تشغل المخاوف المتعلقة بالوضع
المناخي حيزا كبيرا ضمن اهتمامات
المجتمع الدولي في وقتنا الحالي، وباتت الموضوعات البيئية تتصدر الصفحات الأولى في الصُحف حول العالم. ومن أبرز هذه الموضوعات، الاحتباس الحراري والتلوث البيئي وفقدان التنوع الحيوي؛ وهي المشكلات التي تفاقمت واشتدت خطورتها إلى حدّ دفع الأمم المتحدة وغيرها من الجهات الدولية المعنيّة بشؤون المناخ إلى استخدام مصطلح جديد، يعبّر عن هذه المشكلات، وهو مصطلح «أزمة
الكوكب الثلاثية».
قد تسبَّب الاهتمام الإعلامي المكثَّف بالقضايا البيئية في إثارة المخاوف بين المجتمعات المختلفة في السنوات الأخيرة، وهو ما نجم عنه انتشار ما يُعرَف باسم «القلق البيئي»، أي الشعور الدائم بالخوف من انهيار النظم البيئية. وفي إشارة إلى حجم الانتشار الهائل لهذا العرَض، كشفت دراسة استقصائية أجرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس في عام 2017، أن أكثر من ثلثي سكان الولايات المتحدة الأمريكية، يعانون قلقا وتوترا واكتئابا يرتبط بالتغيرات المناخية. وعزز نتائج هذه الدراسة، استقصاء آخر أجرته الباحثة كارولين هيكمان من جامعة «باث» عام 2021، بالتعاون مع مجموعة من الباحثين الآخرين، حول القلق البيئي لدى الأطفال والبالغين، وأفاد بأن 84 في المائة من المشاركين البالغ عددهم أكثر من 10,000 مشارك، أعربوا عن شعورهم بالقلق النسبيّ من التغير المناخي، فيما أبدى 59 في المائة قلقهم البالغ وأحيانا القلق المفرِط.
ومن ثم، لم يكن مستغربا أن تزداد حدة ردة الفعل المجتمعية في التعامل مع هذه الأزمة، التي تبلورت في شكل احتجاجات مختلفة، من بينها، للأسف، التصاق المحتجين بأعمال فنية شهيرة في متاحف العالم، كما حدث مع أعمال بيكاسو ورفائيل وبوتيتشيلي بشكل مخزٍ. والسؤال هنا: هل لهذا القلق البيئي ما يبرره؟
إذا تحدّثنا بلغة العلم، فالإجابة نعم، هناك ما يكفي من الأسباب لتبرير هذا الخوف؛ فمنذ بداية الثورة الصناعية، تسبَّب النشاط البشري في زيادة تركيز الغازات الدفيئة بنسبة 48 في المائة، مما أدى إلى ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض لتصل 1.1 درجة، وهو ما تسبب في المقابل في ارتفاع منسوب البحار بنسبة 21 سنتمترا، حتى إن العديد من العلماء يعزون سبب حالات الطقس المتطرفة التي نشهدها حاليا إلى التغيّر المناخي. بالإضافة إلى ذلك، تعاني معظم النظم البيئية تدهورا مستمرا، وينحسر التنوع الحيوي في معظم البيئات بسبب التلوث الهائل. ليس هذا فحسب، بل إن إدارة النفايات أصبحت هي الأخرى مشكلة كبرى تتسبب في حدوث ظواهر عدة، مثل ظاهرة «دوامة نفايات شمال المحيط الهادي»، وهي عبارة عن مساحة تبلغ 1.6 مليون كم مربع من النفايات البلاستيكية في المحيط الهادي.
وفي ضوء ذلك، يمكن تفهُّم ردة الفعل القوية تجاه الأزمة نظرا لخطورتها، ولكن من المهم أن تستند ردة الفعل هذه إلى حقائق علمية، لا أن تكون مدفوعة بالخوف والهلع وتؤدي إلى أفعال غير مقبولة. لقد أظهر الإنسان على مر العصور قدرته على التكيّف وحل المشكلات، وكانت آخر الأمثلة على ذلك، تطوير لقاح لفيروس كوفيد-19 في وقت قياسي، ولم يكن ذلك وليد الصدفة، بل كان نتاجا للمعرفة العلمية والتكنولوجية التي تراكمت على مر عقود طويلة.
ولا شك عندي أن العالم قادر على حل «أزمة الكوكب الثلاثية» إن كرَّسنا لها جهودنا. فالأمثلة على نجاح الجهود البيئية في حل بعض القضايا كثيرة، فقد نجحت أوروبا، على سبيل المثال، في زيادة أعداد الثدييات زيادة بالغة بفضل التشريعات التي وضعتها لحماية الكائنات الحيّة المهددة بالانقراض، والحفاظ على موائلها بعد أن تعرَّضت هذه الثدييات للإبادة على مدى الخمسين عاما الماضية، حيث زاد البيسون الأوروبي حوالي (16,626 في المائة)، والفقمة الرمادية (6,273 في المائة) والذئب الكبير 1,871 (في المائة)، وغيرها الكثير من الثدييات.
كما يمثل استعادة الغابات المعتدلة نموذجا آخر للنجاح، فقد أُزيلَت أشجار هذه الغابات قبل مئات السنين للانتفاع بأخشابها واستغلال أراضيها في الزراعة وتربية الماشية، قبل أن تعود اليومَ إلى طبيعتها في العديد من البلدان التي تمدَّنت عمرانيّا وحضاريّا، فيما يُعرف باسم «منحنى انتقال الغابات»، وفيه تصل إزالة الغابات إلى نقطة تحول عكسي، يبدأ عندها إعادة التشجير مرة أخرى تدريجيّا. على سبيل المثال، كانت الغابات تغطي 47 في المائة من مساحة في فرنسا قبل ألفي عام، ووصل هذا العدد إلى 13 في المائة فقط عام 1840، قبل أن يرتفع إلى 31 في المائة في الـ 180 عاما الأخيرة.
ومن الأمثلة الناجحة أيضا في مجال
البيئة، تعافي طبقة الأوزون، وهي الطبقة التي تحمي الكوكب من الأشعة فوق البنفسجية. فقد تسبب إطلاق المواد الكيميائية (مركبات الكلوروفلوروكربون) إلى الغلاف الجوي في اختفاء طبقة الأوزون بشكل متسارع، وكانت هذه الظاهرة من أكبر المشكلات التي تنذر بالخطر في ثمانينيات القرن الماضي؛ مما حدا بالعالم إلى توقيع بروتوكول مونتريال 1987، وهو معاهدة ملزمة دوليّا، منعَت استخدام المواد الكيميائية المتسببة في المشكلة، وأدى التزام الأطراف بالمعاهدة إلى التعافي التدريجي لطبقة الأوزون على مدار العشرين عاما الماضية، ولو استمر هذا الالتزام بالوتيرة الحالية، ستعود طبقة الأوزون بالكامل لطبيعتها بحلول عام 2040.
ربما يرى القارئ نصف الكأس فارغة أو ربما يراها آخر نصف ممتلئة عند النظر إلى القضايا المتعلقة بالمناخ، فهذا يرجع لتقديره، لكن المهم هو أننا كمجتمع عالمي، قادرون على إحداث فارق إيجابي إن ركزنا في حل المشكلات بعقلانية.
(عن صحيفة الشرق القطرية)