من العسير أن يختار شخصٌ مثلي (طبيبٌ) نقطة بدايةٍ للكتابة عن مسلسلٍ موضوعُه طبيبٌ شابٌّ يبدأ حياتَه العملية في وزارة الصحة
المصرية ليواجهَ الصعوباتِ الغريبةَ المضحكة المُبكِية التي اشتُهر بها القطاع الصحي الحكومي في مصر، إلّا أنّ الحلقة الأخيرةَ التي أُذيعَت قبل ساعةٍ من شروعي في كتابة هذه المراجعة تحملُ نقطةَ التماسّ الأعنفَ بيني وبين
المسلسل، فكما أنّ الطبيبَ الجديدَ الذي وصلَ إلى القرية محلّ الأحداث (طرشوخ الليف) - ليتسلّم إدراةَ الوحدة الصحية من البطل (د. عاطف، الذي قامَ بدَوره عصام عمر) - قد أُصيبَ في حادثٍ مروريٍّ يومَ وصولِه، أُصبتُ أنا في حادثٍ لا يقلُّ عنفًا يومَ وصولي طبيبًا مُقيمًا مؤهَّلًا إلى مستشفى إدفو العامّ في 2015، لأقضيَ الأشهُر الأربعةَ التي يتطلّبُ القانونُ قضاءَها في "أماكن نائية" تمهيدًا لترقيتي إلى اختصاصيٍّ للجراحة العامة! ومن الحلقة قبل الأخيرة تقريبًا تأتي نقطةٌ أخرى مضحكة مبكية، فكما يراوغ الأستاذ عبد البديع (جسَّدَه محمد محمود) السيارات بسيارة الإسعاف التي يقودُها للَّحاق بوحدةٍ صحيةٍ قريبةٍ يُودعُ لديها التطعيماتِ المهدَّدةَ بأن تَفسَدَ لانقطاع التيار الكهربائي عن قرية طرشوخ، فيقول له البطل "انت بتعمل غُرَز ليه؟ هو احنا ف زفّة؟!" أذكرُ جيّدًا أنّ حادثَ وصولي إلى إدفو كان بسبب قائد سيّارةٍ تُقلُّ عروسَين في زفافهما، وكان بدَوره (يغرِّز) تحيةً للعروسين، على (كوبري إدفو) على النيل، فاصطدم برتلٍ من السيارات بينها سيارةُ الأجرة التي كنتُ أستقلُّها، ونجمَت عن ذلك إصاباتٌ متفاوتة الخطورة، بين جروحٍ سطحيةٍ ووفاة.
المسلسل يفضح واقعًا مصريًّا متردّيًا مَهما قِيل في محاولة تجميلِه: تفشّي الجهل ولاسيّما الجهل الصحّي، ازدهار الدجَل، فقدان الثقة بين الناس والمؤسسات الرسمية، نقص إمكانيات الأماكن العلاجية الحكومية، إسناد الأمر إلى مَن لم يؤهَّل له على نحوٍ كافٍ، التعقيد الإداري (البيروقراطي) الأجوف الذي يُشيع مُناخ العدائية بين زملاء العمل ويُحيل بيئة العمل إلى ساحة عِراكٍ تافه، إلى غير ذلك. أضِف إلى هذه المَظاهر بُعدَ قرية الأحداث عن المدينة، ما يجعلُها في مصر محرومةً بالضرورة من كثيرٍ من الخِدمات الحيوية، ولا أنسى تحذير أحد أساتذة الصحة العامّة في كلّيّتي: "يا ولاد كلّ ما تقديركم التراكمي قَلّ، كلّ ما كان مصيركم في نجعٍ من النُّجوع!" كان كلامُه قاسيًا بلا شكٍّ، لكنّه كان واقعيًّا، وفي رأيي أنّ عشرين عامًا قد مرَّت على نُطقِه به لم تغيِّر من واقعيّتِه إلا قليلًا، إن كانت قد غيَّرَت.
لقد قرر الكاتب (د. أحمد عاطف فياض) أن يَجمعَ على بطلِه الذي يحملُ اسمَه (عاطف) هذه البَلايا كُلَّها، بحيث تُوقِعه طِيبتُه المُفرطةُ فيها، فتكون أشبه بما يسميه أحدُ أساتذتي الجرّاحين في المستشفى الذي أعمل به "خوازيق شفّافة"!
تضافرَت كتابةُ فيّاض وإخراج (عُمَر المهندس) في تقديم عملٍ مشوِّقٍ تمامًا، فالمَشهد يسلّم المُشاهِد لِما يَليه محمّلًا بالترقُّب، والحلقةُ تتركُ متابعَها متشوّقًا إلى تالِيَتِها ليعرفَ مآلَ الأحداث المعلَّقة، والمدهش أنّه العمل الأول الذي يُنتَج لفيّاض الذي بَنى مخططَه على روايتِه هو "
بالطو وفانلّة وتاب"، وهو كذلك الأوّلُ لعمر المهندِس مُخرجًا بعد أن ساعد في إخراج أعمالٍ سابقة.
أمّا اختيار الممثلين فقد جاء موفّقًا للغاية، كأنه يَنقلُ قطاعًا حقيقيًّا من المصريين بوجوههم وأجسادهم وتعبيراتِهم إلى الشاشة، أو كأنّ الأدوارَ قد أُسنِدَت إلى أشخاصٍ حقيقيين (لا ممثّلين) يقومون بهذه الأدوار في الواقع، على غِرار ما ابتكرَه تاريخيًّا المُخرج السوﭬـياتّي العظيم سرجي إيزنشتِاين (1898-1948) في فِلمه "المدمّرة پوتِمكِين" مِن اختيار مَن يجسّدون الأدوار بناءً على مظهرِهم فيما سمّاه الاختيار التنميطي Typage/ Typecasting! فالبطل (عصام عمر) الفارع الطول ذو الملامح الجادّة مُوحٍ تمامًا بخرّيج الطبّ الذي قضى أعوامَ دراستِه بين البيت والكلّيّة لا يعرفُ من الدنيا إلّا هما، و(محمود حافظ) في دور (د. سمير)
طبيب الأسنان المتنمِّر المتبجّح قد رسمَ نفسَه في الدور ببراعةٍ على الأصعدة كافّة، و(مريم الجندي) بملامحها الحادّة البريئة في آنٍ هي بالضبط الصيدلانيةُ الشابّة يقِظة الضمير القوية الشخصية، و(عارفة عبد الرسول) بملامحها الصارمة التي أبرزَتها تمامًا تعبيراتُ وجهِها وطريقةُ كلامِها وغطاء رأسِها هي رئيسُ التمريض الشديدةُ الجادّة التي يخشاها الجميع ويعملون لها ألف حساب.
هذا، فِيما واصلَ (محمود البزّاوي) إتقانَه الخلّابَ لأدوارِه جميعًا، فأضافَ بصمتَه الفريدةَ في سجلّ الممثلين المصريين الذين جسّدوا دورَ المُشعوِذ الذي يدّعي العلاجَ بالقرآن وإبطالَ السِّحر، وقائمةُ هؤلاء تضمُّ أحمد زكي في "البيضة والحَجَر" وشوقي شامخ في مسلسل "لمّا التعلب فات"، إلى جوار آخَرين. وقد كرَّسَ أداؤه دَورَ الشيخ مرزوق تلك السّماتِ التي ارتبطَت بصورةِ هؤلاء الدجّالين في الوعي الجمعي المصري، من حركات العينين المفاجئة ونظراتِها المقتحِمة إلى هدوء الحديث إلى تهدُّج الصوت أحيانا. وينبغي ألّا ننسى الدور الفريد لمحمد محمود بوَصفِه هنا مسؤول دفتر الحضور والانصراف بالوحدة الصحية، ذلك الطيّب المتوافِق مع ما حولَه، المُبتلَى بابنِه المتبطّل مدمن المخدِّرات، فضلًا عن ضيوف الشرَف: سلوى خطّاب موظفة الرقابة الإدراية التي تحاول أن تكون جادّة، وسامي مغاوري صاحب البيت الذي يحترِق والذي يرفض الاستعانةَ إلا بالشيخ مرزوق، وعلى رأس ضيوف الشرف خالد الصاوي في دور الدكتور أشرف مدير الوحدة الأصلي الذي ماتَ مِيتةً غريبةً في الحلقة الأولى (سقطَت عليه مروحة السقف فجأة!)، والذي جسّد بأستاذيّةٍ الطبيبَ الذي أنساه طولُ وجودِه في بيئة عملٍ فقيرةٍ كثيرًا ممّا تعلَّمَه وأكسبَه كثيرًا من سِمات العشوائيّة.
وفي المسلسل خطوطٌ تبدو هامشيّةً لم تُضَف إلّا لتحريك الأحداث؛ كخطّ الغرفة الممنوع على عاطف دخولُها في سكَن الأطبّاء، والتي قِيل له إنّها منحوسة، حيثُ ينقطِع التيارُ الكهربيُّ عن الوحدة لحظةَ محاولتِه دخولَها فتبدأ مشكلة التطعيمات التي ذكرناها آنِفًا، وخطوطٌ أخرى قد يُقال إنها أضيفَت لخَلق تنفيسٍ كوميديٍّ لا غير، كالمَشاهد التي تجمع البطلَ بالفلّاح المُسِنّ الذي يُشاركُه شُربَ الشاي في الحقل ولا ينطقُ إلا مرّةً واحدةً قبلَ المَشهد الأخير متسائلًا عن سرّ الغرفة المنحوسة. لكنّ كِلا الخطّين يبدو رمزًا لطيفًا عميقًا رغمَ جوّ الكوميديا الصاخب، فالغرفةُ هي ذلك العبثُ الضارب بجذورِه في تربة العمل الحكوميّ. إنها اللامَنطقيّة التي نراها في كثيرٍ من الأماكن الخِدميّة في مصر، مجرّد تلازُم غير مبرَّر بين فعل تافه ونتائج فادحة! أمّا الفلاح الصامت صاحب الشاي فيكوّن مع عاطف ثنائيًّا كوميديًّا مؤقّتًا للغاية، يتماسّ مع تاريخ الثنائيات الكوميدية Double Acts التي حافظَت رغمَ اختلاف أطيافِها على نموذج الثرثار الخفيف (د. عاطف) إلى جوار نموذج الرصين الثقيل الذي لا يأبهُ بمحاولاتِ الثرثار الفاشلة (الفلّاح)، وهذا الثنائيّ بدَورِه رمزٌ على عبثيّةٍ أخرى، تتمثّل في شكوى الطبيب إلى مجتمعِه الكبيرِ ممّا يَلقاه من صعوباتٍ في بيئة عملِه العَدائيّة، وعدم التفات هذا المجتمَع إلى شكواه.
وممّا لفتَ انتباهي أثناء عرض المسلسل تصاعُد ردود الفِعل على تصوير الأوضاع السيئة في الوحدات الصحية، ووصفُها بالمبالَغة، كأنّ الكوميديا اختراعٌ جديدٌ على البشرية وكأننا لم نشهد شكلًا من أشكال المبالَغة والصُّدَف الغريبة في الكوميديا منذ ميلادِها! وكذلك دارَ بعضُ ردود الفِعل على عدم وجود قريةٍ اسمُها "طرشوخ الليف" في مركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ! والواقعُ أنّ المؤلّف كان مضطرًّا إلى اختيار اسم مركزٍ حقيقيٍّ ليُضفي مِسحةَ واقعيةٍ على العمل، لكنه في الوقت ذاتِه نَحتَ بذكاءٍ اسمَ القريةِ غريبًا مُثيرًا للضحك، مُجاريًا أسماء القرى المصرية المكوّنة من تركيبٍ إضافيٍّ، والتي ينحدِر إلينا مُضافُها من اللغة القبطية أو الرومانية أو اليونانية مُعرَّبًا فاقدًا معناه الأصليّ، فِيما يأتينا المضافُ إليه عربيًّا مفهومًا، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ لا علاقةَ لغرابتِها باحترامِنا لها، فهناك "تَفَهْنا العَزَب" و"مَشتُول السُّوق" وغيرهما. أمّا الاسم الذي تعجّلَ الإخراج في ظهورِه فهو اسم الوحدة الصحية التي قصدَها عاطف وعبد البديع في الحلقة التاسعة ليُودِعا فيها صندوق التطعيمات، حيث ظهرَ اسمها "الوحدة الصحية بأبو تيج"، مفترِضِين أنّ "أبو تيج" أقرب مكانٍ إلى "طرشوخ". لكنّ "أبو تيج" مدينة كبيرة تقع في محافظة أسيوط في صعيد مصر، أي تفصلُها عن مركز مطوبس بأكملِه مئاتُ الأميال!
ولا يسعُنا في النهاية إلا أن نهنّئ طاقَم المسلسل على نجاحِه المستحَقّ، وأخُصُّ المؤلّف د. فيّاض بتلك الجُملة التي أظنُّه يقدِّرُها بوَصفِه جرّاحَ عِظامٍ كما علِمت: "تسلم الأيادي يا دَكتَرة".