لقد رفعت في تظاهرات 20 فبراير شعارات سياسية واضحة ترفض التحكم
السياسي والجمع بين السلطة والثروة وتطالب بدستور جديد وبالملكية البرلمانية، كما
رفعت شعارات أخرى تطالب بإصلاح المشهد الإعلامي وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين
ومعتقلي السلفية الذين اعتقلوا على خلفية أحداث 16 مايو الإرهابية، وشعارات ذات
طبيعة اجتماعية واقتصادية تتعلق بالمطالبة بالتشغيل والصحة والكرامة وتنتقد
السياسات المتبعة في هذا المجال..
الذين رفعوا هذه الشعارات كانوا يعكسون طموحات الشعب
المغربي بكافة
ألوانه السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، فقد حضر في الاحتجاجات إسلاميون
وعلمانيون ويساريون وأمازيغيون وليبراليون ورجال أعمال ومثقفون وفنانون...حضر
الشباب والأطفال والنساء، وانصهر الجميع في شعارات مسؤولة تعكس وعي الجميع بحجم
اللحظة التاريخية التي تمر بها البلاد..
مطالب قديمة في سياق سياسي جديد..
لم تكن مطالب الشارع مطالب جديدة فقد كانت هي نفسها مطالب الأحزاب
الوطنية الديموقراطية التي طالما ناضلت من أجلها داخل المؤسسات ومن خارجها، لكن
ميزة هذه المطالب أنها رفعت في سياق جديد، وغير مسبوق في تاريخ البلاد العربية..
إنه سياق موجة المطالبة بالديمقراطية الحقيقية التي انطلقت شرارتها
من تونس لكي تهز الضمير العربي، وهي نفس الشرارة التي أسقطت حسني مبارك وأسقطت
معمر القذافي في ليبيا كما أحدثت تغييرات مؤكدة في اليمن، وهي نفس الدينامية التي
انطلقت في عدد من الدول العربية الأخرى.
الشباب المغربي الذي أطلق شرارة الاحتجاجات تفاعلا مع ثورات الربيع
العربي، لم يرفع شعار إسقاط النظام وإنما طالب بإصلاحات ديمقراطية عميقة، وهو ما
يمكن اعتباره نتيجة طبيعية لسياسة الاعتدال والانفتاح السياسي الموزون التي
اعتمدها النظام السياسي اتجاه معارضيه بدرجات متفاوتة منذ الاستقلال إلى اليوم،
بحيث تمحورت مطالب الشارع المغربي حول شعار إسقاط الفساد والاستبداد، وذلك احتجاجا
على تضخم مظاهر الفساد في الحياة العامة، وخاصة منه الفساد الذي يتحصن بالسلطة
المركزية..
الشباب المغربي الذي أطلق شرارة الاحتجاجات تفاعلا مع ثورات الربيع العربي، لم يرفع شعار إسقاط النظام وإنما طالب بإصلاحات ديمقراطية عميقة، وهو ما يمكن اعتباره نتيجة طبيعية لسياسة الاعتدال والانفتاح السياسي الموزون التي اعتمدها النظام السياسي اتجاه معارضيه بدرجات متفاوتة منذ الاستقلال إلى اليوم،
هذا الوضع هو الذي دفع المتظاهرين إلى المطالبة بربط المسؤولية
بالمحاسبة، وبناء النظام الديموقراطي باعتباره النظام السياسي الذي يسمح بمساءلة
ومحاسبة كل من يملك السلطة أو يتحمل مسؤولية عمومية، كما يسمح بتدبير عادل لثروات
البلاد بواسطة مؤسساته المنتخبة، وهو الذي يسمح بانتخابات لها معنى سياسي وذات
رهانات تنافسية واضحة، أما السلطة التي تمارس بعيدا عن الرقابة المؤسساتية
والشعبية فلا يمكن أن تكون إلا شكلا من أشكال الاستبداد والسلطوية..
إنها نفس مطالب الأحزاب السياسية الوطنية والديموقراطية، فكيف تعامل
حزب العدالة والتنمية مع هذه الدينامية باعتباره حزبا سياسيا معنيا بسؤال الإصلاح
من جهة وبين التفاعل مع الدينامية الاحتجاجية التي ترفع مطالب إصلاحية مشروعة من
جهة أخرى؟
التوتر الطبيعي بين ثقافة حزبية تقليدية وبين دينامية احتجاجية في
مناخ ثوري..
ينبغي الاعتراف بأن الأمر يتعلق بظاهرة احتجاجية جديدة، اندلعت في
مناخ ثوري لم تتعود الأحزاب السياسية بأنساقها التقليدية أن تتفاعل معها، ذلك أن
العقل السياسي الحزبي تمرس على اتخاذ القرار داخل أطر حزبية تنظيمية مغلقة، ولم
يكن من السهل أن يتفاعل إيجابا مع حدث مفاجئ بالسرعة اللازمة، ولم يكن بإمكان
الأحزاب السياسية عموما التقاط اللحظة التاريخية والتفاعل معها بعيدا عن المحددات
الموضوعية التي تحكمت في أدائها طيلة عقود من الزمن.
فقد نشأت تجربة حزب العدالة والتنمية داخل المؤسسات من خلال المشاركة
الانتخابية التي تعود رسميا إلى سنة 1997، أي قبل الربيع العربي بحوالي 15 سنة،
بمعنى أن هناك رصيد من العمل السياسي المؤسساتي المباشر داخل البرلمان وداخل
البلديات في المدن الكبرى والمتوسطة، وهو
رصيد ناضلت الحركة الإسلامية طويلا قبل أن تحظى بالاعتراف الرسمي به، ولذلك لم يكن
من السهل أن تغامر بهذا الرصيد وتنخرط بتلقائية وسط احتجاجات شعبية غير مؤطرة
حزبيا وسياسيا.
ولذلك كان من الطبيعي أن تحدث نداءات الدعوة إلى التظاهر يوم 20
فبراير 2011 في سياق الرجة الثورية التي عاشتها عدد من البلدان العربية، خلافا
داخليا حادا بين قيادات حزب العدالة والتنمية، فالأمر يتعلق بالمشاركة في مظاهرات
احتجاجية تمت الدعوة إليها من طرف وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا
"الفايسبوك" من جهات غير معروفة، وقد تؤدي إلى المس بالاستقرار السياسي
للبلاد، أو على الأقل قد تؤثر في نوعية العلاقة التي تربط بين السلطات وبين
الأحزاب السياسية.
الاختلاف داخل حزب العدالة والتنمية وانعكاسه على السلوك السياسي
للحزب..
لم يشارك حزب العدالة والتنمية رسميا في هذه الاحتجاجات، لكن مجموعة
من أعضائه وقياداته ساندوا هذه الدينامية الاحتجاجية وشاركوا في مظاهرات 20
فبراير، بل أصدروا بيانا يوم 17 فبراير يعلنون من خلاله المشاركة في مظاهرات 20
فبراير ، وقد وقع هذا البيان 30 عضوا من مسؤولي الحزب أربعة منهم أعضاء في الأمانة
العامة للحزب وهم: المصطفى الرميد وعبد العلي حامي الدين والحبيب الشوباني وعبد
العزيز أفتاتي. البيان ذكّر بأدبيات الحزب التي نصّت على ضرورة العمل من أجل
إصلاحات سياسية ودستورية "تكرس المسؤولية السياسية للحكومة وتعزز صلاحيات ومصداقية
المؤسسات المنتخبة وتوفر الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة".
نشأت تجربة حزب العدالة والتنمية داخل المؤسسات من خلال المشاركة الانتخابية التي تعود رسميا إلى سنة 1997، أي قبل الربيع العربي بحوالي 15 سنة، بمعنى أن هناك رصيد من العمل السياسي المؤسساتي المباشر داخل البرلمان وداخل البلديات في المدن الكبرى والمتوسطة
وبعد إشارته إلى التغيير الذي شهدته حينها كل من تونس ومصر، اعتبر
البيان الصادر يوم 17 فبراير 2011، أن "العالم العربي يعيش على إيقاع انطلاق
زمن ربيع الديموقراطية، وهو ما يتطلب حسن قراءة معطيات هذه المرحلة والتفاعل معها
إيجابيا بما يوفر ظروف الإصلاح الديموقراطي المنشود في إطار من الوفاق وتمتين
اللحمة الوطنية" واعتبر البيان أنه "وبعد الإصلاحات التي شهدها المغرب
في بدايات حكم الملك محمد السادس، إلا أن الامل في تحقيق الانتقال الديمقراطي
تبخّر بسبب هيمنة السلطوية وتهميش المؤسسات سواء تعلق الأمر بمؤسسة البرلمان أو
الحكومة، وتبخيس العمل الحزبي، فضلا عن التحكم في القضاء، إضافة إلى التراجعات
التي همت الوضع الحقوقي من مس منهجي بحرية الصحافة وممارسة الاختطاف والتعذيب
وتفشي ظاهرة الاعتقال السياسي".
كما شدّد البيان على "كون الحياة السياسية تعرف فسادا واسعا
يكرس اقتصاد الريع ومنطق الزبونية واستغلال النفوذ لمراكمة مزيد من الثروات مقابل
تزايد مؤشرات الفقر والبطالة والإقصاء الاجتماعي".
وخلص البيان إلى اعتبار هذا التشخيص مدعاة للتجاوب مع الدعوات
الصادرة حينها من أجل التظاهر السلمي "للمطالبة بإحداث التغييرات الدستورية
والسياسية العميقة من أجل إقرار دولة ديموقراطية بمؤسسات منتخبة لها كامل
الصلاحيات وقضاء مستقل في أفق العبور نحو نظام ملكية برلمانية". ليخلص موقعو
البيان إلى اتخاذ قرار الخروج في مظاهرات 20 فبراير “لنضع اليد في يد كل المواطنين
الذين يريدون ممارسة الحق في التعبير بكل مسؤولية في احترام تام للثوابت الوطنية،
والمطالبة بالإصلاحات الضروية لإقرار ديموقراطية حقيقية".
كما اختارت شبيبة الحزب آنذاك أن تنحاز إلى خيار الخروج إلى الشارع،
قبل أن تتراجع رسميا عن المشاركة تحت ضغط الأمين العام للحزب، وإن كان أعضاؤها
شاركوا عمليا في مظاهرات 20 فبراير.
وهكذا انخرطت عدد من الشخصيات في مسيرات 20 فبراير مثل مصطفى الرميد
وعبد العلي حامي الدين وعبد العزيز أفتاتي والحبيب الشوباني وعبد الله بووانو وعبد
الحق العربي وعبد الصمد السكال وعبد الصمد حيكر وعدد من القيادات المحلية
والجهوية، كما التحق بهم سعد الدين العثماني يوم 30 مارس الذي كان يشغل منصب رئيس
المجلس الوطني للحزب آنذاك.
ورغم الاختلافات الحادة التي عاشها الحزب في تلك المرحلة بين من كان
يرى ضرورة الانخراط في احتجاجات الشارع وبين من تحفظ على هذه المشاركة، وصلت إلى
درجة تقديم ثلاثة أعضاء في الأمانة العامة لاستقالتهم منها (الرميد- حامي الدين-
الشوباني)، فإن كلا الفريقان كانا منشغلين
بهاجس السلمية والمحافظة على الاستقرار والإيمان بضرورة ضخ جرعات إصلاحية قوية في
ظل النظام السياسي القائم.
ولذلك حينما أخذت الاحتجاجات طابعا تصعيديا بالنزول في الأحياء
الشعبية، بالموازاة مع رفض المكونات الأساسية للاحتجاج تسقيف المطالب السياسية
بشعار الملكية البرلمانية، تراجع قادة
العدالة والتنمية عن المشاركة في المسيرات الأسبوعية.
كما أن الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، رغم رفضه النزول إلى
الشارع فإنه ساند مطالب المحتجين وشارك في عدد من التجمعات الجماهيرية التي كان
لها أثر كبير في جلب اهتمام المواطنين إلى فاعل سياسي ذو مصداقية يمكن أن يشكل
خيارا بديلا بين احتجاجات الشارع التي لا سقف لها وبين بقاء الوضع على ما هو عليه.
خطاب 9 آذار (مارس) ودوره في امتصاص غضب الشارع وفي إنهاء الخلاف
داخل العدالة والتنمية..
لقد اختارت الملكية في المغرب أن تواجه احتجاجات الشارع المغربي
بالحوار، وتفاعلت مع مطالب الدينامية الاحتجاجية ل20 فبراير بشكل سريع، وذلك عبر
خطاب مباشر يوم 9 مارس، أعلن من خلاله الملك عن تكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور،
حدد لها سبعة مرتكزات أساسية وهي المرتكزات التالية:
أولا ـ التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة،
الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة.
ثانيا ـ ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية
والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات
الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب.
ثالثا ـ الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس
الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه.
رابعا ـ توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث
المؤسسات وعقلنتها، من خلال :
ـ برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة
الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه
التمثيلية والتشريعية والرقابية.
ـ حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال
صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب.
ـ تكريس تعيين الوزير الأول من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات
مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها.
ـ تقوية مكانة الوزير الأول، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى
المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي
; دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته.
خامسا ـ تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور
الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية،
والمجتمع المدني.
سادسا ـ تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة
والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة.
سابعا ـ دسترة هيآت الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات.
وهكذا انطلق النقاش حول
الدستور الجديد وهو ما مهد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية ليبلور تصوره في
الإصلاح الدستوري بشكل دقيق لأول مرة وليساهم من موقعه في كتابة الدستور الجديد
الذي جرى الاستفتاء الشعبي حوله يوم فاتح تموز (يوليو) 2011.
في الحلقة القادمة نتابع النقاش الدستوري الذي عاشه المغرب آنذاك
ومساهمة حزب العدالة والتنمية فيه..