أحب
المصريون رمضان، فأضافوا عليه من
صفات التجسيد، وجعلوه بشرًا، ينتظرون زيارته من العام للعام، فلا يتساءل المصريون
عن موعد رمضان بالسؤال بمتى، ولكنهم يسألون بالسؤال بضمير تشخيصي وفعل حركي فيقولون:
"هو رمضان جاي إمتى؟".
ولأنهم شخصوه وجسدوه لتلك الدرجة، فيعز
عليهم ألا يحسنوا استقباله وضيافته، لذلك، كان الحزن مخيمًا على الوجوه بعض الشيء
حين نزلت وتمشيت في شارع السد بالسيدة زينب، وشارع تحت الربع والخيامية بالدرب
الأحمر، حيث يتركز النشاط الرمضاني السنوي من بيع الزينة والفوانيس في تلك
الشوارع، ولأنني فرد في أسرة مسلمة تريد أن تحسن استقبال رمضان، شعرت بذلك الجرح
الذي يمنعنا الاحتفاء بقدومه كما ينبغي بسبب أن أولويات الأكل والشرب أصبحت طاحنة،
فسوق الزينة الرمضانية هذا العام يشهد ازدحام الناس المعتاد، وفراغ جيوبهم غير
المعتاد.
اظهار أخبار متعلقة
نحن لسنا سارقين
منذ أن نزل سوق العمل في العاشرة من
عمره، لم يعرف "ربيع" نشاطًا آخر سوى بيع
الفوانيس في الموسم الرمضاني،
وصناعتها قبل الموسم، يُقسم أن طيلة عمره في المهنة الذي قارب العشرون عامًا لم
يشهد موسمًا أحلك من هذا.
تلك الطبيعة الحساسة لعمله، ولمن هم
مثله، تجعل فكرة "الموسم" مجازفة كبيرة للذين ينشطون في مهنة تصنيع
الفوانيس، فأما يحققوا مكاسبهم في موسم الشراء والذروة، وأما سينتظرون سنة كاملة
يكابدون فيها الخسارة ويحاولون فيها النجاة.
ضربت أزمة الدولار صناعتهم، وهو ما لن
يصدقه الكثير من الناس لأننا نعرف أن صناعة الفوانيس تحقق لنا اكتفائنا، بل تفيض
ونصدرها، وليس استيراد الفوانيس الصينية سوى تشكيلات وتنويعات على ما هو موجود
لدينا أساسًا، فيمكنك دومًا أن تترك الصيني وتشتري المصري دون مشكلة، ودون انخفاض
في مستوى الجودة.
صرح بركات صفا نائب رئيس شعبة الأدوات
المكتبية ولعب الأطفال بغرفة القاهرة التجارية بأن أسعار الفوانيس شهدت ارتفاعًا
عن العام الماضي قد يصل إلى 50 بالمئة و60 بالمئة وذلك بسبب غلاء الخامة المستوردة
من الصاج والزجاج والأدوات الكهربائية التي تدخل في ألعاب الصوت والضوء بالفانوس، وهو
ما انعكس على حركة الإنتاج في الداخل التي عانت من عجز يقترب إلى 3 مليون فانوس
أقل عن إنتاج العام الماضي الذي بلغ 5 مليون فانوس.
ويعوض الصناع النقص في الإنتاج، من
فوائض إنتاج العام الماضي، لكن المشكلة الحقيقية التي تواجههم في بيع القديم هي
معضلة السعر، فكيف يبيع شيء تكلف خاماته وصناعته على أسعار مطلع العام 2022 بأسعار
العام 2023 وما حدث خلال ذلك العام الطويل الشاق للمصريين من خفض لقيمة العملة، ما
يضطر الباعة لرفع السعر الحقيقي لفانوس العام الماضي، إلى سعر العام الماضي.
اظهار أخبار متعلقة
لن نأكل "فوانيس"
الانطباع الذي يتكون لديك بعد أن تتمشى
قليلًا، وتكلم الباعة قليلًا، أن الناس تسأل عن الأسعار ولا تشتري. أنا مثلهم، لم
أشتر أي شيء، وقرر أبي أن يلجأ إلى حل اقتصادي بإخراج الفانوس الخيامية القماشي
منذ العام الماضي، وأمتار الزينة، ويغسلها، ويكويها، وبذلك تصبح جاهزة للتزيين مرة
أخرى وكأنها جديدة، فنحن مضطرون والمهم البهجة.
السيدة سميرة في منتصف الخمسينيات،
زوجها موظف حكومي، حينما سألتها لماذا لم تشتر الفانوس الذي تماطل في سعره منذ وقت
طويل، أجابتني بأنها لن تأكل الفوانيس، مشيرة إلى أن الفانوس بسعر 250 جنيها ويمكن
أن تضاف إليها 250 أخرى على الزينة لتزيين المنزل.
وأكدت أنها تفضل شراء 2 كيلو من اللحمة
على أن تتكلف في شراء الفانوس وزينة رمضان.
يبدو المنطق حاضرًا في كلامها، ولكنه
ليس منطق اقتصادي ضد الاستهلاك، ولكنه منطق محكوم بالقهر والفقر والأزمة التي
عاقتها عن أن تُظهر بهجتها في بيتها لاستقبال شهر رمضان الكريم هذا العام.
ولكن هناك من يشترون بالفعل، وبخبرة
ابن المنطقة، تعرف من مظهرهم الخارجي العام أنهم من أبناء الطبقة العليا، فلازالوا
قادرين على الشراء، لذلك لم أهتم للحديث معهم كثيرًا، بقدر اهتمامي بالحديث مع
الأستاذ علاء، المدرس في التربية والتعليم الذي يبدو أنه آثر شراء الفوانيس رغم كل
المشاكل.
بينما كنت أواصل جولتي، اصطدمت
بالفانوس العملاق الذي أثار سخرية المصريين على السوشيال ميديا في الفترة الأخيرة،
حيث علق عليه صاحبه لافتة كتب عليها: "الصورة بخمسة جنيه". ضحكت
للمفارقة الساخرة، فها هو صاحب المحل يراوغ الفشل الذي يحدق بموسمه، وبدلًا من أن
يبيع ذلك الفانوس العملاق لفرد واحد لن يقدر على شرائه، قرر أن يبيع الصورة إلى
جواره كوسيلة لجمع تكلفته أيضًا، وحينما وجدت من هو واقفًا ليلتقط صورة بالفعل،
رثيت لحال المصري الذي لم يعد قادرًا سوى على التقاط صورة بجوار زينة رمضان التي
اعتاد أن يزين بها بيته.