قضايا وآراء

غياب د. عمارة.. وأزمة المثقف الإصلاحي!

هشام الحمامي
سعى عمارة إلى تكوين ما يمكن تسميته بـ"المكتبة الصلبة"
سعى عمارة إلى تكوين ما يمكن تسميته بـ"المكتبة الصلبة"
حين يقول الأزهر الشريف إن غياب الدكتور محمد عمارة رحمه الله (ت: 28 شباط/ فبراير 2020م) ترك فراغاً "يصعب ملؤه" في صفوف كبار العلماء، الذين يحملون على عاتقهم أمانة العلم وصِدق الكلمة، وأن التاريخ سيظل يذكره، بعلمه وفكره الوسطي في تبليغ رسالة الله، والدفاع عن سماحة الإسلام ووسطيته وإعلاء شأنه، ودحض ما أثير عنه من شبهات، تشهد على ذلك مصنفاته المملوءة علماً وحكمةً ومعرفةً، وإسهاماته الكبرى في إثراء الفكر الإسلامي.. حين تخرج هذه الكلمات باسم منارة الأمة ومربط فؤادها وأهم مركز علمي وحضاري في التاريخ الحديث للأمة، سيكون علينا أن ننتبه دائما إلى ما تركه الرجل لنا من علم وفكر، وأن ننتبه أكثر للفراغ الكبير الذي تركه الرجل ولماذا يصعب ملؤه..

* * *
سنتان الآن مرتا على رحيل أحد أساطين الفكر الإسلامي المعاصر الذي مر وعبر في تجربته العريضة على كل الشوارع والطرقات والميادين الفكرية والتنظيمية وتلك وراء أعظم الأثر.. وليصبح بعد ذلك أحد أقوى وأصلب الأركان في الحياة الفكرية والثقافية العربية والإسلامية.. وليكون أحد أقوى المطارق التي هوت على أم رأس "الفكر التغريبي" بطريقة جعلت من الرجل خصماً لدوداً للغاية لعدد كبير من الإعلاميين والمثقفين والمفكرين الكارهين لقصة الإيمان والتدين في حياة أبناء أدم.

د. عمارة ينتمي إلى ما اصطلح على تعريفه بـ"المدرسة الوسطية".. هذه الوسطية التي تعني في أهم تعريفاتها "صفاء الرؤية" الخصيصة الأسمى للفكر الإسلامي والتي لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام بدونها.. وهو رحمه الله يعد من أهم منظري هذه المدرسة.. بل ويعد وأكثر تجلياتها قوة ووضوحا..
د. عمارة ينتمي إلى ما اصطلح على تعريفه بـ"المدرسة الوسطية".. هذه الوسطية التي تعني في أهم تعريفاتها "صفاء الرؤية" الخصيصة الأسمى للفكر الإسلامي والتي لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام بدونها.. وهو رحمه الله يعد من أهم منظري هذه المدرسة.. بل ويعد وأكثر تجلياتها قوة ووضوحا..

* * *
تيقن الرجل أن "العقل" هو خاصية الإنسان الأولى والأساسية، وبه يتحقق كماله الأسمى ليكون "مخلوق الله المختار".. فقضى أغلب عمره في تقديم "مشروع فكري" قائم على التعقل والتفكر والتدبر والتأمل وترتيب الأولويات وضبط المصطلحات، هادفاً إلى تكوين ما يمكن تسميته بـ"المكتبة الصلبة" للثقافة الإسلامية المعاصرة.. والتي كان المعتزلة تاريخياً أبرز رجالاتها، غير أنه وازن توازنا أمينا جامعاً بين الشرع والعقل.. بين الحكمة والشريعة.. بين كتاب الله المقروء (الوحي) وبين كتاب الله المنظور (الكون).. وهذه بالطبع توصيفات قرأناها كثيرا، لكنها مما لا يُمل منه، لأنها هي روح الأمة ذاتها وتاريخها وكل وجودها.

* * *
استطاع الرجل أن يزعزع الفكر العلماني/ اللا ديني من جذوره بآرائه الدقيقة القوية، والتي تحمل صيحة حق للمسلم الصادق صاحب العقل الشجاع والقلب الصلب والعلم الغزير.. وما أنتجه شاهد له ولنا وللأمة كلها على ذلك.

استطاع الرجل أن يزعزع الفكر العلماني/ اللا ديني من جذوره بآرائه الدقيقة القوية، والتي تحمل صيحة حق للمسلم الصادق صاحب العقل الشجاع والقلب الصلب والعلم الغزير
ولعل انتباهه المبكر لضرورة وصل مقومات وقوام تيار "الإصلاح في العصر الحديث" في نسيج واحد، يعد توفيقا كبيرا، ويقظة مليئة بالعقل والإخلاص، فاتجه إلى تحقيق الأعمال الكاملة لرواد النهضة تحقيقا علميا دقيقا ووضعها في مكانها الصحيح بالوعي التاريخي للفكرة الإصلاحية.. ستجد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي.. موصولين بقاسم أمين ورفاعة الطهطاوي وعلي مبارك رحمهم الله جميعا.. ناهيك عن عشرات الدراسات والتراجم لحياة كبار رجالات الإصلاح في تاريخ الأمة..

لقد طور الرجل نفسه بنفسه.. لا لنفسه، ولكن لأمته.. ويا سعده وتوفيقه وحظه وصدقه، من ينتبه إلى ذلك في الوقت الصحيح من إدراكه لذلك، فيفعل كل ذلك!

وأعتقد أن ذلك ليس فقط ثمرة طبيعية لـ"الإخلاص" بأفقه الروحي والديني الذي نعرفه ونرجوه، ولكنه أيضا ثمرة منطقية لـ"الإخلاص" بأفقه العلمي والفكري، الذي يعد من قوانين الحياة ونواميسها.. فهنيئا للرجل بإخلاصه لربه ودينه.. وهنيئا لنا بإخلاصه للحياة ولنا.

* * *
المثقف الإصلاحي هو المعادل الموضوعي في حضارتنا لـ"المثقف العضوي" الذي تحدث عنه كثيرا المناضل والمثقف الإيطالي أنطونيو جرامشي (ت: 1937م).. وهو ذاك المثقف الذي يدرك أهمية الدور المعرفي والثقافي في النشاط العملي.. ليس هذا فقط، بل ويعمل من أجل ذلك.. إذن فهو كادر حركي على الأرض.. في الشارع.. بين الناس
لكن ما علاقة "المثقف الإصلاحي" بتاريخ الدكتور عمارة وذكراه العاطرة وعطائه الخصيب الثري..؟

المثقف الإصلاحي هو المعادل الموضوعي في حضارتنا لـ"المثقف العضوي" الذي تحدث عنه كثيرا المناضل والمثقف الإيطالي أنطونيو جرامشي (ت: 1937م).. وهو ذاك المثقف الذي يدرك أهمية الدور المعرفي والثقافي في النشاط العملي.. ليس هذا فقط، بل ويعمل من أجل ذلك.. إذن فهو كادر حركي على الأرض.. في الشارع.. بين الناس. إنه ليس تكنوقراطيا، أدواته تنظير الأفكار وتدبيج اللوائح.. وهو ليس فيلسوفا يحوم حول رأس السلطة في مدينة الفارابي الفاضلة.. بل لا تشغله على الإطلاق "قصة السلطة" ببريقها ووجاهتها وسلطانها.. إلا في حدود ما يساعده على انطلاقاته بين الناس، ولا يعوقه عن إدراكه وتحقيق مراده.. بل إنه ليعمل على محاصرة هذه السلطة ووضعها في حجمها الوظيفي لا أكثر..

وهو حين يفعل ذلك، سيكون في الوقت نفسه قد أسدى إلى أمته "معروفا تاريخيا" ضخما يليق بها وبكتابها المنزل وبرسالتها في التاريخ الإنساني كله.. إذ سينزع عن السلطة جاذبية "الاقتتال والدم"..!! العقدة التي لا زالت على تعقيدها القديم في تاريخنا كله للأسف..

فإذا كان طالب السلطة الجموح الطموح الماكر الخدّاع وخلفه من خلفه ممن شتت أدمغتهم تكرار الصياح.. لديهم ما نفهمه ونتوقعه لتفسير هذه الجاذبية القاتلة.. علانية، بالادعاء والوعود البراقة البالية.. أو خفية بالغريزة والدوافع النفسية والأنانية، فما عذر "المثقف الإصلاحي" الذي عرف ما لم يعرفه غيره من حقائق كاشفة، ويفترض أنه "فوق هذه الحالة" الغريزية.. التقليدية للغاية في مساعي البشر لإحراز أهداف وتحقيق نجاحات وأمجاد خادعة مصابة بالفناء..؟!

وهو بالذات أبعد ما يكون عن تلك التحايلات الخداعة للذات والنفس بالخلود والبقاء..! فهو أولى وأحق من يعلم بـ"الخير والأبقى".. والتعبير لأحد أصدقائنا المثقفين الكبار الذي يكاد يختفي الآن من الإعلام والهمهمة حوله كل يوم بتغريدات وتصريحات ومقابلات وكل تلك المشهيات!

هو بالذات أبعد ما يكون عن تلك التحايلات الخداعة للذات والنفس بالخلود والبقاء..! فهو أولى وأحق من يعلم بـ"الخير والأبقى"
وحين وجد أن الساعة ليست ساعته كمثقف "حركي/ إصلاحي/ عضوي" بسبب ظروف سياسية ودولية معقدة وشرسة.. اختار حالة د. عمارة وقرر أن هذه الساعة، وإن لم تكن ساعة حركة وإصلاح فهي ساعة إنتاج أفكار كبرى وتجديد مفاهيم البدايات الأولى..

فكان فراق يكون فيه دواء.. وليس فراقا يكون منه داء.. كما قال أمير الشعراء.. وابتعد في هدوء عن حالة "تفسير الماء بالماء" التي يعيشها "المثقف الإصلاحي" الآن بكل أسف في تكرار، معاد، معار من القول مكرورا، ونسي للأسف أن المتكرر عدو نفسه كما يقولون.. فكيف سيكون صديقا لثقافته وأمته.. وهي نصيحة مصالح مُوادِع.. لا نصيحة مُواثِب مخاصم معاذ الله.

رحم الله د. محمد عمارة في ذكرى وفاته (28 شباط/ فبراير)، الذي قدم للدنيا كلها روح حضارته بحضور معرفي واسع وفير ووعي منفتح على اتساعه عقلا وعلما وفقها.. ولم يكن ذلك سهلا. فكان بحق.. واحدا من كبار رجالات الإصلاح في زمنه.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)