قال الصحفي البريطاني
بيتر أوبورن، إن الحكومة
الإسرائيلية الجديدة، التي شكلها اليمينيون، "عازمة
على سحق ترتيبات الوضع القائم" في المسجد
الأقصى، وهو ما ينذر بعواقب كارثية.
واستعرض الصحفي، في
مقال له نشره موقع
ميدل إيست آي، وترجمته "عربي21"، تاريخ الوضع القائم منذ اتفاقية برلين عام 1878، بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية آنذاك، والتي
وضعت جملة من القواعد للتعامل مع منطقة المسجد الأقصى، وبين ما تفعله حكومة
نتنياهو، وخاصة الوزير المتطرف إيتمار بن غفير.
وفيما يلي النص الكامل
للمقال:
سبق أن دخل إيتمار
بن غفير، السياسي اليميني المتطرف وزعيم حزب القوة اليهودية، ساحة المسجد الأقصى
مرات عديدة من قبل، ولكن ليس بوصفه وزيراً في الحكومة الإسرائيلية.
وذلك ما يجعل الزيارة
التي قام بها للموقع يوم الثلاثاء مسؤول الأمن الجديد في البلاد حبلى بالمخاطر.
فقد بعثت بإشارة
مفادها أن ثمة عناصر داخل الحكومة الإسرائيلية عقدت العزم على سحق ترتيبات الوضع
القائم التاريخية التي حافظت على السلام، بطريقة أو بأخرى، على مدى قرون، ما ينذر
بعواقب كارثية.
وترتيبات الوضع القائم
تلك هي عبارة عن مجموعة من التفاهمات التي سمحت للأديان الثلاثة بالحفاظ على حالة
من السلام النسبي، وهي التفاهمات التي تم النص عليها رسمياً ضمن معاهدة برلين التي
وقعت بين الإمبراطورية العثمانية والقوى الأوروبية العظمى في عام 1878.
ومع انهيار
الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، تولت السلالة الهاشمية الولاية
على المسجد الأقصى، وهي الولاية المتمثلة حالياً بالعاهل الأردني، الملك عبد الله
الثاني.
تشترط الاتفاقية
السماح للمسلمين دون غيرهم بالصلاة داخل المسجد الأقصى، بينما يُسمح لغير المسلمين
بزيارته تحت إشراف دائرة الأوقاف، وهي عبارة عن هيئة أردنية فلسطينية مشتركة تناط
بها مهمة إدارة شؤون المسجد. يمكن لليهود، بموجب الاتفاق، تأدية الصلاة عند حائط
البراق، أو ما يعرف باللغة الإنجليزية بالحائط الغربي. في هذه الأثناء تحتفظ
السلطات الإسرائيلية بالسيطرة الأمنية على المسجد.
في الماضي، كان
السياسيون الإسرائيليون (والأجهزة الأمنية الإسرائيلية) يدركون الحاجة إلى الحفاظ
على الوضع القائم بعد أن غزت إسرائيل القدس في عام 1967، حتى أن وزير الدفاع
الإسرائيلي حينذاك، موشيه دايان، أمر الدخلاء اليهود بإخلاء المسجد الأقصى وإعادة
المفاتيح إلى دائرة الأوقاف.
وكان ذلك هو نفس موقف
المؤسسة الدينية، حيث أكد رئيس الحاخامية في إسرائيل بكل وضوح أن اليهود لا ينبغي
أن يزوروا "جبل الهيكل" – أو ما يطلق عليه المسلمون اسم "الحرم
الشريف"، لأن دخول اليهود إلى هذا المكان المقدس يعتبر معصية.
اظهار أخبار متعلقة
ولكن مع مرور السنين
راحت إسرائيل تتجاهل ذلك الترتيب الدقيق وتتجاوز دائرة الأوقاف، فتكرر اقتحام
المسجد في العديد من المناسبات من قبل القوات الإسرائيلية واليهود المتدينين ورموز
اليمين المتطرف من السياسيين، حتى غدت الاقتحامات منذ عام 2017 جولات يومية منظمة.
الوضع القائم في خطر
في تاريخ إسرائيل،
هناك العديد من السياسيين الذين رأوا من المناسب تهديد الوضع القائم، ولكن اثنين
هما اللذين برزا من بين هؤلاء جميعاً.
أما الأول فكان آرييل
شارون الذي اقتحم ساحة المسجد في سبتمبر / أيلول من عام 2000 (وكان حينها ما يزال
في المعارضة)، وكان يرافقه ستة من أعضاء الكنيست ويوفر لهم الحماية ألف شرطي
إسرائيلي.
كان الحدث صادماً،
ورأى فيه الفلسطينيون تصرفاً استفزازياً غير مبال بقدسية المسجد، فكان بمثابة
الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي نجم عنها مقتل ثلاثة آلاف
فلسطيني وألف إسرائيلي، وظل الوصول إلى المسجد على مدى ثلاث سنين مقيداً، للمسلمين
ولغير المسلمين على حد سواء.
وعندما انتخب شارون
رئيساً للوزراء أمر بإعادة فتح الأقصى أمام الزوار اليهود وأمام المسلمين كذلك.
ومنذ ذلك الحين واتفاق الوضع القائم يتعرض للتقويض بشكل تدريجي، كما شاهدت بنفسي
عندما زرت المسجد الأقصى في الشهر الماضي.
نظرياً، بموجب
الاتفاق، يتولى الأردن التحكم الكامل بما في داخل مجمع المسجد، أما عملياً فالقوات
الإسرائيلية تنتشر في كل مكان، وتحتفظ بمكتب لها داخل الساحة مباشرة إلى الشمال من
قبة الصخرة، بينما تتواجد مفرزة تابعة لها في الجهة المقابلة للمسجد. ولقد قدرت
عدد أفراد الشرطة والجيش المتواجدين داخل الأقصى بما يقرب من أربعين.
كان جنديان يحملان
المدافع الرشاشة ويتسلحان بما بدا لي أنه قنابل غاز. اقتربت منهما وسألتهما عما
يفعلانه هنا، فأجاب أحدهما: "نحن هنا فقط للحماية. وتحديداً نحن مكلفون
بحماية اليهود المتدينين، فالمسلمون لا يسرون برؤيتهم عندما يدخلون إلى هنا."
سألتهما إن كانا قد
سبق وأن استخدما أسلحتهما، فقال الجندي الذي كان يجيب على كل أسئلتي: "لا
نستخدمها إلا أحياناً." سألته عن عدد قوات الأمن المتواجدة داخل الساحة،
فقال: "يوجد هنا اليوم ما بين 35 إلى 50."
استراتيجية قديمة
في الجوار كانت مجموعة
من حوالي عشرين يهودياً متديناً يدخلون الساحة من جهة جنوب الغرب، يتحركون في حيرة
وينظرون من حير لآخر إلى أعلى باتجاه قبة الصخرة. قدمت نفسي لهم وسألتهم ما الذي
يفعلونه هنا. أجابني شاب يدعى جوشوا لحيته شقراء اللون: "هناك في الأعلى يوجد
جبل الهيكل، حيث كان يقع المعبد اليهودي، ونحن نرجو أن يقام هناك معبد آخر ذات
يوم."
لم يزل الوضع القائم
يتعرض للتقويض بالتدريج على مدى العقدين الماضيين. والآن، بات حدثاً يومياً
تقريباً قيام المجموعات اليهودية باقتحام المكان المقدس بحجة الوصول إلى ما يسمونه
جبل الهيكل، وذلك تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، في انتهاك سافر للوضع القائم،
الأمر الذي يثير التوتر داخل القدس الشرقية وما بعدها.
وزاد من التوتر ما
أحرزه الائتلاف الصهيوني الديني في الانتخابات الأخيرة من تقدم، وهو الائتلاف الذي
يتزعمه كل من بيزاليل سموتريتش، من حزب الصهيونية الدينية، وبن غفير. ومن هنا جاءت
الزيارة الاستفزازية التي تمت يوم الثلاثاء.
بالنسبة للفلسطينيين،
تمثل زيارة بن غفير أوج الاستراتيجية التي تنتهجها دولة إسرائيل والجماعات
اليمينية منذ عقود لتهويد المدينة والتخلص من تراثها الفلسطيني الأصيل.
تحدثت مع أحد مسؤولي
الأوقاف، وهي الهيئة التي تدير الأقصى، فقال لي: "تنتزع إسرائيل بالتدريج
الصلاحيات من الأوقاف."
وقال ضارباً الأمثلة
على ذلك: "لابد من إخبار السلطات الإسرائيلية إذا ما أردنا أن ننفذ أعمال
طلاء. في إحدى المرات توجه مهندس إلى الجزء الشرقي من المسجد مع سمكري لاستبدال
أنبوب مياه أكله الصدأ، فأمرته الشرطة بالتوقف والحصول على إذن. وقد تعرض ذلك
المهندس ومعه السمكري للاعتقال عشرات المرات. وفي إحدى المرات انفجر أنبوب مياه
فلم تسمح الشرطة الإسرائيلية للأوقاف باستبداله مباشرة، وظلت المياه تتسرب لعدة
أيام.
ولا تسمح الشرطة الإسرائيلية للأوقاف بتركيب صنابير إطفاء الحريق مع أنابيب
المياه. ولا يسمحون لنا بالحفر تحت الممرات. كنا نريد تثبيت قطعة من الخشب على
الدرجات لتسهيل الوصول إلى المياه، فتدخلت الشرطة. كما منعت الشرطة الإسرائيلية
دخول الجرارات، مما نجم عنه إعاقة العمل. والآن نريد تثبيت بعض الأحجار المتقلقلة
في بضع ممرات فلا نستطيع."
وذلك أن الشرطة
الإسرائيلية لا تسمح لهم باستخدام الإسمنت لحل المشكلة. بينما تستمر إسرائيل نفسها
في هذه الأثناء، كما قال، بأعمال الحفريات الأثرية، وقد سعت إلى إنشاء ما لا يقل
عن عشرين نفقاً تحت المسجد.
كما أخبرني ذلك
المسؤول بما يلي:
"إنهم
يلقون القبض على حراس الأوقاف طوال الوقت، فيما لو اعترضوا على دخول المستوطنين،
أو لو ساروا على مقربة من المستوطنين. بل لقد فتحوا النار على حراس الأوقاف بالرصاص
المطاطي رغم أنهم لم يكونوا يعملون شيئاً. أصيب اثنان منهم بطلقات في العين، وهذا
لا يمكن أن يكون عملاً عشوائياً. كان صديق لي يهم بمغادرة المسجد إلى الساحة خارج
المبنى الجنوبي للمسجد، فأطلقوا عليه النار وأصابوه بطلقة مطاطية في الصدر. لم يكن
يعمل شيئاً. نقل بعدها إلى المستشفى."
طلبت منه مزيداً من
التفصيل، فقال: "كان الفلسطينيون بالجوار يحتجون ضد الاحتلال." وأضاف
قائلاً إن بعض اليهود المتدينين دخلوا الأقصى وهم يحملون الأعلام الإسرائيلية أو
يغنون النشيد الوطني. وكان آخرون يؤدون الصلوات اليهودية على الملأ.
وقال: "كان
الحراس من قبل يسحبونهم ويخرجونهم، ولكن لم يعد ذلك وارداً الآن."
حرب دينية؟
تسيطر القوات
الإسرائيلية بشكل كامل على باب المغاربة، والمخصص لدخول غير المسلمين، بما يعني أن
حراس الأقصى ليست لديهم صلاحية منع الجيش الإسرائيلي من الدخول إلى الموقع، وفي
ذلك انتهاك سافر للوضع القائم.
اظهار أخبار متعلقة
تعود المداهمات
الإسرائيلية للمسجد الأقصى إلى عام 1967 عندما احتلت إسرائيل القسم الشرقي من
المدينة إلى جانب الضفة الغربية وقطاع غزة.
وخلال السنوات الأخيرة
اعتدت القوات الإسرائيلية على الأقصى في العديد من المناسبات، حيث اقتحمت الشرطة
المصلى القبلي واعتدت على المصلين، في انتهاك خطير آخر لاتفاق الوضع القائم. وكما
يقول أحد كبار المسؤولين الأردنيين: "ما فتئت إسرائيل، وبشكل متزايد، تشير
إلى العرب باعتبارهم مستأجرين سوف يتم في نهاية المطاف إخلاؤهم بدلاً من اعتبارهم
جيراناً لهم حقوق."
توجهت قبل أن المغادرة
إلى مكاتب الأوقاف لإجراء مقابلة مع الشيخ عزام الخطيب، مدير الأوقاف الإسلامية
وشؤون الأقصى في القدس. أوقفني الجنود عند البوابة، ثم سمحوا لي بالدخول بعد أن
حضر أحد مسؤولي الوقف لملاقاتي ومرافقتي.
قال لي عزام الخطيب:
"نصلي في المسجد الأقصى منذ ألف وخمسمئة سنة."
وأضاف: "تعمل
إسرائيل بجد الآن لتغيير الوضع القائم تاريخياً، وتعيق عمل المسجد. هناك الكثير من
الحواجز الأمنية في محيط المسجد، وتنتشر قوات الأمن الإسرائيلية في كل أرجاء
الأقصى وفي كل مكان في ساحته. بإمكانهم منع أي شخص من الدخول لو أرادوا ذلك،
ويعتقلون المسلمين. وأوقفوا العمل في أكثر من عشرين مشروعاً كبيراً."
ومضى يقول: "بات
الأقصى ممسوكاً بقبضة حديدية. هنا في القدس نعتمد على ولاية الملك عبد الله، فهذا
المكان جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي والعقيدة الإسلامية. إنه يمثل عقيدة ما
يقرب من ملياري مسلم. الملك عبد الله والهاشميون من سلالة النبي، ولن يسمحوا
بتاتاً لإسرائيل أو لأي أحد آخر بالتحكم بالمسجد. ولكن فيما لو غيرت إسرائيل، لا
سمح الله، الوضع القائم، فإن ذلك سيؤدي إلى اشتعال حرب دينية سوف تمتد إلى ما هو
أبعد بكثير من المسجد الأقصى".