تتفاقم
الأزمة المعيشية الطاحنة في
مصر بوتيرة سريعة، ومع ذلك لا يبدو أن هناك تحركا جديا
من النظام الحاكم لحل الأزمة أو حتى إيقاف ارتفاع الأسعار، لتتأكد مفردات فشل
النظام في كل ملفات الإدارة الحكومية والسياسية لدولة كانت توصف بأنها قوة
إقليمية، ومع انقلاب صيف 2013 انتقلت إلى ضعف يتزايد، وهذا الضعف يختلف عن حالة
الارتباك التي صاحبت ثورة 2011؛ إذ الاضطراب السياسي كان سيتوقف مع استقرار
المؤسسات الديمقراطية، لكن غابت الديمقراطية، وبدأت الدولة في الذوبان، والدولة
هنا بمعناها الحقيقي، لا بمعنى النظام الحاكم الذي يريد
السيسي ربط مصيرهما
ببعضهما.
عانى
المواطن منذ بدء إجراءات تحرير الصرف عام 2016 من موجات غلاء متتالية، لكنها
اختلفت عن الموجة الأخيرة أنها كانت في السابق تبدأ مع إجراء
اقتصادي، مثل تحرير
سعر صرف الجنيه أمام الدولار، أو رفع أسعار المحروقات البترولية، ثم تستقر
الأسعار، لكننا هذه المرة أمام موجة ممتدة منذ عام تقريبا.
غرقت مصر في أزمة دولارية طوال حكم السيسي، وبدأ الانكشاف بعد قرار شق تفريعة قناة السويس، ومن حينها لم تخرج مصر من أزمة عدم توفر الدولار، وأصبح رصيد الاحتياطي الأجنبي رصيدا غير حقيقي، لأنه رصيد قروض أو ودائع. لكن الأزمة تفاقمت في العام الأخير
غرقت
مصر في أزمة دولارية طوال حكم السيسي، وبدأ الانكشاف بعد قرار شق تفريعة قناة
السويس، ومن حينها لم تخرج مصر من أزمة عدم توفر الدولار، وأصبح رصيد الاحتياطي
الأجنبي رصيدا غير حقيقي، لأنه رصيد قروض أو ودائع. لكن الأزمة تفاقمت في العام
الأخير، فأصدر السيسي قرار الاعتمادات المستندية في شباط/ فبراير 2022، فحدثت أزمة
في وصول السلع المستوردة بكل أنواعها، بما فيها ما يتعلق بالإنتاج الغذائي، وفي
آب/ أغسطس 2022 بدأ السيسي في إجراء تحريك سعر الصرف مجددا بغرض تنفيذ اتفاق مع
صندوق النقد الدولي، لتدخل مصر في متاهةٍ تُوشِكُ أن تبتدئَ مجاعةً.
ألغى
السيسي قرار الاعتمادات المستندية في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، وفي
كانون الأول/ ديسمبر بدأت إفراجات جمركية عن سلع متكدسة قُدِّرت بـ7 مليارات
دولار، ورغم هذا ما تزال أسعار اللحوم والدواجن في ارتفاع مستمر نتيجة سياسات خاطئة
بدأت في صيف 2013 وتعاظمت مع الزمن، فكيف تتعامل جهة الحكم مع أوضاع غير مسبوقة
الغلاء بالتزامن مع قلة الأجور؟
أثناء
حديث الحاكم المصري فيما تُسمَّى بـ"القمة العالمية للحكومات"، تباهى
بأنه قضى على ما أسماه
الإرهاب، لكن هؤلاء الإرهابيين، على حد قوله، انتقلوا إلى
زعزعة ثقة المصريين في حكمه "خلال الأشهر الثمانية الأخيرة، أو عام"،
وللمصادفة تتزامن فترة العام مع قرار الاعتمادات المستندية الذي تسبب في انهيار
سريع للسوق المصرية، فكأنه أدان نفسه من حيث أراد التملُّص من مسؤولياته، وهي
العادة الملازمة له طوال الوقت، فهو لا يترك مناسبة للتحدث عن سوء الأوضاع إلا
ويربطها بأسباب خارجة عنه، كأن النتيجة لا تتعلق بإدارته المُغرقة في الفشل.
ما شهدناه قبيل ثورة يناير 2011 من أوضاع أدَّت إلى خروج المصريين إلى الشوارع، لا يُقارَن بالتدهور الحاصل هذه الأيام، فقد كان هناك اعتبار لحاجة الناس وفقرهم بدرجة ما، كانت الأجور قليلة لكن الحياة كانت محتملة في المقابل، كان النظام يرخي قبضته أمام الاقتصاد الموازي ليترك المجتمع يتحرك في هامش من الأمان الذي صبَّ في طول مدة الحكم بقبضة أمنية محدودة، كما كانت المعارضة تتنفس دون إحداث فارق
ما
شهدناه قبيل ثورة يناير 2011 من أوضاع أدَّت إلى خروج المصريين إلى الشوارع، لا
يُقارَن بالتدهور الحاصل هذه الأيام، فقد كان هناك اعتبار لحاجة الناس وفقرهم
بدرجة ما، كانت الأجور قليلة لكن الحياة كانت محتملة في المقابل، كان النظام يرخي
قبضته أمام الاقتصاد الموازي ليترك المجتمع يتحرك في هامش من الأمان الذي صبَّ في
طول مدة الحكم بقبضة أمنية محدودة، كما كانت المعارضة تتنفس دون إحداث فارق، ثم
كانت الشرارة التي قلبت موازين كثيرة، واستفاد منها قادة الجيش في إبعاد مبارك
وأسرته.
كانت
هناك خصخصة لأصول في القطاع الحكومي، وكان هناك ارتفاع في الأسعار، واعتقالات
وتعذيب ومصادرة أموال، ومع ذلك كان النظام في أغلب الوقت يغض الطرف عن محاولات المعارض
السياسي البقاء على قيد الحياة، فكان يعلم بوجود مصدر دخل آخر له، أو نقله
الممتلكات باسم أحد أفراد أسرته، ولم يكن النظام يقوم بمصادرة هذه الأموال، فكان
يريد إيصال رسالة تقول للمعارضين "نراكم ونضيق عليكم، فالزموا الحدود".
وكان المعارضون في المقابل يعرفون أنهم يتعاملون مع نظام سياسي، يوقنون أنه غير
مكتمل الشرعية لتزويره الانتخابات، لكنهم في الوقت ذاته يعلمون أن هناك من يقف
أمام خطوط حمراء في السياسة العامة والاقتصاد، فقبلوا الانخراط في حوارات
وانتخابات متتالية في محاولة لنضال سلمي استمر حتى الثورة السلمية في 2011.
أما
النظام الحالي فهو يرفض الاستماع للمختصين، ويرفض السماح بمتنفَّس للمعارضين،
ويقوم بعمليات انتقامية لا علاقة لها بإدارة الدولة، ويقبض على كل مصادر الدخل،
ويفرض الضرائب على المساكن، ويهدم أخرى، وينتزع ملكيات الأراضي دون تعويضات، أو
بتعويضات غير متناسبة مع قيمة العَيْن المنتَزَعة ملكيتها، وطارد الأموات في
قبورهم وأخرجهم منها، فزرع بذور الغضب والكراهية والعنف في كل بقعة امتدت إليها
يده.
كانت لحظة انتخابات 2018 إحدى مراحل بؤس هذا النظام اللا عقلاني، وكان من الممكن أن تقبل أطراف واسعة من المعارضة بالتحالف مع مرشح خرج من رحم المؤسسة العسكرية، الفريق سامي عنان، فانحازوا إلى الفعل السلمي لأقصى درجة، لكن السيسي رفض هذا الاختيار أيضا، وسحق الجميع بما في ذلك قائده الأسبق
كانت
لحظة انتخابات 2018 إحدى مراحل بؤس هذا النظام اللا عقلاني، وكان من الممكن أن
تقبل أطراف واسعة من المعارضة بالتحالف مع مرشح خرج من رحم المؤسسة العسكرية،
الفريق سامي عنان، فانحازوا إلى الفعل السلمي لأقصى درجة، لكن السيسي رفض هذا
الاختيار أيضا، وسحق الجميع بما في ذلك قائده الأسبق، ومن بعدها وصل القمع السياسي
إلى درجات غير مسبوقة، وقد سبقه بأكثر من أربع سنوات قمع دموي غير مسبوق أيضا.
هذا
التفاوت بين سلوك الحاكم والمحكومين يعيد التساؤل إلى ما تحدث عنه السيسي في
الإمارات عن "الإرهابيين"، هل المعارضون السلميون هم الإرهابيون، أم
الذي يُغلق مسارات السلمية بالرصاص والدماء؟