هناك شائعات أخذت حكم الحقائق فيما يتعلق بالشهيد
سيد قطب رحمه الله،
وهو ما اكتشفته في عدد من المواقف تذكر عنه، أو عن كتبه، ولم يكن أحد يقترب من
تدقيق ومراجعة هذه المعلومات لما تمثله عند البعض من مهابة وقداسة لرجل مات
مظلوما، لأجل مواقفه وفكره، ولكن الباحث المتجرد لا يسلم إلا بما تدل عليه الأدلة
الواضحة على صحة ما يذكر.
فمما شاع عن سيد قطب في السجن، وعن كتبه التي كتبها فيه؛ وبخاصة
كتابه الأشهر في ظلال القرآن: (أن السلطة
المصرية قد سمحت لسيد قطب بالكتابة في
(الظلال) بعد دعوى قضائية قام برفعها عيسى البابي الحلبي، انتهت بتمكين سيد من
الكتابة، واشترطت لخروج ما يكتبه سيد أن يمر على رقيب ديني، وعينت الشيخ محمد
الغزالي رقيبا دينيا يعرض عليه ما كتبه سيد قبل طبعه، وباشر الغزالي مهمته، وصارت
تعرض عليه كتابات سيد، وقد أجاز الغزالي كل ما كتبه، وأذن له بالطبع، ولم يحذف إلا
فقرات من تفسير سورة البروج، أشار فيها سيد قطب إلى التعذيب الذي لاقاه هو
والمجاهدون في السجون، وقد جعل سيد قطب هذا التعقيب أحد فصول كتابه (معالم في
الطريق) حيث نشره تحت عنوان: (هذا هو الطريق) مع تبديل يسير في العبارات).
تلك رواية الدكتور صلاح الخالدي وقد نقلها عن الأستاذ محمد قطب شقيق
سيد رحم الله الجميع، ولكن الخالدي كررها في معظم كتبه التي كتبها عن سيد قطب،
وتلقاها الكثيرون عنه مسلِّمين بها، ولكنها من الواضح أنها رواية فيها الكثير من التوهمات، وليست عن واقع صحيح كاملا،
فالغزالي كان مراقبا دينيا آنذاك وهي وظيفة في وزارة الأوقاف المصرية، ولكنه كان
مراقبا على كل ما يصدر في مصر، وليس على كتب سيد تحديدا، وقد واجه الدكتور مصطفى
عبد الغني الشيخ الغزالي بهذه المعلومة في صيغة سؤال: يردد أكثر من مصدر أنك كنت ـ
لسنوات ـ رقيبا على ما يكتبه سيد قطب في السجن.. هل هذا صحيح؟
فأجاب الغزالي: (بالفعل كنت رقيبا دينيا، على المطبوعات التي تصدر في
بر مصر بشكل ما، على أنني في هذه الأثناء ـ وأذكرها جيدا ـ عرضت علي كلمة وحيدة
مما كان يكتب سيد قطب، أو بشكل أدق، ورقة وحيدة، ولم يعرض علي شيء آخر فيما بعد،
ظللت لأربع سنوات لم يعرض علي شيء آخر لسيد قطب، ولا أعرف هل كان في السجن في ذلك
الوقت أم لا.
وإذا أردت تحديدا أو تفصيلا أكثر فسوف أقول لك، لقد عرض علي شيء كان
قد كتبه فاعترضت عليه، حينئذ عرضت علي ورقة مكتوب عليها بخط سيد: "اقتله
اقتله".. فاعترضت على ذلك، وما يقال من أنني كنت رقيبا على سيد قطب أو على ما
يكتبه، فإن ذلك يبدو شيئا مضحكا. لقد كنت رقيبا بشكل عام.. هذا شيء لا أنكره، ومن
ذلك أنه عرض علي ـ بالفعل ـ كتاب طه حسين (في مرآة الإسلام) وقرأته بعناية، ورفضت
بعض ما فيه حتى حذفه طه حسين بالفعل. ونشر الكتاب بعد ذلك، لا أقول ذلك متباهيا، لكن
لأقر حقيقة، كنت رقيبا عاما، ليس رقيبا خاصا على سيد قطب.
أما أن يقال إنني عينت خصيصا رقيبا على سيد قطب، فإن ذلك يبدو مضحكا
أو هو ـ بشكل أدق ـ لون من ألوان الكذب).
فالغزالي هنا ينفي بشكل قاطع، أن يكون قد عين ليراقب فكر سيد، ويأذن
بما ينشر وما لا ينشر، فنفاه جملة وتفصيلا، وذكر الورقة الوحيدة التي عرضت عليه،
فمن الواضح أن الإذن لسيد بالكتابة كان إذنا خاصا، تركه عبد الناصر، وهي ممارسات
متناقضة نراها في كثير من المستبدين والطغاة، وهو ما ذكره كثير من المسجونين، كيف
وجدوا في بعض الأحيان رحمة في قلوب السجانين، في مواقف فردية غريبة، فقد ذكر مثل
هذه التفاصيل الشيخ القرضاوي في مذكراته، وذكر ذلك الأستاذ مصطفى أمين في سلسلة
كتبه عن السجن، وغيرهما.
الغزالي هنا ينفي بشكل قاطع، أن يكون قد عين ليراقب فكر سيد، ويأذن بما ينشر وما لا ينشر، فنفاه جملة وتفصيلا، وذكر الورقة الوحيدة التي عرضت عليه، فمن الواضح أن الإذن لسيد بالكتابة كان إذنا خاصا، تركه عبد الناصر، وهي ممارسات متناقضة نراها في كثير من المستبدين والطغاة،
والعجيب في هذه القصة الشائعة، أن الإذن كان بكتابة سيد قطب الظلال،
لكنه أصدر كتبا أخرى، ولم تطبعها دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبي، بل أصدر
كتبا طبعتها مكتبة وهبة، مثل: معالم في الطريق، وكتبا مثل: هذا الدين، والمستقبل
لهذا الدين، وهذان طبعتهما دار القلم، والتي تحولت فيما بعد إلى دار الشروق.
كما أنه مما يشكك في هذه الرواية فضلا عن كلام الغزالي، أننا لم نسمع
عن هذا الحكم التاريخي الذي يخول لمسجون سياسي أن يكتب كل هذا الكم من الكتب،
لدرجة أن يكتب ما يزيد عن ألفي صفحة في سجنه، وتنشر كتبه، في دور نشر معروفة في
مصر، وتحصل على رقم إيداع، وتوزع الكتب، وتطبع أكثر من طبعة، ويتم تداولها خارج
مصر.
ثم لو كان عيسى الحلبي قد رفع دعوى قضائية، وربح القضية، وقام بطبع
ما كتبه سيد قطب، فهو صاحب الحق القانوني في الطباعة، وقد طبع سيد قطب عنده كتاب
(في ظلال القرآن) كاملا، وكتبا أخرى، مثل: العدالة الاجتماعية في الإسلام، فكيف
إذا تنازل عن طباعة هذه الكتب بعد سنوات قليلة عن حق طباعتها، وهي أشهر كتب سيد،
وبعد كل هذه المغامرة السياسية والتي كانت يمكن أن تكلفه أن يسجن، أو تغلق داره
كما حدث من عبد الناصر مع كثيرين.
فهو أمر لا يمكن أن يقبله ناشر، أن ينشر كتبا لشخص بحجم وقيمة سيد،
بكل هذا الكم، ثم يتنازل عنها بهذا الشكل، فما فعله الأستاذ محمد قطب بعد خروجه من
السجن أنه أعطى حق طباعة هذه الكتب لدار الشروق فقط، فلو كان الحلبي هو صاحب
الدعوى والقضية، وهو صاحب الحق في النشر، فكيف سمح بانتقال الكتب لناشر آخر؟!
وهو ما يقال عن الناشرين الآخرين، مثل: وهبة حسن وهبة، صاحب مكتبة
وهبة، وهو الذي طبع (معالم في الطريق) وغيره لسيد، وكتاب (جاهلية القرن العشرين)
وغيره لمحمد قطب، بل سجن بسببها، وأغلقت داره فترة طويلة لذلك، وقد قابلت الحاج
وهبة رحمه الله، وكان يشكو لي صنيع الأستاذ محمد وآخرين معه، أنهم بدأوا معه وتحمل
معهم عواقب النشر، ولكنهم بعد أن رفع عنهم الحظر، سحبوا طباعة الكتب منه، وأعطوها
للشروق، التي لم يدفع صاحبها من عمره في السجن مثله، ولكنه والحق يقال: كان يقولها
بطيب نفس، وعتاب أخوي، وقد نقلت عتابه لبعضهم.
كما أن الفصل الذي قال عنه الخالدي أنه حذف من الظلال، ووضعه سيد في
المعالم، عدت إليه، وعدت إلى تفسير سورة البروج، فلم أجد ما يتعلق بذلك، بل إن
تفسير سورة البروج في الظلال، مختلف تماما عن الفصل الذي كتبه سيد في المعالم،
والذي بعنوان: هذا هو الطريق، وهو خاتمة الكتاب، وإن كان عن نفس موضوع السورة، وهو
قصة أصحاب الأخدود، لكن سيدا تناولها في الكتابين بشكل مختلف عن الآخر، ولا توجد
أدنى إشارة في الكتابين عن التعذيب في السجون، ولا تلميحا لذلك.