في حديثه عن الموسيقى، يقول جبران خليل جبران :"وعندما يأتي الموت، ويمثل آخر مشهدٍ من رواية الحياة نسمع الموسيقى المُحزنة ونراها تملأ الجو بأشباح الأسى، في تلك السَاعة الموجعة إذ تودّع النّفس ساحل هذا العالم الجميل وتسبح في بحر الأبدية، تاركة هيكلها الهيوليَّ بين أيدي النَّدَّابين، فيتأوَّهون بنغمات الحزن والأسف ويلحفون تلك المادّة الثَّرى ويشيّعونها في ألحان مفادها الضَّيم وأناشيد معناها الكمد واللَّوعة، نغمات يحيونها ما بقي التّراب فوق التّراب وإن بليت يبقى صداها في خلايا الجوارح ما دام القلب يذكر مَن مضى." إنّها الموسيقى إيقاع الدّاخل، العمق، المساحات التي تعجز الكلمات بلوغها. إنّها سريان المعاني في تآلف وتناغم من أجل إيجاد المعنى من وجودنا. هذه الموسيقى صراط الروح الناقلة لكتل المشاعر والأحاسيس الإنسانية والوجودية كيف تكون بهذا الاستسهال لدى الجيل الجديد.
أعادني صخب الموت في الموسيقى التي تكلم عنها جبران إلى صخب الحياة في أغاني ابنة بلده الراحلة صباح ومن ثمة شاهدت لقاءها التلفزيوني مع
صباح فخري: وأيّ لقاء بين صباحين؟ نوستالجيا وذكريات حفلات وإنتاجات وأحاديث صادقة وصريحة بعيدا عن الاستفزازات والإهانات.
لا أدري كيف سحبت نفسي ودخلت إلى العالم الموسيقي للأستاذ صباح. ولكن اليوتيوب لم يسمح برحلة مسترسلة إذ أجبرني على تسميم أذاني بأشباه أصوات. وواصلت في الاستماع واعتبرتها أعمالا كوميدية من صنف الكوميديا السوداء على أنها أعمالا موسيقية.
استحضرت موقفا للفنان السوري والنجم العربي الراحل صباح فخري حين علم أن خامة صوته تغيرت بسبب التغير الهرموني لخصوصية سن الخامس عشرة، فقرر الاعتزال والانسحاب وخير البحث على عمل في ريف حلب على أن يظهر بنصف صوته ونصف إمكانياته. فقد انطلق فخري صغيرا في الموسيقى وانقطع عنها كبيرا بموقفه قبل أن يعود لها مجددا. ونذكر رغم الزاد الفني ورغم التشجيع آنذاك اختار الابتعاد عن الساحة الفنية والبحث عن عمل في ريف سوريا على أن يظهر بصوت هو غير مقتنع به. علما لم يتغير صوته بشكل كبير قادر على تنفير الجمهور منه، ولكنه أبى أن يكون تحت مستوى الهدف الذي يريد بلوغه. وهذا لا يمكن حصوله إلا مع فنان حامل لمشروع.
أما اليوم فالكثيرات والكثيرون من الفنانين يختبئون أو يخبئون ضعف أصواتهم داخل الصور والإبهارات للكليبات أو داخل الملابس والإكسسوارات والديكور والسينوغرافيا عموما. ويقبلون الظهور بنشازاتهم وأغانيهم التي يهتز لها الجسد دون الروح والفكر.
صباح فخري، الذي مرت على وفاته أكثر من سنة (2 نوفمبر 2021) لم يخلّد فقط مجموعة من الأغاني والنجاحات الموسيقية والحفلات الكبرى، ولكن ورّث الأجيال الموسيقية التي تلته "الإيتيكات" أو بالأحرى "ثقافة" الممارسة الفنية أو عادات ترتقي بالفنان. فالفنان ليس لحظة أداء مهمته الفنية وإنما هو خارج المسرح، بعيدا عن الأنظار في تفاصيل حياته اليومية.
صباح فخري: "ما أوتينا من العلم إلاّ القليل"
بينما ينساق جزء من الجيل الجديد من الفنانين خلف أضواء الشهرة والصور ونجاحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لا أكثر فيتركون مقاعد الدراسة مبكرا ولا يهتمون حتى لدخول دورات تدريبية والتكون موسيقيا، فإن الحال يختلف مع صباح فخري ومع أبناء جيله، ففي أحد حواراته قدم هذا التصريح الثمين: "الإنسان يظل تلميذ وبحر العلم كبير جدا.. وما أوتينا من العلم إلاّ القليل".
الموسيقي والكتاب
لا يخفى على أحد أنّ صباح فخري شغوف بالمطالعة ومن بين الكتب، التي كانت تلازمه دائما، ديوان الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وذلك لأنه كتاب تاريخي يحمل قصص الآخرين من غزوات وحروب بشكل عام كما يؤرخ للفنانين العرب والغناء العربي.
إنّ القراءة شرط من شروط نجاح الفنان. والكتب التي ينتقيها للقراءة مراجع نظرية هامة لبناء مشروعه الفني. ولكن ما نراه مع الأجيال الفنية الجديدة وسنكتفي بالقول جزء من هاته الأجيال حتى لا نلام لتعميمنا الظاهرة، تتوقف عملية الإبداع الموسيقي حسب مخيلتهم عند آخر درج يوصلهم إلى "أستديو" تسجيل الأغنية أو مكان تصوير الكليب أو ساعة لقاء الملحن لاختيار الكلمات أو اختيار ملابس التصوير فيما بعد وعمليات التجميل لو كانت فنانة ولو أن الأمر صار ينسحب أيضا على بعض الفنانين.
لا قطيعة مع الأجيال السابقة
لو نعود على تفاصيل حياة الفنان صباح فخري سنجد أنّه تعلم الغناء من نساء وتعلّم الترتيل من والده والتزم فنيا اتباعا لجيل مهم من الفنانين كمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم. وكان أوّل اختبار موسيقي لصوته أمام هذين العملاقين. ولا ننسى لقاءه الفني مع النجمة اللبنانية صباح وكيف كان متأثرا ومقدرا لذلك. في حين أنّ الأجيال متصارعة ولا وجود لأي استعداد لهذا التبادل الموسيقي والاستفادة من التجارب السابقة فهي مطروحة في مخيلتهم ضمن "القديم والتقليدي" بل انّهم يعتقدون أن العصري هو قطيعة بالضرورة مع الكلاسيكي.
وصارت بعض البرامج التلفزية تتغذى من هذه الصراعات ونسميها في تونس "الكلاشات" المصطلح الأكثر تداولا وهو بالفرنسية clash أي الهجومات بين الفنانين. وصار الفنانين الذي هم عرضة أو مسببو هذه الكلاشات الأكثر حضورا في البرامج التلفزية.
المخابر الفنية
حين نستحضر صباح فخري أو غيره من فناني الأجيال السابقة نستحضر تجارب موسيقية، بل مخابر للإنتاج والإبداع. فكل فنان هو مدرسة موسيقية متنقلة من طرافة الكلمة الى طرافة اللحن. كنا نفرق بين الموسيقى الغربية والموسيقى العربية. بين الطابع والخصوصية العربية والغربية. اليوم البعض (حتى لا نورط أنفسنا في التعميم) "يجتهد" في سرقة.. عفوا في اشتقاق لحن أغنية غربية والتعسف على الكلمات أو "التمتمات" حتى تكون متآلفة مع الموسيقى التي غالبا يجب أن تكون إيقاعية ولا يهم مناسبة مع المعنى أولا فهذا آخر ما يشغلهم أًصلا كل ما يهم هو إنتاج أغنية غريبة تتجاوز تركيبة العقل والمنطق ليس لأنها خارقة للذكاء البشري بل الصراحة أنها خارقة لدرجة توقعات "الغباء" الموسيقي.
وأنا أستمع لأغنية "خمرة الحب"، "قل للمليحة"، قفزت إلى ذهني العديد من التساؤلات حول واقع الموسيقى العربية اليوم ودرجة الاستسهال التي سقطوا فيها إلى درجة أنّه صار متاحا لأي إنسان إنتاج أغنية، حتى أنني ومن باب التندر سألت نفسي مرة بإمكاني أنا أيضا أن أصبح مغنية فيكفي سيناريو كليب جيد والاشتغال على الصوت "كلينيكيا" عفوا روبوتيا وتقنيا حتى تكون النسخة النهاية جيدة من منظور "شوارعي".
في أواخر أيامه كان صباح فخري مستاء من الوضع الذي انحدرت له الأغنية العربية ولما سئل عن حالها أجاب: "المستوى الحالي للفن العربي، في حالة الركود الأغنية العربية لا بد لها أن تستيقظ في المستقبل..." ثم ضحك وقال: "إن شاء الله تستيقظ الأغنية العربية قريبا".
إلى صباح فخري: لا أعتقد أن الأغنية العربية قد استيقظت.. ما زلنا ننتظر استيقاظها.. هل هو قريب أم بعيد.. لا ندري.