أثار الاتفاق
السعودي
الإيراني الذي تم التوصل إليه بوساطة صينية من أجل تهدئة وعودة
العلاقات
الدبلوماسية المقطوعة بين الجانبين منذ سبع سنوات، على إثر اقتحام أعضاء في الحرس
ومنظمات أخرى شبه رسمية السفارة
السعودية في طهران وإحراقها، ولا يزال يثير ردود
فعل واجتهادات عن خلفياته وحيثياته وتداعياته على المنطقة، كما على الدور
الصيني
فيها وفي العالم بشكل عام نظراً للأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية لمنطقتنا
العربية الإسلامية.
تمكن قراءة
الاتفاق من ثلاث زوايا سعودية وإيرانية وبالطبع صينية، حيث نجحت بكين في تحقيق
اختراق وإنجاز كبير في ظل العلاقة الباردة بين الرياض وواشنطن؛ والمقطوعة أو شبه
المقطوعة بالطبع بين هذه الأخيرة وطهران في السنوات الأخيرة.
إلى ذلك ثمة معطى
مهم جداً في الاتفاق الأخير لا بد من التوقف عنده ملياً ويتمثل، باستناده إلى اتفاق 2001 الأمني بالأساس، والذي أنهى فترة قطيعة وجفاء بين الجانبين لخمس سنوات
تقريباً بعد وقوف إيران وذراعها الإقليمي المركزي "حزب الله" خلف تفجير
مجمع سكني في مدينة الخُبر شرق السعودية؛ أوقع عدة قتلى بين مواطنين ومقيمين،
علماً أن اتفاق 2001 يفسر بحد ذاته ويضيء جزءاً كبيراً من الجوانب المخفية
والمعتمة في الاتفاق الأخير.
يمكن الحديث عن عدة أسباب سياسية وأمنية واقتصادية أدت بالرياض إلى الموافقة والانفتاح على الوساطة الصينية للتهدئة والتطبيع مع طهران، وإعادة العلاقة الدبلوماسية بين الجانبين
من الزاوية
السعودية يمكن الحديث عن عدة أسباب سياسية وأمنية واقتصادية أدت بالرياض إلى الموافقة والانفتاح على الوساطة الصينية للتهدئة والتطبيع مع طهران، وإعادة
العلاقة الدبلوماسية بين الجانبين، أولها القصف الإيراني شبه المعلن للمواقع النفطية
المركزية شرق البلاد -2019- دون أن يحرك أحد من الحلفاء ساكناً للدفاع عنها، علماً
أنها لا تستطيع بقدراتها الذاتية الردّ المباشر على إيران، خاصة أن هذه الأخيرة
ليس لديها ما تخسره في ظل عزلتها الخانقة وأوضاعها المأزومة وحتى المنهارة داخلياً
وخارجياً.
في السياق الأمني
أيضاً، ثمة بُعد يمني يتعلق بتسليح إيران للحوثيين عبر خط بحري لتهريب السلاح يكاد
لا يتوقف، وما يتم ضبطه وهو كثير يعتبر جزءا يسيرا جداً مما يصل فعلاً إلى الحشد
الحوثي، وهو ضخم، هذا بالإضافة إلى إشراف خبراء الحرس مباشرة على عمليات القصف
الصاروخي للعمق السعودي، وهو أمر لا يمكن إنكاره كما يتضح من تقارير الأمم المتحدة
عن شحنات السلاح الإيرانية المضبوطة، إضافة إلى الغارة الإسرائيلية أثناء حرب غزة
الأخيرة -آب/ أغسطس 2022- التي استهدفت موقعا لتجميع وتطوير الصواريخ والمسيّرات قرب
صنعاء وأوقعت عشرات القتلى من الحشد الشعبي الحوثي وعناصر إيرانية، وأخرى تابعة
لحزب الله باعتباره الذراع الإقليمي المركزي لإيران وسياساتها وتدخلاتها
واختراقاتها في العالم العربي.
في السياق اليمني
أيضاً تبدو الرياض وكأنها تدفع ثمن أخطائها الاستراتيجية مع حليفتها الإمارات
بتجاهل، بل تحجيم وحتى تصفية قيادات تجمع الإصلاح -مزيج قبلي وإخواني- باعتباره
الرافعة الشعبية الوحيدة التي كان بإمكانها مواجهة، بل حتى هزيمة الحوثيين في ظل
الإمكانيات والمقدرات الكبيرة التي وفّرها التحالف العربي السعودي للشرعية اليمنية؛
وعجزت عن استثمارها والاستفادة منها كما ينبغي لافتقادها إلى رافعة شعبية صلبة
ومتماسكة.
العداء بل العمى الأيديولوجي كان سبب أو أحد أسباب وصول الأوضاع في اليمن إلى ما وصلت إليه، وتحوّلها إلى تهديد استراتيجي للسعودية بعد انسحاب الإمارات "البعيدة" وحفاظها على مصالحها؛ عبر اختراقها للمناطق الجنوبية وسيطرتها على الموانئ الاستراتيجية هناك وتهدئتها مع إيران حتى مع قيادتها سيرورة التطبيع الجديدة مع إسرائيل
هذا العداء بل العمى
الأيديولوجي كان سبب أو أحد أسباب وصول الأوضاع في اليمن إلى ما وصلت إليه،
وتحوّلها إلى تهديد استراتيجي للسعودية بعد انسحاب الإمارات "البعيدة"
وحفاظها على مصالحها؛ عبر اختراقها للمناطق الجنوبية وسيطرتها على الموانئ
الاستراتيجية هناك وتهدئتها مع إيران حتى مع قيادتها سيرورة التطبيع الجديدة مع
إسرائيل.
إذن تريد الرياض،
وبعد فترة انخرطت فيها بأزمات ومشاكل المنطقة، التهدئة والابتعاد والتفرغ لبناء
السعودية الجديدة، وتحاشي الانشغال أو الغرق في أزمات ومعارك جانبية تستنزفها على
غير عادتها أصلاً، بما يمكن اعتبارها بمثابة عودة إلى قواعد وأسس السعودية القديمة
التي تصالحت مع إيران مطلع الألفية، مع الحصول على ثمن مماثل ملموس كما سنفصل
لاحقاً.
إضافة إلى ما سبق،
تفهم السعودية أن النظام الإيراني يمر بأضعف فتراته ويبدو معزولاً داخلياً
وخارجياً بعد قمعه الوحشي للتظاهرات والحركات الشعبية ومراهنته الخاطئة على روسيا
في حربها غير المبررة ضد أوكرانيا، ما عمّق مأزقه وزاد عزلته. وعليه خلصت الرياض إلى أن الظرف مناسب للتسوية أو للتهدئة مع طهران مع جباية ثمن مناسب، والانفتاح
على الوساطة الصينية لتحقيق ذلك إثر انحياز الصين إلى المواقف العربية والسعودية فيما
يخص التدخلات الإيرانية؛ انسجاماً مع مصالحها الضخمة بل الهائلة بالعالم العربي.
أما من الزاوية
الإيرانية، فالنظام يريد تخفيف عزلته الخانقة والانفتاح على المحيط بما ينعكس إيجاباً
عليه سياسياً واقتصادياً وشعبياً أيضاً، وقبل ذلك وبعده لا يستطيع رفض وساطة بكين بعدما
وضع بيضه كله في سلتها، مع اتفاقية الـ25 عاماً الاستراتيجية التي ربطتها بل
وضعتها تحت الوصاية الصينية.
إيران تفهم بالطبع
أن روسيا باتت عاجزة عن توفير البضاعة المطلوبة، فهي لا تستطيع وحتى لا تريد لأسباب
تاريخية وسياسية وواقعية الانخراط فيما يشبه التحالف مع طهران، بينما تبدو أحيانا وكأنها
هي نفسها (موسكو) باتت بحاجة لدعم وحتى رعاية بكين.
إيران تفهم بالطبع أن روسيا باتت عاجزة عن توفير البضاعة المطلوبة، فهي لا تستطيع وحتى لا تريد لأسباب تاريخية وسياسية وواقعية الانخراط فيما يشبه التحالف مع طهران، بينما تبدو أحيانا وكأنها هي نفسها (موسكو) باتت بحاجة لدعم وحتى رعاية بكين
في السياق، لا بد
من استحضار القمة العربية الصينية الأخيرة التي عقدت في جدة نهاية منتصف كانون الأول/
ديسمبر الماضي وكرست المصالح الضخمة بين الجانبين مع تبادل تجاري بمئات المليارات
سنوياً، وتبنت بيانا ختاميا داعما للمواقف السعودية والعربية ضد التدخلات
الإيرانية في شؤون المنطقة، مع رفض احتلال إيران للجزر الإماراتية، ما أزعج طهران
ودفع الرئيس إبراهيم رئيسي إلى زيارة بكين شباط/ فبراير الماضي لاستطلاع الأمر.
في سياق الوساطة
الصينية، يجب التذكير كذلك بأن السعودية قبلت أو عوّلت عليها بعدما حاولت عبر طريق
تل أبيب الوصول إلى واشنطن والحصول منها على ضمانات أمنية وأسلحة نوعية ومكانة
خاصة مع حلف الناتو، ودعم وتطوير برنامجها النووي السلمي، لكن العلاقة الباردة مع
البيت الأبيض والأجواء المعادية للرياض في الكونغرس وقفت حائلاً دون ذلك، ناهيك عن
التوتر على خط تل أبيب- واشنطن بعد السياسات الداخلية والفلسطينية لحكومة نتنياهو
الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل.
إذن استفادت
الصين من حاجة الطرفين إلى الاتفاق لتكريس حضورها والحفاظ على مصالحها الضخمة في
المنطقة، بينما في الحيثيات بدا لافتاً جداً استرجاع أو استحضار اتفاق 2001 الأمني
في جوهره، للإعلان عن تطبيع العلاقات بين البلدين، علماً أن تفحص خلفياته وحيثياته
تضيء أو تشرح لنا جوانب خفية في الاتفاق الأخير.
وقفت إيران خلف
تفجير الخُبر الدامي في العام 1996، الذي استهدف مجمعا سكنيا لموظفين وخبراء أجانب
قرب مواقع شركة أرامكو النفطية، وأوقع قتلى سعوديين وأجانب، وكان شبيهاً إلى حد ما
بالقصف الإيراني الأخير للمناطق نفسها، وآنذاك أيضاً لم تفكر السعودية بالردّ
ولكنها جمعت أدلة وبراهين وبالأسماء عن تورط أفراد من الحرس وحزب الله في التخطيط
والتنفيذ العملية.
السعودية القديمة
كانت تتصرف بذهنية "آخر العلاج الكي"، وسعت إلى تحاشي الصدام العلني والتوصل إلى تفاهمات مع الرئيس محمد خاتمي، المنزعج أيضاً من تصرّفات وممارسات دولة
"الحرس" الموازية خارج سلطاته، والراغب في مواصلة ما بدأه سلفه أحد
مؤسسي الجمهورية هاشمي رفسنجاني لجهة نقل البلاد من مرحلة الثورة إلى الدولة،
والانفتاح على المحيط العربي والإسلامي، وتجاوز مرحلة الحرب العراقية الإيرانية،
وأفكار تصدير الثورة والأجواء التي صاحبتها.
تلاقت الرغبات آنذاك
والحوار كان ثنائيا مباشرا بدون وسطاء، وأثمر اتفاق 2001 عن التطبيع وعودة
العلاقات إلى مستواها العادي، بينما كان جوهره أمنياً صرفاً استند إلى محاربة
الإرهاب، ومراقبة الحدود وتطبيع كامل للعلاقات وتعاون تجاري، مع تعهد إيراني بدا
أشبه بدفع الدية لعدم تكرار الحدث مرة أخرى أو تهديد أمن السعودية، مقابل عفو
وتنازل السعودية، وعدم تصعيد الملف إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الإقليمية
والدولية ذات الصلة.
استمرت سيرورة
العلاقات الهادئة بين إيران والسعودية لعِقد تقريباً، أي خلال ولايتَي محمد خاتمي
الذي واصل بحماس سياسة الانفتاح تجاه الدول الخليجية والعربية. وشخصياً كنت شاهداً
في تلك الحقبة على لقاء فلسطيني إيراني مع وزير الخارجية كمال خيرازي، تحسبت خلاله
بعض الفصائل المحسوبة على دمشق من تأثير الانفتاح تجاه السعودية على الدعم لها بموازاة
خطاب إيراني رسمي تضمن نفي تقديم أي دعم عسكري -كان محدوداً فعلاً آنذاك- بل
إنساني، وبالمقابل إظهار الدعم السياسي لكل ما يتوافق عليه الفلسطينيون دون وصاية
أو تدخل وتعالٍ من قبل إيران وأذرعها الإعلامية التي لم تكن قد تضخمت أصلاً إلى هذا الحد.
دفع مأزق النظام الإيراني وأزماته الداخلية والخارجية واحتياجه للصين إلى التهدئة مع السعودية لتخفيف عزلته الإقليمية والدولية، وقبول العودة إلى روح اتفاق 2001 دون تذاكٍ، والتعهد بعدم تهديد السعودية مباشرة أو عبر أدواتها وأذرعها الإقليمية خاصة من اليمن، والتعهد بوقف تهريب السلاح إلى الحوثيين
اختلفت الأمور كلياً
مع تولى أحمدي نجاد الرئاسة بعد خاتمي في العام 2005، ثم تزوير انتخابات 2009 الرئاسية
وهيمنة الحرس والدولة الموازية على السلطة بشكل تام، وإقصاء تام للمعارضين ولو تحت
سقف النظام نفسه، والذي وصل إلى حد التخلص وحتى قتل أحد مؤسسي الجمهورية، الرئيس
هاشمي رفسنجاني غرقاً -2017- كما تقول ابنته فائزة دوماً، بينما تم رفع لافتة
شهيرة في قم ذات مرة هددت الرئيس حسن روحاني بالمصير نفسه.
تزامن ذلك كله مع
اندلاع الثورات العربية وهيمنة الدولة الموازية على السلطة بل السلطات كافة بشكل
تام، مع نجاح تسهيل انتخاب المحافظ المعتدل نسبياً حسن روحاني -2013- فيما بدت
فترة انتقالية قبل انتخاب إبراهيم رئيسي، علماً أنه من خرّيجي الدولة الموازية،
واستغلال الظروف المستجدة لمزيد من التوسع الخارجي وتهديد أمن السعودية ودول
الخليج، وصولاً إلى إعلان إقامة الإمبراطورية الفارسية التي عاصمتها بغداد حسب
التعبير الشهير لعلي يونسي، أحد مستشاري الرئيس روحاني المحسوب أصلاً على
المحافظين المعتدلين.
بالعموم دفع مأزق
النظام الإيراني وأزماته الداخلية والخارجية واحتياجه للصين إلى التهدئة مع السعودية
لتخفيف عزلته الإقليمية والدولية، وقبول العودة إلى روح اتفاق 2001 دون تذاكٍ، والتعهد
بعدم تهديد السعودية مباشرة أو عبر أدواتها وأذرعها الإقليمية خاصة من اليمن،
والتعهد بوقف تهريب السلاح إلى الحوثيين.
مع ذلك لا يمكن
الحديث عن تغيير في السياسات الإقليمية، حيث ستستمر الخلافات أو التباينات بين
الرياض وطهران لكن دون تصعيد أو صدام وقطيعة، مع قنوات مفتوحة للحوار المباشر ومحاولة
حلّ نقاط الخلافات الثنائية مثل أمن الحدود والإرهاب والنفط وما إلى ذلك.
الاتفاق مع إيران كان تعبيراً عن تعثر طريق الرياض إلى واشنطن المار بتل أبيب، لكن العلاقات والاتصالات بين الجانبين ستستمر بعيداً عن العلن عبر تعاون ثنائي أمني وتكنولوجي أساساً؛ ليس موجهاً ضد طرف ثالث بعينه. ولكن إذا أرادت أمريكا أو حتى إسرائيل ضرب إيران فلتفعل، غير أن السعودية لن تتورط أو تشارك في ذلك بأي حال من الأحوال
بالمقابل لن يؤدى
الاتفاق مع إيران بوساطة صينية إلى قطيعة سعودية أمريكية، حيث بدا لافتاً الإعلان في
نفس الأسبوع عن التوقيع على صفقة ضخمة تشترى الرياض بموجبها طائرات مدنية من شركة
بوينغ بقيمة 37 مليار وبمباركة معلنة من البيت الأبيض.
وفيما يخص العلاقة
السعودية الإسرائيلية، فلا شك أن الاتفاق مع إيران كان تعبيراً عن تعثر طريق
الرياض إلى واشنطن المار بتل أبيب، لكن العلاقات والاتصالات بين الجانبين ستستمر
بعيداً عن العلن عبر تعاون ثنائي أمني وتكنولوجي أساساً؛ ليس موجهاً ضد طرف ثالث
بعينه. ولكن إذا أرادت أمريكا أو حتى
إسرائيل ضرب إيران فلتفعل، غير أن السعودية لن تتورط أو تشارك في ذلك بأي حال من
الأحوال.
في كل الأحوال ستلتزم
إيران بالاتفاق، حيث كانت الدولة الموازية والمتنفذة والممسكة فعلياً بالسلطة
حاضرة ووقعت الاتفاق عبر علي شمخاني، أمين عام مجلس الأمن القومي الذي يهيمن عليه
الحرس الثوري والتابع للمرشد علي خامنئي مباشرة، علماً أنها -أي الدولة الموازية- تقود
البلاد رسمياً ومنذ سنوات، وهي لا تستطيع في ظل ضعفها وأزماتها التفريط بالعلاقة
مع الصين القوة العظمى الوحيدة القادرة على المساعدة وتوفير رئة بل رئات لها
للتنفس، في مواجهة العزلة الخانقة والعقوبات الدولية الصارمة المفروضة عليها.