* رجالٌ كثيرون تصلح معهم الألقاب، فسيرتهم يمكن اختصارها في كلمة أو
اثنتين توضع قبل أسمائهم. رجالٌ آخرون يظلمهم اللقب لأنه لا يفي الغنى الذي في
سيرتهم، ولا يكشف وجهاً منهم إلا وقد حجب آخر. يبقى، بعد هؤلاء وهؤلاء، قلة نادرة
تتحول أسماؤهم بذاتها ألقابا لأن سيرتهم كلها تمردٌ على ما يصنع الألقاب وخروج
مستمر عن قواعد اللعبة (اللعبة التي بها تُصَكّ الألقاب ويُصنّف عبرها البشر). كم يبدو
"نقيب سابق" و"
معارض أردني" و"سياسي بارز" تعابيرَ
صغيرةً أمام كلمتيّ "
ليث شبيلات". هذا الرجل الذي كان يطلب من زمانه
ومكانه -بعبارة المتنبي الأثيرة- ما ليس يبلغه الزمان من نفسه ولا المكان، وظل حتى
ساعته الأخيرة متمردا عليهما سويا.
* في مواجهة
الموت ومغالبة صمته، اخترع البشر أشياء كثيرة ليس الرثاء إلا واحداً منها. ورغم أن
المراثي بظاهرها كلامُ الأحياء عن الموتى، فالصادق منها هو كلام الموتى للأحياء؛
الموتى الذين يعودون أحياء في مناقبهم والقيمة التي قَرَنوا عيشهم بها. وربما لا
يكون الرثاء سوى لسانٍ يعيره المرء لأثرٍ طيب لا يحسن البوحَ عن نفسه.
قد يكون الأثر الأبقى للمرء نتاجَ أشياء لم يفعلها، تماماً بقدر الأشياء التي فعلها؛ أن يتنكّب المرءُ عن طريق سهل ومربحٍ أمامه ليسلك آخرَ وَعِراً ومكلفاً، فهذه شامة لفئة خاصة من البشر، تماماً كما أنها شامةٌ لأصدق أشكال الزهد، لأنه زهدٌ نابع عن إرادةٍ حرة، لا عن حاجةٍ واضطرار
* لاعتبارات
عديدة، فإن قلائل امتلكوا الفرصة التي ملكها المهندس الراحل ليدخل ملعب السلطة
الأردنية -لو أراد- ويظفر بامتيازاتها. كان هناك ليثان في المشهد دوما؛ الليث الذي
كانَه ليث شبيلات، والليث الذي كان بوسعه أن يكونه لكنه أشاح عنه وجعل منه شبحاً
صامتا من خلفه ومذكّراً دوماً بضريبة المبدأ في حياة الرجال. وقد يكون الأثر
الأبقى للمرء نتاجَ أشياء لم يفعلها، تماماً بقدر الأشياء التي فعلها؛ أن يتنكّب
المرءُ عن طريق سهل ومربحٍ أمامه ليسلك آخرَ وَعِراً ومكلفاً، فهذه شامة لفئة خاصة
من البشر، تماماً كما أنها شامةٌ لأصدق أشكال الزهد، لأنه زهدٌ نابع عن إرادةٍ حرة،
لا عن حاجةٍ واضطرار.
* كان تديّن
الراحل واحداً من أشياء كثيرة تستحق التأمل فيه. ولا أدري إن كان مصطلح "التديّن
الطبيعي" مصطلحاً قائماً، لكنه تعبيرٌ يلمع بخاطر المرء عندما يحاول أن يَحيك
لفظاً يناسب المقصود؛ ذاك التدين النابع من وجدانٍ فطري، والذي كلما زاد عمقاً،
قلّ تعصباً حتى ينتهي لموضع روحانيّ لا تَعرف العصبيةُ طريقا إليه. لقد كان مثالاً
حياً لفكرة اللِّين للناس والكلمة الطيبة، وكان يحمل معه جمالية إيمانٍ عميقٍ لا
يخيف أحداً، بل يبعث على الإجلال والمودة. وإذا كان لبعض الإسلاميين اليوم أن
يستقوا درساً من الراحل، فهو تحديداً في هذه السمة الرفيعة. لكنْ لعل أموراً كهذه
تأتي هبةً من الله، وليس بوسع مَن حُرِمَها أن يتكلفها ولو أراد.
لم تكن سيرة الراحل بهذا المعنى سيرةً ذاتية وحسب، بل جملةَ عناوين لأفكار كثيرةٍ ومركّبة، لعل واحداً من أهمها هو التوتر الكامن بين حرية النضال الفردي وانضباط العمل المؤسسي. وكثيراً ما عِيبَ على مهندسنا أن ميزانه النضالي كان منحازاً للكفة الفردية
* عندما يَنفُذ
فردٌ إلى مخيلة الناس ويغدو عَلَماً لمكانه ومرحلته، فحدود الشخصي والعام تذوب
ببعضها، وتأخذ السمات الفردية رمزيةً لم يقصدها صاحبها، وتصبح عنواناً لشيء أكبر
وأعم. لم تكن سيرة الراحل بهذا المعنى سيرةً ذاتية وحسب، بل جملةَ عناوين لأفكار
كثيرةٍ ومركّبة، لعل واحداً من أهمها هو التوتر الكامن بين حرية النضال الفردي
وانضباط العمل المؤسسي. وكثيراً ما عِيبَ على مهندسنا أن ميزانه النضالي كان
منحازاً للكفة الفردية، وأنه لم يكن يأنس لسقف المؤسسات طويلا. قد يصدر هذا النقد
عن اعتبارات موضوعية، لكنه كثيراً ما ينبع من تفكير مدرسي يرى أن العملَ المؤسسي
خيرٌ دوما من الفردي، وأن البركة حكرٌ بالضرورة على الجماعة. لكن رجالا كالراحل يُذكّرونا
بأن المفاضلة بين العالَمين ليست واجبةً على الدوام، وأن مَن يُعِيْرون حياتهم
للقيم التي آمنوا بها ويذهبون بها للنهاية القصوى، أن لهؤلاء دوراً في وجدان
مجتمعاتهم يصعب على حزب أو مؤسسة أن تجاريه يوماً.
*
رحيل
شبيلات يحمل رمزية لا تتوقف عند مناضل كبير وحسب، بل تتعلق بحقبةٍ كاملة. لقد بات
عسيراً أن يتكرر أمثال راحلنا في هذا الزمن الرقمي، حيث الاغتيال الشخصي وآليات
التشهير الممنهج للشبكات الاجتماعية تمنع نشوء الرموز، ويضيق فيها هامش المناضل
المضحِّي لمصلحة الناشط والمؤثِّر.