صدرت في الأعوام العشر الأخيرة كتابات متزايدة في تقييم وتوزين
حركة فتح، وإجراء مراجعات لمسيرتها الطويلة، وربما ذهب بعضهم إلى نعيها وتأبينها، وآخر تلك المطالعات صدرت العام السابق [2022]، للشاعر والأديب
المتوكل طه في كتاب بعنوان: "ثورة في الفكرة: فتح والأزمة.. في النقاش الدائر". ويشير في مقدمة كتابه إلى أنه يدلي بدلوه في هذا النقاش من موقع المثقف، الذي دُعي إلى التصدي للإجابة على سؤال: أين هو دور الكتّاب والمفكرين في الواقع الحالي؟
ولكن لا بأس من تحديد نوعية المثقفين الذين ينحدر من طينتهم المتوكل طه. فقد جاء في خاتمة الكتاب بطاقة تعريفية بسيرته الذاتية، يقول بعضها إنه عمل وكيلًا لوزارة الإعلام لمدة عشر سنين (على مرحلتين) وكان أحد مؤسسيها، كما أنه عمل سفيرًا لفلسطين لدى ليبيا من عام 2012 حتى 2015، ثم عمل رئيسًا لدائرة الدراسات الاستراتيجية في وزارة الخارجية
الفلسطينية حتى آذار/ مارس 2018، كما أنه ترأس اتحاد الكتّاب الفلسطينيين لمدة (13) عامًا على مرحلتين. أي أنه مثقف أوسلويّ بامتياز لكنه من أوسلويّي الداخل.
يمتلئ الكتاب بعلامات الاستفهام وبسيل من الأسئلة التي يسمّيها: شائكة وحائرة وحارقة، في خضمّ "النقاش المتلاطم الساخن والمنفعل أيضًا".
ومنذ البداية يقرّر المتوكل طه حقائقه الصادمة في أنه: "أصبح واضحًا أن المشروع السياسي الذي جاء بالسلطة الوطنية قد فشل تمامًا، وعلى كل المستويات المتعلقة بسؤال التحرير أو بأداء القيادة التي فشلت هي الأخرى.. وباتت على مقاعد المتفرجين، بلا حول ولا طول، بل وتماهت مع المخرجات التي أنتجت الاستراتيجية الإسرائيلية، والتي تميّزت بقدرة فائقة على فرض الحقائق على الأرض ووضع مسار حتمي ووحيد لموضوعة التسوية، يحوّل المؤقت إلى دائم، ويجعل السلطة أداة أمنية في يد الاحتلال، وقد حسبنا أنها الإنجاز الوحيد لما تبقّى من التسويات السياسية؟ والموجع هو: هل هذه الكينونة "السلطة" التي نسوّقها ونتعاطى معها بأنها إنجاز.. هي كذلك بالفعل؟ هل ممكن لهذه السلطة أن تستعيد امتلاك التحرير؟".
ويصل تدفّق طرحه للأسئلة إلى السؤال الأكثر حراجة: "وهل يمكن لحركة تحرّر وطني، بأخذ تفويضها من الاحتلال، أن تحافظ على نفسها كحركة تحرر وطني؟".
وفي سطور مقدمته أيضًا يأتينا بخلاصاته – من الآخر – يقرّر ما يسميها الحقيقة الصادمة بأنه: "وبكل المقاييس إن السلطة أصبحت أكبر العوائق أمام مسيرة التحرير لأن مكونها ووظيفتها هي وظيفة معطّلة للتحرير، سواء على المستوى الأمني أو المدني، لأن الأمني في خدمة الأمن الذي يريده الاحتلال، والمدني أعفى الاحتلال من كل مسؤولياته وجعله أرخص احتلال في التاريخ واحتلال بلا ثمن! حتى أن هذا الاصطلاح تستخدمه السلطة من رئيسها إلى رئيس قسمها... دون العمل وفق دلالاته".
ويذهب إلى القول بأن السلطة "حوّلت شعبًا بأكمله من صاحب مصلحة في التحرير إلى صاحب مصلحة في التعايش مع الواقع الثقيل. وبكل بساطة لدينا 350 ألف (راتب) موظف ومتقاعد تقريبًا، مرتبطون بهذه الكينونة التي تشكّل عائقًا حقيقيًّا أمام التحرير... عداك عن البنوك والمؤسسات والالتزامات والمنظمات غير الحكومية – الموالين والمعارضين – الذين هم أيضًا أصبحوا أصحاب مصلحة في التعايش".
يغوص المتوكل طه في استنكاه العلل والأمراض التي خبرها في فتح المتغيّرة والمتحوّلة منذ وقعت كارثة أوسلو، ليقرر حقيقة: "إن حركة فتح همّشت نظامها الأساسي لحظة توقيع الاتفاق من قبل أعلى مستويات القيادة في المنظمة، ولم تُعدّ لنفسها هامشًا لخطّة بديلة، أو أي طوق للنجاة، بل قفزت بكلّها وكليلها إلى وحل الاتفاق، وانجرّت بوعي أو دون ذلك إلى التأسيس لفكر جديد، تجاوزت به نفسها وبرنامجها وناقضت ذاتها وخذلت مبادئها، وتورّطت في السلطة، ولم تجد المسافة بين السلطة وبينها حين اعتقد بعض من قياداتها أن السلام استراتيجية بديلة لاستراتيجية الحرب "الثورة"... وأن استراتيجية السلام هي جزء من استراتيجية الحرب وليست بديلًا لها، ومن يفصل بينهما يسقط في إدارة الحرب كما في إدارة السلام، وهذا ما كان، وكان أحرى بفتح أن تضع بديلًا إذا انهار السلام – وقد انهار – وأضعفت م.ت.ف من أجل السلطة، وهجرت عوامل التواصل مع العروبة والجماهير وعمقها الإسلامي والثوري، وخلقت طبقة مستفيدة وأضعفت الكوادر وفتّتتهم وأفسدت بعض الذمم، ولم تخلق ثقافة فتحاوية واستبدلتها بثقافة التسويات... وتكاد تشطب إنجازاتها بتخلّفها عن خطّ المواجهة مع الاحتلال، وهذا ما يفسّر ابتعاد الجماهير إلى حد كبير عنها!".
ثم يسجّل المتوكل طه شهادته وهو أحد تكنوقراطيي السلطة في أن حركة "فتح": "قدمت نموذجًا سيئًا للقيادة واستبداد السلطة واستغلالها، ما خلق رؤوسًا ومراكز قوى وتيّارات. وعلى مدار ربع قرن من السلطة فقد سيطر الارتباك والتردّد والضبابية في إدارة فتح تنظيميًّا وجماهيريًّا وسياسيًّا لأنها – عمليًّا – وضعت كل بيضها في سلّة العملية السلمية التسووية".
ولا بأس هنا أن نتعرف على قائمة المفردات التي يستخدمها في تشخيص الحالة لعالم فتح الداخلي هذه الأيام، إذ يقول في وصفه: "... عدم الإنجاز السياسي والإخفاق الإداري، والتخشّب الفكري أو غياب الرؤية، وانعدام الكاريزما الشخصية... وتعجلّت "فتح" التاريخ، من أجل اتفاق غامض رسم مستقبلًا غامضًا، ندفع كلنا ثمن ضعفنا فيه، وهزيمتنا المدوية". ثم تأتينا مفرداته الكاشفة لتتحدث عن: "الهواء الفاسد... التصدّعات والغياب والتكلس والتبديد.. والغيبوبة.. وحالة البؤس – بؤس حركة فتح.. التفكك والتسطح واللامبالاة... الحرد والزعل والتنجير".
وفي فقرة ينفض فيها المتوكل طه همومه الثقيلة فيحدثنا عن أن: "ثمّة حالة عجز واغتراب وتشويه البنى الفكرية والثقافية للأفراد والجماعات وضياع المهمّات، عدا عن أن الاغتراب يعطّل الطاقات ويدفع الفرد إلى الإحباط أو البحث عن الخلاص الشخصي، ما يعمّق تجليات الارتكاس والذبول والتراجع في مجتمعنا، التي تتمثل في تمزيق الذات، وإهانة الرموز والانتماء للدوائر الصغيرة، واعتماد اللغة النهائية، والمتشبه بالجلاد، وتقطّع المنظومة الاجتماعية والأخلاقية، وتعدد الأولويات وتشقق الملامح في الشخصية الفلسطينية".
ويخلص طه من كل ذلك إلى "أن المجتمع الذي يكون قد فقد الكثير من مناعته وحصانته الأخلاقية، يصل إلى شكل من أشكال الهزيمة". ثم يشرع في استعراض تسع تجلّيات لهذه الهزيمة.
وينتقد النزعة القبلية العصبوية النعروية الغرائزية التي تغطي على الوعي الحرّ التي تطغى على السلوك النخبوي الفتحاوي، فيقول: "فالانتماء للقبيلة لا يحتاج إلى الوعي الحرّ، بل إلى الطاعة العمياء، وإلى العصبوية الضيقة، ولم يكن ذلك عفويًّا، كما لا يستهدف حماية الثورة أو فتح كقبيلة بمفهوم الجماعة، بل من أحل أن تختبئ جماعة بعينها تستولي على إرادة فتح.. خلف فتح القبيلة، وكلما استيقظ الشعب على استلاب إرادته، تستدعي تلك الجماعة قيم القبيلة لتختبئ خلفها، فتراهم يختبئون خلف فتح كلما اهتزت مواقعهم. ويدّعون أن التهديد الذي يواجههم هو تهديد لفتح، والحقيقة أنهم هم التهديد الأخطر على فتح".
ومع كل هذا النقد المرير، فإن المتوكل طه، مثل غيره من قيادات وكوادر فتح التي كتبت في مراجعاتها العميقة عن الحركة، وفي نوع من تعزية النفس، يرون بأن الذي فسد في فتح هو الإطار التنظيمي، وليست الفكرة التي قامت عليها الحركة، والتي نفترض أنها فكرة تحرير فلسطين. وهو يذهب هنا إلى ما كان كتّاب فتحاويون سابقون قد ذهبوا إليه، مثل أحمد غنيم، إبراهيم أبراش ومعين الطاهر وغيرهم، إذ يقول: "ثمة خطأ بين تنظيم حركة فتح وحركة فتح، فهم كل ما يُقال من سلبيات إنما يذهب لتنظيم فتح وقياداتها، وليس للفكرة الوطنية التي تعبّر عنها حركة فتح.
حدث تباين بينهما، فالتنظيم كأشخاص أو أدوات تنظيمية وتنفيذية ومؤسسات لم يعد يعبّر تعبيرًا صادمًا عن حركة فتح، فكل الانتقادات والمساوئ والأخطاء التي ينسبها الناس لفتح، إنما سببها تنظيم فتح وقياداته وليس حركة فتح". ثم يوضح طه أن المقصود بمنظومة التنظيم: "المجلس الثوري واللجنة المركزية، وهما الإطاران القياديان اللذان يتحمّلان مسؤولية انزياح الحركة عن مسار رؤيتها ومبادئها وأهدافها، وليس أدلّ على ذلك من مخرجات المؤتمر السادس الذي تدخّل في تغيير المكوّنات الأساسية للحركة وتخفيض المكون العسكري لصالح المكون المدني داحل الحركة".
ويوضح: "ونحن هنا لا نقصد بالمكوّن العسكري الأجهزة الأمنية. كذلك حذف مبادئ الحركة من النظام الداخلي حتى دون أن يناقش ذلك من أعضاء المؤتمر، ليكون ذلك بمثابة إشارة لأطراف التسوية أن فتح تغيّر ميثاقها في جوهره الأكثر أهمية المتعلّق بمبادئها، وتتخلّى بشكل كامل عن نص النظام المتعلق باعتماد الكفاح المسلح وسيلة للتحرير".
وفي مثل هذه المراجعة التي قيّم بها المتوكل طه؛ يكرر دعوته في هذا الكتاب إلى إعادة تعريف حركة فتح، وربما سنذهب معه إلى أبعد من ذلك إذا ما دعونا إلى إعادة تعريف ما الذي بقي وطنيًّا من فتح من ذاك غير الوطني؟! خاصّة وأن طه دعا أيضًا إلى: "أن تتخلص فتح من الاستطالات الاحتلالية أيًّا كان موقعها ونفوذها".
وإذا كانت حركة فتح على هذا النحو كما يعرضها أحد شعرائها وكتّابها وقياداتها، فإننا نعتقد أن أي براغماتية أو مرونة سياسية لا تبرر محاولة القوى الفلسطينية الحيّة التأقلم والتكيّف مع هذه الدرجة من الفساد والانحراف، لأنها بذلك إنما تمدّ في عمر الفساد والانحراف، وإذا كان هنالك ما يحتاج إلى تغيير في الساحة الفلسطينية فهو كل هذه الحال العليلة التي غدت عليها حركة فتح، لأن مرض فتح هو من النوع المعدي.
والمشكلة أن علّة فتح هي من النوع الذي يصيب الرأس والقلب، وهذا لا يعني ترك الأطراف، بل الاعتناء بها، ومحاولة استنقاذها من براثن هذه الحالة من التدهور المستمر.