كشف تقرير منظمة (فريدوم هاوس) الأمريكية غير الحكومية الصادر في آذار/مارس الجاري عن تراجع كبير في قيم
الديمقراطية في العديد من دول العالم، ومقارنة بين أول تقرير للمنظمة صدر عام 1973، عندما نشرت (فريدوم هاوس) أول تقييم شامل للحقوق السياسية والحريات المدنية، تم تصنيف 44 دولة فقط من أصل 148 دولة على أنها حرة.
اليوم هنالك 84 من 195 دولة حرة. وتظهر المسارات المتنوعة التي اتبعتها هذه البلدان، أنه لا توجد طريقة واحدة لتحسين أو حماية الحقوق السياسية والحريات المدنية. ومع ذلك، فإن الحكم الرشيد القائم على ما تفرزه
انتخابات ذات مصداقية وتنافسية وحرة ونزيهة، لا يزال السمة المميزة للديمقراطية وضمانا لفوائدها المرتبطة بها.
يشير تقرير (فريدوم هاوس) إلى أنه أصبح من الصعب تعزيز المؤسسات الديمقراطية الناشئة في العقود الأخيرة، إذ ظل الكثير من البلدان حرا جزئيا بدلا من التحرك نحو التحول الديمقراطي الكامل. 50 عاما من البيانات التي أنتجتها منظمة (فريدوم هاوس)، تقدم دليلا مشجعا على أن التقدم الديمقراطي ممكن دائما، طالما كانت لأربعين دولة موجودة اليوم مكانة حرة في التقرير، في حين أن 12 دولة فقط اليوم كانت دائما غير حرة، وإن البلدان الحرة تميل إلى البقاء حرة لعقود من الزمن، والبلدان غير الحرة والحرة جزئيا أقل ثباتا، وغالبا ما تعاني من موجات من التحرر أو القمع، تنقلها من فئة إلى أخرى.
كما يشير تقرير (فريدوم هاوس) الأخير إلى أن انتفاضات الربيع العربي عام 2011، التي بدأت بطرد الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي، وأثارت أملا جديدا في التحول الديمقراطي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، انتهت بخيبة أمل، إذ وافق ملكا الأردن والمغرب على إصلاحات دستورية متواضعة، أو وهمية في محاولة لنزع فتيل الاستياء الشعبي من بلديهما، بينما تحرك الحكام الوراثيون في منطقة الخليج العربي الغنية، للقضاء على أي جمر معارضة في الداخل، ومساعدة الشركاء الاستبداديين في أماكن أخرى. بينما قامت قوات الأمن بقمع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في ليبيا وسوريا واليمن، وتحول العنف الذي أعقب ذلك إلى حروب أهلية، أصبحت أكثر فوضوية بسبب التدخلات الأجنبية المتعددة. وبعد عامين من الثورة في مصر، أطاح الجيش بالرئيس المنتخب عبر انقلاب عسكري، وأنشأ نظاما استبداديا جديدا أكثر قمعا.
الوضع في الصين كان له حصة الأسد من تسليط الضوء في التقرير، لأن الصين من بين 57 دولة غير حرة في العالم، تحتل مرتبة قريبة من القاع المطلق، من حيث الحقوق السياسية والحريات المدنية بشكل عام، إذ حطّمت الدبابات الحركة الديمقراطية التي انطلقت في حراك الشباب والطلبة في ساحة تيانانمين في بكين في عام 1989، وقد أدى خوف الحزب الشيوعي الصيني من تجدد الدعوات للحرية إلى تصعيد حملات القمع ضد عدة أهداف، بمن في ذلك المنشقون في البر الرئيسي والأقليات العرقية والدينية وشعب هونغ كونغ، لكن رفض بكين للانتخابات التنفيذية المباشرة في هونغ كونغ في عام 2014، أدى إلى سلسلة من الاحتجاجات الضخمة التي أشارت إلى دعم شعبي ثابت للاقتراع العام. كما أن التغيير العرقي القسري بات سياسة رسمية للحزب الشيوعي الصيني (CCP)، الذي يهدف إلى تفكيك الثقافات والتجمعات الجغرافية للأقليات العرقية في شينغيانغ والتبت ومنغوليا الداخلية. وعلى الرغم من حملات القمع ضد المظاهرات الكبيرة والصغيرة، تستمر الاحتجاجات من جميع الأنواع في جميع أنحاء البر الرئيسي للصين. إن الحاجة إلى الحفاظ على السيطرة من خلال القوة الساحقة، والافتقار إلى آليات لتخفيفها، يمكن أن تتعارض مع قدرة المستبد على تعديل سياساته استجابة للإحباطات العامة. وقد أوضحت تجربة الصين الكارثية مع سياسة «عدم وجود كوفيد» التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني، ما يمكن أن يحدث للأشخاص المحاصرين في نظام استبدادي يركز بشكل أكبر على إجبار رعاياه على الطاعة المطلقة بدلا من ضمان رفاهيتهم.
ادعى الرئيس شي جين بينغ، الذي تولى السلطة منذ عام 2012 وحصل على فترة ولاية ثالثة كزعيم للحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول/أكتوبر 2022، مرارا وتكرارا، أن النظام السياسي الصيني يتفوق على الديمقراطية الغربية في توفير الاستقرار والازدهار وحتى الحماية من انتشار كوفيد 19، ففي التعامل مع التهديد الصحي، اعتمد مسؤولو الحزب الشيوعي الصيني على أدوات القمع المفرط، ووسعوا استخدام تقنيات المراقبة، وفرضوا الحجر الصحي الجماعي على مدن بأكملها، حيث قيدت بشكل غير متناسب
حرية التنقل، وغالبا ما تهدد الوصول إلى الغذاء والرعاية الطبية. في كانون الأول/ديسمبر 2022، تخلى النظام في الصين فجأة عن قيود كوفيد الصفرية، من دون إعداد كافٍ. وفي نهاية الشهر، ظهرت تقارير عن مستشفيات غارقة في الكارثة وما يصل إلى مليون إصابة جديدة يوميا. لقد كانت الانخفاضات الدراماتيكية في الحقوق السياسية والحريات المدنية، خلال عام 2022 مدفوعة بالاعتداءات المباشرة على المؤسسات الديمقراطية، سواء من قبل القوات العسكرية الأجنبية، أو المسؤولين الحاليين في مواقع السلطة العليا، فقد شكلت الحرب والانقلابات والاستيلاء على السلطة مرارا وتكرارا تهديدا وجوديا للحكومات المنتخبة في جميع أنحاء العالم.
تم دفع الأوكرانيين بعنف إلى قلب النضال العالمي للدفاع عن الديمقراطية ضد الاستبداد، بعد أن أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الاحتلال غير القانوني للأراضي الأوكرانية في شبه جزيرة القرم وشرق دونباس عام 2014، وبعد إقدامه في شباط/فبراير من العام الماضي 2022 على غزو واسع النطاق للبلاد. ومهما كانت المبررات الكاذبة لهذه الحرب العدوانية التي أصدرتها وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة في الكرملين، فإن هدفها الواضح هو عزل القيادة المنتخبة في كييف وحرمان الأوكرانيين من حقهم الأساسي في الحكم الحر. كانت الحرب، كما قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كارثة باهظة الثمن. إذ تسبب بوتين في مقتل وإصابة آلاف المدنيين الأوكرانيين، وكذلك الجنود من كلا الجانبين نتيجة رغبته في تدمير الديمقراطية في أوكرانيا، وحرمان الأوكرانيين من حقوقهم السياسية وحرياتهم المدنية، وتدمير الهياكل الأساسية الحيوية، وتشريد الملايين من الناس من ديارهم، وانتشار التعذيب والعنف الجنسي، وتكثيف أعمال القمع القاسية أصلا داخل روسيا. لقد أظهرت الأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها موسكو أن قابلية الحكومات الاستبدادية على ارتكاب الأخطاء، وليس فقط حقدها، يمكن أن تلحق خسائر فادحة بحياة الإنسان، إذ جعل الفساد والإجرام والقيادة الضعيفة الجيش الروسي أكثر فتكا بالجنود والمدنيين على جانبي خط المواجهة، على الرغم من فشل القوة في تحقيق أهداف الحرب المعلنة، لذلك يجب تقييم أوجه القصور الاستبدادية بعيون واضحة. ومن غير المرجح أن تحكم هذه الأنظمة بشكل أكثر فعالية من الديمقراطيات، لكن أخطاءها تجعلها خطيرة للغاية.
كما تعرضت حرية التعبير، وهي عنصر أساسي من عناصر الديمقراطية، لهجوم مستمر في جميع أنحاء العالم على مدى العقدين الماضيين. ومن بين جميع المؤشرات التي تستخدمها منظمة (فريدوم هاوس) لتقييم الحقوق السياسية والحريات المدنية، انخفضت حرية وسائل الإعلام وحرية التعبير الشخصي بأكبر قدر منذ عام 2005. وقد تزامن هذا الهجوم مع الاستيعاب السريع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، التي كسرت فعليا احتكار وسائل الإعلام في العديد من الدول، ومع ذلك، وفي العديد من دول العالم، قمعت السلطات أشكالا جديدة من التعبير عبر الإنترنت بعقوبات قاسية، في محاولات لتحجيم دور الإعلام الجديد. وتشير منظمة (فريدوم هاوس) إلى تراجع حرية الصحافة المستقلة، وتضخم عدد البلدان والأقاليم التي تعاني من هذه الظاهرة من 14 إلى 33 خلال العقدين الماضيين من التدهور الديمقراطي العالمي، حيث واجه الصحفيون هجمات مستمرة من المستبدين ومؤيديهم، بينما تلقوا حماية غير كافية من التخويف والعنف حتى في بعض الديمقراطيات. جلب العام الماضي المزيد من الشيء نفسه، حيث تعرضت حرية الإعلام للضغط في 157 دولة وإقليما على الأقل، تم تقييمها بواسطة المنظمة.
القدس العربي