قلنا مراراً ونكرّر: ديمقراطيتهم فاسدة من أساسها، إذ هي ديمقراطية بصاعين ومكيالين. إنها «دولة يهودية ديمقراطية» أي أن
الديمقراطية فيها محصورة باليهود على نسق ديمقراطية أثينا الإغريقية أو الديمقراطية الأمريكية الأصلية، اللتين كانتا قائمتين على الاستعباد.
لكنّ قسماً كبيراً من المواطنين الحقيقيين في الدولة الصهيونية، أي اليهود منهم فقط، غيورٌ على ديمقراطيتهم على الرغم من أنها قائمة على تناقض صارخ. وقد ملأوا الساحات خلال الأسابيع الأخيرة تصدّياً لسعي حكومة الائتلاف بين الفاشيين الجدد والنازيين الجدد وراء تقويض ديمقراطيتهم، أو الإنقاص منها على الأقل. لا بل كان أبرز المدافعين عن الديمقراطية
الإسرائيلية ضباط احتياط، لاسيما من المنتمين إلى القوات الخاصة (قوات الكوماندوس) وسلك المخابرات وسلاح الطيران، وهم الذين فرضوا على بنيامين نتانياهو التراجع عن قراره.
إنه لمشهدٌ مذهلٌ حقاً لمن يراقبه وباله في منطقتنا العربية. تصوّروا لو كان العسكر لدينا في طليعة المدافعين عن الديمقراطية، حتى ولو بحدودها المحلّية الدنيا، بدل أن يكون شغلهم الشاغل خنقها والاستئثار بالسلطة وسيلة للنعم بامتيازات وضروب من الفساد، كادت تلك التي اقترفها نتانياهو تبدو بسيطة للغاية مقارنةً بها.
بل تصوّروا لو كان شعب
تونس، على سبيل المثال لا الحصر (ويُضرب بشعب تونس المثل لأنه كان حتى وقت قريب قدوة في الديمقراطية في منطقتنا) لو كان شعب تونس، أو قسم عظيم منه، قد انتفض وملأ الساحات بإصرار، تصدّياً لإطاحة قيس سعيّد بالديمقراطية التونسية (بالرغم مما يشوبها من نواقص) بدل أن تصفق له أغلبية واسعة مثلما جرى في صيف عام 2021. بل وتصوّروا لو أن قادة الأجهزة المسلحة التونسية، من جيش وقوى أمنية، أنذروا سعيّد بوقف مسرحيته السلطوية بدل أن يحيطوا به وهو يلقي البلاغ الأول عن انقلابه، مسخاً للانقلابات العسكرية التي تكاثرت في منطقتنا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
فيا تُرى، كيف يفسَّر أن شعوبنا تبدو وكأنها لا تكترث للديمقراطية سوى لفترة محدودة، على غرار هؤلاء البشر الذين يعجزون عن التركيز على مهمة ما أكثر من وقت محدود؟ فكيف بشعب تونس الذي خاض نضالاً رائعاً في عام 2011 من أجل تحقيق الديمقراطية، يتحوّل بغالبيته بعد عشر سنوات إلى جمهور من المصفقين لانقلاب كاريكاتوري ادّعى تمثيل المصالح الشعبية؟ بل وكيف بشعب مصر الذي أطاح بحسني مبارك في عام 2011 من أجل نيل حريته بنضال غدا مثالاً يُقتدى به عالمياً، يتعامى بعد عامين ونيف عن عودة العسكر إلى الإمساك بزمام الأمور بحجة الدفاع عن المصالح الشعبية؟
في الحقيقة، العلّة الأساسية هي في القوى السياسية الجماهيرية القائمة لدينا والتي يُفترض بها أن تكون حريصة على تحقيق الديمقراطية. فإن غالبية القوى السياسية الجماهيرية لدينا (والقوى النقابية جزء منها) لا تدافع عن الديمقراطية سوى عندما تتعارض الدكتاتورية القائمة مع مصالحها، ولا تتردّد في الترحيب بانقلابٍ على الديمقراطية لو ظنّت أنه سيحقق مصالحها. هذا بالضبط ما رأيناه في مصر سنة 2013 وفي تونس سنة 2021: قوى سياسية جماهيرية طالما ناضلت ضد سلطوية حسني مبارك أو زين العابدين بن علي، تتحوّل إلى التصفيق لانقلاب على الديمقراطية امتعاضاً مما أنجبته هذه الأخيرة من خيبة أمل على صورة جماعة تحاول الاستئثار بالسلطة باسم الدين مثلما شهدت مصر، أو طاقم من الساسة الفاسدين يتنازعون على حكم البلاد كما عرفت تونس.
تنقص القوى السياسية الجماهيرية لدينا ثقافة تتأصل بها قيمة الديمقراطية، على غرار الموقف الديمقراطي الصميم الذي يقول: «أكره رأيك، لكنني سوف أناضل من أجل حقك في التعبير عنه». وهذا ليس تفانياً لأجل الغير، بل إدراكاً ناضجاً للمصلحة الذاتية: فإن الديمقراطية خيرٌ لمعظم الناس، سواء أكانوا من الفائزين بالسلطة من خلالها أم من المعارضين في ظلّها، بينما يرتدّ اغتيال الديمقراطية مصيبةً على الجميع، عدا الحفنة المستأثرة بالسلطة والمستفيدة من مغانمها.
وتقدّم مصر بعد ما يقارب عشر سنوات من حكم عبد الفتّاح السيسي نموذجاً حياً عن هذه القاعدة، حيث استحال النظام الجديد كابوساً ليس على الإخوان المسلمين الذين أطاح العسكر بحكمهم وحسب، بل على كافة القوى السياسية غير المشاركة في حكم السيسي، بما فيها القوى التي دعمت انقلابه من باب التوهّم بأن العمود الفقري للدولة الاستبدادية يستطيع أن يستحيل صانعاً للديمقراطية. وهو الوهم ذاته الذي امتلك بعض القوى الأساسية التي بدأت الآن تمتعض من حكم سعيّد بعد أن رحّبت بانقلابه.
إن الأمر ذاته يتكرّر اليوم في السودان، حيث نرى بعض القوى التي عارضت الحكم العسكري بعد الانقلاب الأحدث على المسار الديمقراطي، ذاك الذي قام به العسكر قبل عام ونصف، نراها تنضم إلى تسوية ملغومة من شأنها أن تُديم الحكم العسكري مقابل إشراك القوى المذكورة بفتات المائدة. أما ميزة السودان، فهي أن فيه قسماً عريضاً من الحركة الشعبية، والشبابية على الأخص، متمسك بعناد بغاية تحقيق الديمقراطية التامة غير المنقوصة، التي تعني سلطة الشعب بشروط من الحرية وصون الحقوق السياسية لا بدّ منها كي لا تفنى الديمقراطية بسرعة ذبول الورد.
القدس العربي