لا
يغير تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، الذي "يطالب"
محكمة العدل الدولية "برأيها" حول العواقب القانونية لاحتلال
إسرائيل
للأراضي
الفلسطينية، شيئاً في استمرارية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين.
كما أنه لا يغير شيئاً في التزام المنظمة
الصهيونية العالمية بالتفوق العرقي
اليهودي، الذي أورثته للنظام الإسرائيلي بمجرد أن غزا المستعمرون الصهاينة معظم
فلسطين وأعلنوا إقامة مستعمرتهم الاستيطانية كـ"دولة يهودية" في عام
1948. كما لن يكون له أي تأثير على سلسلة قوانين التفوق العرقي اليهودي التي
أصدرتها المستعمرة الاستيطانية منذ إنشائها، والتي تواصل منذ ذلك الحين اضطهاد
الشعب الفلسطيني سواء القابع تحت السيطرة الإسرائيلية أو أولئك المنفيون من قبلها.
أما
الدول التي صوتت ضد قرار الأمم المتحدة أو امتنعت عن التصويت فهي إلى حد كبير دول
أوروبية استعمارية، والمستعمرات الاستيطانية الأوروبية في الأمريكتين، إضافة إلى
عدد قليل من الأنظمة العميلة الموالية للغرب في أوروبا وبقية العالم. ومن الجدير
بالذكر أن بريطانيا التي سهلت ورعت الاستعمار الصهيوني اليهودي لفلسطين والتي يحمّلها
معظم الفلسطينيين المسؤولية عن نكبتهم التاريخية والمستمرة، قد صوتت بوقاحتها المعهودة
ضد القرار. وكذلك فعلت ألمانيا، صاحبة التاريخ الحافل بالإبادة الجماعية، والذي
يتجلى تكفيرها عن جرائمها النازية المروعة ضد اليهود في دعمها للاستعمار الصهيوني
واضطهاده للفلسطينيين. وغني عن الذكر أن أقوى مستعمرة استيطانية في العالم،
الولايات المتحدة، التي كانت ولم تزل الراعي الإمبراطوري الرئيس لإسرائيل، قد عارضت
القرار بدورها.
نتنياهو محق تماماً في أن "الشعب اليهودي ليس محتلاً" لأرض الفلسطينيين. فالمحتلون هم الحركة الصهيونية، والحكومة الإسرائيلية، والمستعمرون الإسرائيليون اليهود، ولكن ليس "الشعب اليهودي" الذي يرغب نتنياهو في اختزاله في خطوة معادية للسامية تعزو الجرائم الصهيونية لليهود
وقد
ردّ ملك إسرائيل المتوج الجديد بنيامين نتنياهو على الأمم المتحدة على الفور:
"الشعب اليهودي ليس محتلاً في أرضه ولا محتلاً في عاصمتنا الأبدية القدس، ولا
يمكن لأي قرار من الأمم المتحدة أن يشوه هذه الحقيقة التاريخية". بالطبع، نتنياهو
محق تماماً في أن "الشعب اليهودي ليس محتلاً" لأرض الفلسطينيين. فالمحتلون
هم الحركة الصهيونية، والحكومة الإسرائيلية، والمستعمرون الإسرائيليون اليهود،
ولكن ليس "الشعب اليهودي" الذي يرغب نتنياهو في اختزاله في خطوة معادية
للسامية تعزو الجرائم الصهيونية لليهود.
تعبّر
هذه الحملة الإسرائيلية المعادية للسامية عن سياسة إسرائيل القائمة، فقد أعلن سفير
إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، أنه "لا يمكن لأي هيئة دولية أن
تقرر أن الشعب اليهودي محتل في وطنه". وأضاف السفير في بيان استبق التصويت: "إن أي
قرار من هيئة قضائية تتلقى تفويضها من الأمم المتحدة المفلسة أخلاقيا والمسيّسة هو
قرار غير شرعي تماما".
وفي
تغطيتها لتصويت الأمم المتحدة، أضافت وكالة رويترز أنه "إلى جانب غزة والقدس
الشرقية، يسعى الفلسطينيون إلى إقامة دولة في الضفة الغربية المحتلة. وتعتبر معظم
الدول المستوطنات الإسرائيلية هناك غير قانونية، وهي وجهة نظر تنفيها إسرائيل
مشيرة إلى الروابط التاريخية والتوراتية بالأرض". أما هذه "الروابط
التاريخية والتوراتية" المزعومة "بالأرض" فهي في الواقع جوهر حجة المطالبة
الصهيونية بوطن الفلسطينيين، حيث تشمل التأكيد الأساسي على أن "الشعب
اليهودي" عاش في فلسطين منذ ألفي عام وأن اليهود كانوا سكانها الحصريين دون
غيرهم.
لكن
الناس الذين كانوا يعيشون في فلسطين قبل ألفي عام هم العبرانيون وليس "الشعب
اليهودي" (والأخير مفهوم حديث)، ولم يسكن العبرانيون فلسطين بمفردهم. وهو ما تخبرنا
به الرواية التوراتية، كما هو موصوف في سفر يشوع، أن
العبرانيين لم يكونوا من سكان
فلسطين، وإنما كانوا غزاة اجتاحوا أرض كنعان واحتلوها من الكنعانيين، زاعمين بأن
إلههم قد "وعدهم" بها.
يستند هذا الادعاء إلى العداء التاريخي للكنيسة الكاثوليكية لليهود الأوروبيين، التي ربطتهم بالعبرانيين القدماء بوصفهم "قتلة المسيح"، ولكنه يستند أكثر إلى طموحات حركة الإصلاح البروتستانتي الألفية التي طالبت بطرد يهود أوروبا إلى فلسطين، والتي ادعى البروتستانت أن من شأن "عودة" اليهود إلى فلسطين أن يسرّع المجيء الثاني ليسوع المسيح بحسب معتقداتهم
لكن
الرواية الصهيونية الأكثر أهمية هي فانتازيا أن اليهود المعاصرين هم الأحفاد
المباشرون والوحيدون للعبرانيين القدماء. ويستند هذا الادعاء إلى العداء التاريخي
للكنيسة الكاثوليكية لليهود الأوروبيين، التي ربطتهم بالعبرانيين القدماء بوصفهم
"قتلة المسيح"، ولكنه يستند أكثر إلى طموحات حركة الإصلاح البروتستانتي
الألفية التي طالبت بطرد يهود أوروبا إلى فلسطين، والتي ادعى البروتستانت أن من
شأن "عودة" اليهود إلى فلسطين أن يسرّع المجيء الثاني ليسوع المسيح بحسب
معتقداتهم.
أما
اعتقاد العديد من اليهود المتدينين بأنهم قد جاءوا تاريخياً من فلسطين فله نفس
المصداقية في حال ادعى مسلمو الهند، أو الصين، أو إندونيسيا، أو نيجيريا، أو
ماليزيا، بأنهم جاءوا أصلاً من الجزيرة العربية لمجرد أن الجزيرة العربية كانت مهد
ديانتهم. يرفض الصهاينة مثل هذه المقارنات لأنهم يصرون على أن ادعاءهم يستند إلى زعم
آخر، وهو أن بينما كان الإسلام والمسيحية دينين تبشيريين، فإن اليهودية لم تكن ديناً
تبشيرياً. لكنه قد تم فضح هذا الزعم الصهيوني الكاذب من قبل المؤرخين الذين أظهروا
بأدلة تاريخية واضحة وبشكل لا يقبل الجدل أن اليهودية كانت بالفعل ديانة تبشيرية،
مع استمرار الاعتناق الجماعي لليهودية حتى القرن التاسع على الأقل.
بالإضافة
إلى ذلك، يزعم الصهاينة أن العرب الفلسطينيين هم من نسل الفاتحين العرب المسلمين
في القرن السابع. لكن هذا أيضاً غير صحيح، فالفتح العربي لم يكن احتلالاً استيطانياً،
بل كان غزواً تبشيرياً وتوسعياً إقليمياً. وقد ظلت غالبية الشعوب الأصلية التي
غزاها العرب المسلمون من بلاد الشام التي حكمها الروم سابقاً تشكل الأغلبية بعد
الفتح (ويشمل ذلك الغساسنة المسيحيين وهم من عرب بلاد الشام الأصليين). وقد استغرق
الأمر ما يصل إلى خمسة قرون، سواء في فلسطين وبلاد الشام ككل، أو في مصر (حيث
استغرق الأمر وقتاً أطول)، قبل أن يعتنق غالبيتهم، الذين كانوا مسيحيين، الإسلام،
على الرغم من أن الأغلبية كانوا قد تبنوا اللغة العربية وتم تعريبهم ثقافياً قبل
ذلك بكثير، بما في ذلك معظم الكنائس المسيحية الأصلية في بلاد الشام.
في
الواقع، كان عدد قليل من العرب قد انتقل إلى الأراضي التي تم احتلالها في بلاد
الشام، وقد استقر هؤلاء في المناطق الحضرية. وعندما غزا الصهاينة الأوائل، أي
الصليبيون، فلسطين في القرن الحادي عشر، كان معظم سكان فلسطين الذين وقعوا ضحية
المذابح والنهب الصليبية من المسيحيين الناطقين باللغة العربية (إلى جانب الأقلية
من العرب المسلمين بالطبع).
هذه الحقائق هي ما دفع الآباء المؤسسين للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، دافيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، إلى الإقرار والاعتقاد في كتاب شاركا في تأليفه في عام 1919 بأن غالبية الفلسطينيين هم في الواقع من نسل العبرانيين القدماء الذين اعتنقوا المسيحية ومن ثم الإسلام.
وهذه
الحقائق هي ما دفع الآباء المؤسسين للمستعمرة الاستيطانية اليهودية، دافيد بن
غوريون وإسحاق بن تسفي، إلى الإقرار والاعتقاد في كتاب شاركا في تأليفه في عام
1919 بأن غالبية الفلسطينيين هم في الواقع من نسل العبرانيين القدماء الذين
اعتنقوا المسيحية ومن ثم الإسلام. ولكن نتيجة المغالطة الأوروبية الاستعمارية في
اعتبار العروبة تصنيفا عرقيا بدلاً من كونها هوية لغوية وثقافية، فقد هدفت القوى
الاستعمارية الأوروبية العنصرية إلى تقسيم العرب، مدعيةً أن المصريين والعراقيين وسكان
شمال أفريقيا والموارنة السوريين وغيرهم، ليسوا في الواقع عرباً، بل شعباً تم
احتلاله من قبل العرب، أي أنهم عُربوا. وهو ادعاء لا تطعن فيه القومية العربية،
التي تصر بخلاف العرقية الأوروبية بأن تعريف العربي هو من يتكلم اللغة العربية كلغته
الأم، كما أكد على ذلك أهم أعلام الفكر العروبي بمن فيهم ساطع الحصري.
أما
الادعاء الاستعماري الصهيوني منذ نهاية القرن التاسع عشر بأن يهود أوروبا لهم الحق
في "العودة" إلى وطنهم القديم المزعوم فلم يكن ابتكاراً خاصاً بهم، بل كان
هذا بالفعل ادعاءً قدمه الفرنسيون عندما استعمروا الجزائر، والإيطاليون عندما
استعمروا ليبيا. أي أن الفرنسيين والإيطاليين قاموا بـ"العودة" إلى
أراضي الإمبراطورية الرومانية القديمة، وبالتالي لم يكونوا أجانب مستعمرين. وبحسب
علمي، فإن الأوروبيين "الآريين" الذين يزعمون أنهم يتحدرون من قبائل
هندو- أوروبية جاءت من شمال الهند لم يقدموا لغاية الآن مطالبة بـ"العودة"
إلى وطنهم القديم واستعمار شبه القارة الهندية.
هذه هي الحجج الأيديولوجية الوحيدة المقنعة لأوروبا المسيحية والولايات المتحدة الأكثر المسيحية وللشتات اليهودي، والتي تبرر الاستعمار الصهيوني. وهذه الادعاءات الزائفة راسخة بالفعل في التقاليد الدينية والعلمانية الغربية، لدرجة أن بعض مؤيدي النضال الفلسطيني ضد الاستعمار يقبلونها كحقائق حتى وإن رفضوا الحجة الصهيونية بأنها تبرر احتلال اليهود الصهاينة الحديث لفلسطين
ولكن
حتى إذا استبعدنا جميع التخيلات الفانتازية المذكورة أعلاه واعتبرناها، رغم عدم
عقلانيتها، حقائق تاريخية، فإن هذا لن يقودنا إلى استنتاج مفاده أن اليهود
المعاصرين بصفتهم أحفاد العبرانيين القدامى المزعومين لهم الحق في احتلال وطنهم
القديم المزعوم وطرد السكان الأصليين الفلسطينيين، بحجة أن اليهود المستعمرين هم
السكان الأصليون وأن الفلسطينيين الأصليين هم المستعمرون.
تظل
الادعاءات الفانتازية بالأصل الفلسطيني لليهود المعاصرين، وبأنهم الأحفاد الوحيدون
للعبرانيين القدماء، وبحقهم الحصري المزعوم في فلسطين، محورية في المزاعم
الصهيونية حول "الروابط التاريخية والتوراتية". وتدرك الحركة الصهيونية
والنظام الإسرائيلي أن هذه هي الحجج الأيديولوجية الوحيدة المقنعة لأوروبا
المسيحية والولايات المتحدة الأكثر المسيحية وللشتات اليهودي، والتي تبرر
الاستعمار الصهيوني. وهذه الادعاءات الزائفة راسخة بالفعل في التقاليد الدينية
والعلمانية الغربية، لدرجة أن بعض مؤيدي النضال الفلسطيني ضد الاستعمار يقبلونها
كحقائق حتى وإن رفضوا الحجة الصهيونية بأنها تبرر احتلال اليهود الصهاينة الحديث
لفلسطين.
لقد
فهم دافيد بن غوريون جيداً أن الادعاء الديني الصهيوني لا يجب أن يكون مقنعاً
للفلسطينيين. فبعد أن قاد الغزو الصهيوني لفلسطين، بدا بن غوريون مندهشا من أن
المستعمرين اليهود توقعوا من الفلسطينيين أن يقيموا السلام مع مستعمريهم. فرد بن
غوريون عليهم: "لماذا يقيم العرب السلام [معنا]؟ لو كنت زعيما عربيا، فلن أقيم
سلاماً أبداً مع إسرائيل. هذا طبيعي: فقد أخذنا بلادهم. بالتأكيد كان الله قد
وعدنا بها، ولكن كيف يمكن لذلك أن يقنعهم؟ فإلهنا ليس إلههم. صحيح أننا أتينا من إسرائيل،
ولكن ذلك كان منذ ألفي عام. فلماذا عليهم أن يكترثوا لذلك؟ لقد واجهنا
معاداة السامية،
والنازيين، وهتلر، ومعسكر أوشفيتز، ولكن هل كان ذلك خطأهم؟ إنهم لا يرون إلا شيئاً
واحداً فقط: لقد جئنا إلى هنا وسرقنا بلادهم. لماذا ينبغي عليهم أن يقبلوا ذلك؟".
أما
بالنسبة إلى الادعاء الشائن من قبل بعض علماء الوراثة الغربيين بوجود "جين
يهودي" يربط بعض اليهود المعاصرين بالعبرانيين القدماء، فإنه ليس أكثر من
كونه زعم معاد للسامية (بل يمكننا القول بأنه زعم هتلري)، بل ليس أكثر من كونه أحدث
جزء في سلسلة العلوم العرقية والوراثية العنصرية الأمريكية والأوروبية منذ القرن
التاسع عشر.
لقد
سئم معظم الفلسطينيين من فولكلورية المزاعم الغربية المسيحية واليهودية الدينية
والعلمانية التي تسعى إلى فرض أساطير معادية للسامية على الشعب الفلسطيني لتبرير
استعمار فلسطين، بحجة أن كتبهم المقدسة منحت أتباعها هذا الحق. هنا لا بد أن نتذكر
أن هذه الكتب المقدسة نفسها، ولاحقاً ذات العلوم الوراثية العنصرية، هي ما برر ليس
فقط غزو الأمريكتين والإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق الأمريكيين من الهنود
الأصليين فحسب، ولكن أيضاً هي ما برر غزو أفريقيا واستعباد وقتل ملايين الأفارقة، ناهيك
عن غزو الأجزاء الأخرى من العالم.
لا
ينبغي على مؤيدي النضال الفلسطيني ضد الاستعمار منح أية شرعية لهذه التخيلات الصهيونية،
لأنها تظل حجر الزاوية في المزاعم الاستعمارية الإسرائيلية الهادفة إلى إقناع
المسيحيين واليهود الغربيين، ناهيك عن الليبراليين العلمانيين بشكل عام، بأن إلههم
وعلماءهم العنصريين هم الذين منحوا الصهاينة الحق بغزو وسرقة وطن الفلسطينيين. فلا
مكان لهذا الهراء في صفوف مناهضة الاستعمار، حيث إن مكانها المناسب يجب وينبغي أن
يكون مزبلة التاريخ الاستعماري.