدرك أن الخيار
الديمقراطي لن يمكّنها من الحكم، تستقوي الآن بالدعم السريع، وقد بدأ قائد
المليشيات يتحدث عن نضاله في سبيل
الديمقراطية، وتأييده للحكم المدني، فقال
الحلفاء هذا ربي هذا أكبر!
اللافت أن البرهان لم يدخل مبارزاً في هذه الحلبة، ويعلن
أنه منحاز للحكم المدني ومع نقل السلطة للمدنيين، لأنه ببساطة طامع فيها، ولو قال
لكان الرد عليه "المياه تكذب الغطاس"، ولا بد من وضع إجراءات لذلك، لا
يملكها حميدتي لأنه ممثل المعارضة في هذه الحرب لا النظام!
يبدو حديث قائد الدعم السريع عن الديمقراطية والحكم
المدني مضحكاً، باعتبار أن شر البلية ما يضحك، لكن سيزول كثير من العجب لو علمنا
أن المشير عبد الحكيم عامر طالب بالديمقراطية في صراعه مع عبد الناصر، لكنه كان قد
تأخر كثيراً، لأن دعاة الديمقراطية كان يسيطر عليهم الخوف من جراء أكثر من عشر
سنوات من القمع، فضلاً عن أنه ليس مصدر ثقة لدى أحد، بيد أن قائد الدعم السريع مثّل
ثقة لدى جماعة "قحت"، لأنهم يرونه يفتقد الطموح في الحكم، نظراً لافتقاده
للمؤهلات اللازمة، لكنهم لا يعلمون أن هذا الموقف سيتغير إذا انتصر!
جمال عبد الناصر نفسه، كان أحيانا يدعو للعودة
للديمقراطية في اجتماعات مجلس قيادة الثورة، حيث رفع هذه الدعوة أكثر من مرة على
النحو الذي أربك المؤرخين لهذه الحقبة، لا سيما أنه كان في الجانب الآخر في جلسات
أخرى، فليس في الأمر تناقض بقدر ما هي المناورة التي كان يجيد ممارستها!
ديكتاتور جديد:
وإذا انتصر البرهان فسنكون أمام ديكتاتور جديد، قد تجاوز
تماماً مرحلة المواءمات، فلا حكم مدنيا، ولا احتكام للصندوق، مع أنه لو خاض
الانتخابات الآن فسوف يفوز لأن الإسلاميين يعتبرونه مصدر الحماية لهم، لكن تكمن
المشكلة في أن إقناع الآخرين بذلك بمن فيهم قوات الدعم السريع ليس سهلاً، وقد فات
الميعاد، فالدعم السريع هو الجن الذي لا يملك أحد الآن صرفه، ولو بالانتصار في الحرب،
لأن لديه خياراته البديلة، فإذا استحالت عليه الخرطوم، ففي دارفور متسع له، لنصل
إلى "الفريضة الغائبة" في السودان، وغيابها سيكون سبباً في إطالة أمد
الحرب التي لا نعرف كيف ستنتهي!
فقد كان يكفي أن يستغل البرهان دعوة حميدتي للحكم المدني
بالدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، ويمنع فيها العسكريون من الترشيح
والمنافسة، فيحرج العالم كله بمشهد تسليم السلطة للمدنيين، لكنه لن يفعل، لأن
قيمته لدى الحلفاء في التمسك بأن يكون رئيساً للبلاد، ومن الواضح أن قوات الدعم
السريع تقف موقف المعادي لهذه الخطوة، كما أنه ليس بريئاً بالكامل!
يبدو أن قائد الدعم السريع هو صاحب الحظوة لدى الحلفاء الإقليميين ومن حفتر، إلى ابن زايد، إلى إثيوبيا وإلى غيرها من دول الجوار، وهؤلاء مع أن تكون السيادة لهذه القوات، أو تعم الفوضى في السودان أو يحدث التقسيم
إن
السيسي الحليف الاستراتيجي للبرهان، هو من يقف وراء
فكرة الحكم العسكري، وعدم انتقال السلطة للمدنيين، بالانتخاب أو بالاتفاق الإطاري،
وهو ضد الدعم السريع، اسما ورسماً، وقبل تنفيذ الاتفاق، كانت الحرب التي يخوضها
البرهان نيابة عن نفسه وبالأصالة عن السيسي!
ويبدو أن قائد الدعم السريع هو صاحب الحظوة لدى الحلفاء
الإقليميين ومن حفتر، إلى ابن زايد، إلى إثيوبيا وإلى غيرها من دول الجوار، وهؤلاء
مع أن تكون السيادة لهذه القوات، أو تعم الفوضى في السودان أو يحدث التقسيم؛ إنهم
يبغونها عوجا!
تمنيت أن ينجح الجيش في استئصال قوات الدعم السريع، ثم
ندعوه للعودة إلى ثكناته، مع إدراكنا بصعوبة هذه الخطوة على منتصر، لكن في النهاية
فإن فكرة الاستئصال مستحيلة، وإن تمت مطاردة هذه المليشيات في شوارع الخرطوم، وهو
ما لن يحدث قريباً.
وأمام هذه الرغبات، فإن الرد على سؤال الوقت "ما
العمل؟" يكون على طريقة رد جحا على سؤال: "ودينك منين يا جحا؟".
فالحل بدون لف أو دوران، في الحكم المدني المنتخب، ليعود
الجيش والدعم السريع إلى الثكنات، غير مستأنسين لحديث!
وغير هذا، هو رسم على الرمال، وركوب للهواء!
twitter.com/selimazouz1