هل يُعقل أن يعيش إنسان القرن الحادي والعشرين هواجس الخوف من ممارسة حقه السياسي، واحتمال حرمانه من الجنسية بسبب ذلك؟
هذا ما يعانيه سكان
فلسطين الأصليون، بعد أن صادق الكنيست الإسرائيلي يوم الأربعاء الماضي على قانون يسمح لسلطات
الاحتلال بسحب الجنسية، أو الإقامة من معتقلين «إذا تلقوا أموالا فلسطينية بعد ارتكاب أفعال تصنفها إسرائيل على أنها إرهابية». فلا يكفي قوات الاحتلال الهيمنة المطلقة على أرض فلسطين بعد أن أبعدوا أغلبية سكانها الأصليين، ولا يكفيهم قتل الأطفال والنساء، كما لم يكتفوا بنسف منازل من يقاوم الاحتلال، بل عمدوا لهذا الإجراء الأخير الذي انتقدته الجهات الحقوقية الدولية قاطبة، واعتبرته إجراء تعسفيا يضاف لقائمة الإجراءات الجائرة الأخرى.
لقد كان مشهد والد الشاب الفلسطيني خيري علقم الشهر الماضي، وهو ينتظر قدوم الجرافات الإسرائيلية لهدم منزله وحرمان العائلة من مأوى، مقززا بدون حدود. فكأنه مشهد خيالي وليس واقعيا. وكان هذا الشاب قد قتل سبعة مستوطنين بعد يومين من قتل عشرة فلسطينيين بأيدي قوات الاحتلال. إن هدم المنزل بهذا الأسلوب يعني أمورا عديدة: أولها إلغاء المبدأ الذي يمثل أهم دعامة لعدالة القانون: أن الجرم عيني وليس شموليا، بمعنى أن العقوبة يجب أن تُحصر بمرتكب الجريمة ولا يعاقب الآخرون بسببه.
وهذا مبدأ قرآني ثابت: «ولا تزر وازرة وزر أخرى». فحرمان ذوي الشخص المتهم من مأواهم الوحيد انتهاك صارخ للعدالة، ثانيا: أنه نقض لأحد بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر المسكن حقا وكل ما يحقق للمرء أمنه واستقراره، ثالثا: أنه تعبير عن فظاظة بعض البشر الذين تموت قلوبهم وضمائرهم ولا ترف أعينهم لجائع أو عار أو مشرد. وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (أوتشا)، هدمت إسرائيل في العام 2022 نحو 708 منازل في الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس الشرقية. ويقابل ذلك سياسة استيطان تزداد توسعا خصوصا في الضفة الغربية.
وبمنطق مشابه، ينطلق الحديث عن سحب جنسية المواطنين مهما كانت الدعاوى ضدهم، فإن ارتكبوا جرما وفق تعريفات القانون الدولي فبالإمكان سجنهم أو فرض غرامات عليهم، وليس حرمانهم من حقوقهم التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنها الجنسية والوسائل التي تمكّن الإنسان من السفر. فالعدالة تقضي بأن تكون العقوبة متلائمة مع الجرم، وليست انتقامية أو مضاعفة.
وهناك مبدأ ثابت لدى الحقوقيين؛ أن انتهاك حقوق الإنسان لا يجوز في أي ظرف، لأن ذلك إضعاف للقانون وتعد على مبادئ العدل والإنصاف. فحتى من يرتكب أعمالا إرهابية لا يجوز انتهاك حقوقه، فلا يجوز تعذيبه أو حرمانه من الأكل والشرب والنوم أو التعرض لأهله وأصدقائه، أو حرمانه من الحقوق القضائية كالمحاماة والترافع. هذه الاعتبارات تعيد للقانون دوره لأنه يصبح الفيصل وأداة الردع الفاعلة. مشكلة البشر أن تمسكهم بالقانون أحيانا سطحي، فهم مستعدون لاختراقه بسهولة، خصوصا عندما يسمحون لنزواتهم ومشاعرهم بالتأثير على تصرفاتهم، فيصبح العقل مهمّشا، وتوضع العدالة على الرفوف.
أثبتت سياسة سحب الجنسية فشلها في ترويض الشعوب أو احتواء العناصر الفاعلة في مجال الإصلاح السياسي والحقوقي، ودفعت الحكومات التي تمارسها للإمعان في انتهاك القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان.
الموقف الحقوقي المبدئي الذي قبلت به دول العالم، يتمثل بالتشريعات الدولية التي يفترض أنها ملزمة لهذه الدول. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد حق كل شخص في امتلاك جنسية، ويحظر على الحكومة حرمان أي شخصٍ منها تعسفا. وأبعد من ذلك، ينص ميثاقٌ للأمم المتحدة يعود للعام 1961 بحظر
سحب الجنسية من أي مواطن استنادا إلى العرق، أو الدين، أو السياسة، وكذلك يُحظر نزع الجنسية في الحالات التي يُترَك فيها المواطن بلا جنسية. ومع ذلك، فإنَّ الميثاق يستثني من ذلك الدول التي تمنحها قوانينها القومية الخاصة، في وقت الإمضاء على الاتفاقية، حقَّ نزع الجنسية عن مواطن ليصبح بلا مواطَنة. وبريطانيا هيَ إحدى الدول المُعفاة على أساس الاستثناء المذكور، إلَّا أنها لم تستخدم هذا الحق منذ العام 1973 إلا في الفترة الأخيرة. وهناك نزعة لدى مؤسسات «الدولة العميقة» لتضييق الحريات ومصادرة بعض الحقوق.
وفي إحدى الحالات، رفضت تلك السلطات منح الجنسية لشخص يستحقها بذريعة مخجلة، فجاء في رسالة الرفض التي وقّعها وزير الداخلية آنذاك: «نظرا لنشاطك في معارضة حكومة صديقة، فإن ذلك لا يحقق شرط التوفر على شخصية مستقيمة للحصول على الجنسية». و قال معهد العلاقات العرقية IRR البريطاني؛ أن مسلمي البلاد مُهددون بسحب جنسيتهم، بسبب التشريعات التي تتيح تجريد المواطنين المسلمين من الجنسية، ليتحولوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وفي بريطانيا قانون تم إقراره عام 2002، لسحب الجنسية من بعض الأشخاص إذا رأت الحكومة منهم أي مصدر خطر، كما يمكن للحكومة أن تتخذ هذا الإجراء بدون إخطار الأشخاص، فيتم سحب الجنسية بدون إبداء الأسباب.
المشكلة التي تساهم في تعقيد الموقف إزاء حق الأفراد في الجنسية، أن بعض دول «العالم الحر» يساهم في الأزمة بإصدار تشريعات تسمح بانتهاك المبادئ الدولية التي تمنع ذلك. وحتى التي لا تمارس سياسة سحب الجنسية لا تعترض على حلفائها عندما يفعلون ذلك. فالولايات المتحدة وبريطانيا لم تعترضا قط عندما سحبت حكومة البحرين الجنسية من حوالي ألف مواطن بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات السلمية المطالبة بالإصلاح السياسي.
وتحت الضغط الدولي، أعادت الجنسية لنصف هؤلاء وبقي حوالي 500 شخص محرومين من جنسية البلد الذي ترعرعوا فيه أبا عن جد. كما لم تعترض هاتان الدولتان بشكل جاد على القرار الجديد الذي أقره الكنيست الإسرائيلي. هذا القانون سيضاعف محنة سكان الأرض الأصليين، الذين احتل الصهاينة بلدهم وأبعدوهم عنها بشكل تدريجي منذ العام 1948. وقد حدث أن تجاوزت موضوع الجنسية وأبعدت المئات من الفلسطينيين.
ففي العام 1993 قامت بإبعاد أكثر من 400 منهم إلى منطقة «مرج الزهور» في جنوب لبنان؛ انتقاما منهم بسبب الانتفاضات المتكررة ضد الاحتلال. ولولا الضغط الدولي آنذاك لبقي هؤلاء في تلك الأرض المقفرة حتى اليوم، ولأصبح هناك مخيم إضافي لهؤلاء الذين احتلت أرضهم وأبعدوا منها قسرا. ولا شك أن سحب الجنسية يمثل أحد أشكال الإبعاد، لأنه يحوّل الفرد إلى غريب ضمن حدود بلده ويسلبه حقوقه الطبيعية.
الأمر المؤسف أن تتحول الجنسية إلى مادة لمساومة الأفراد على مواقفهم السياسية ونشاطهم، بينما يفترض أن تكون حقّا طبيعيا لكل إنسان.
لقد أثبتت سياسة سحب الجنسية فشلها في ترويض الشعوب أو احتواء العناصر الفاعلة في مجال الإصلاح السياسي والحقوقي، ودفعت الحكومات التي تمارسها للإمعان في انتهاك القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، خصوصا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أثبتت خواء الدعاوى التي يتشبث بها «العالم الحر» حول العمل الدولي المشترك، وإقامة حكم القانون والبحث عن عالم يأمن فيه البشر على حياتهم وحقوقهم. وأكدت هذه الإجراءت تخلي النظام السياسي الدولي في القرن الحادي والعشرين عن القيم التي روّجها بعد الحرب العالمية الثانية، الهادفة لطمأنة البشر أنهم محميون بالقانون، وأن حقوقهم مصونة وحرياتهم مضمونة.
ولا شك أن القانون الإسرائيلي الجديد بسحب الجنسية من النشطاء الفلسطينيين، يعتبر خطوة تعسفية كبيرة، وضربة موجعة لروح القانون الدولي الذي يضع الفرد في مركز اهتمامه وتشريعاته. مرة أخرى لا عذر لمن يلحق الضرر بالأبرياء ويستخدم إمكانات الدولة المتاحة له لإلحاق الأذى بالمواطنين العاديين، وبذلك يضرب شرعية الحق من جهة وحاكمية القانون من جهة أخرى.
مطلوب من المجتمع الدول،ي خصوصا من مجلس الأمن الدولي، تجريم حرمان المواطنين من الجنسية، وإيجاد آليات توفر ضغطا حقيقيا على الحكومات التي تستخف بمواطنيها، وتعتبرهم ألعوبة بأيديها تمنحهم بعض حقوقهم تارة وتسلبهم إياها تارة أخرى. إن لم يحدث ذلك، فسيظل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جسدا بلا روح، وستتحول القوانين وقيم العدالة وحقوق الإنسان إلى أشباح بلا حراك أو أثر.