يشتكي
مصريون من انقطاع في
الكهرباء بشكل يومي لنحو ساعتين، وذلك في فصل الشتاء الذي تقل
فيه الأحمال بشكل كبير عن فصل الصيف، وعلى غير ما اعتاده المصريون من انتظام الكهرباء
منذ سنوات، وتصدير الفائض لـخمس دول عربية...
أثار ذلك الأمر التساؤلات حول أسباب تلك الأزمة الجديدة رغم أن الكهرباء من القطاعات التي
جرى ضخ استثمارات كبيرة بها، كان أهمها إنشاء شركة "سيمنز" الألمانية ثلاث محطات توليد عملاقة قبل أربعة أعوام.
"تخفيف
الأحمال"
لكن
يبدو أن تبعات الأزمة المالية في مصر تقترب من قطاع الكهرباء، حيث إن تفاقم أزمة شح
الدولار دفع الحكومة المصرية لتخفيف الأحمال يوميا بجميع المدن والقرى.
ذلك
التخفيف بحسب مصدر مسؤول بالشركة "القابضة لكهرباء مصر"، يأتي توفيرا لاستهلاك
الغاز والمازوت، وغيرها من مواد
طاقة مستخدمة لتوليد الكهرباء، والتي يجري تصدير بعضها
لجلب عملة صعبة، تخفف من أزمة البلاد المالية، وفق صحيفة "مصراوي"،
الجمعة.
المصدر
تابع للصحيفة القول إن هناك خطة تم تطبيقها قبل عشرة أيام، تضمنت تخفيف الأحمال على
مدار اليوم وفقا لخطة موسعة بكل محافظة.
وأوضح
أنه يتم تخفيف الأحمال لتوفير الغاز الطبيعي والمازوت، وتصدير الفائض منها للخارج للحصول
على العملة الصعبة والمساهمة في توفير احتياجات المواطنين من السلع الأساسية.
ولفت
إلى عدم توافر العملة الصعبة لشراء الكميات المطلوبة من المازوت لتشغيل محطات إنتاج
وتوليد الكهرباء، وأكد أن الترشيد يقلل استهلاك الغاز الطبيعي، مشيرا للظروف الاقتصادية
الصعبة والاحتياج للعملة الصعبة.
وأكد
أنه تم خفض نسب استهلاك المازوت من 16 ألف طن مازوت يوميا إلى ٨ آلاف طن، ومعدلات استهلاك
الغاز الطبيعي من ١٢٠ مليون متر مكعب غاز يوميا، إلى ٨٠ مليون متر مكعب غاز.
"الأزمة
متغلغلة"
أحد
مديري شركة توزيع كهرباء القناة، أكد لـ"عربي21"، أن "تخفيف الأحمال
يجري العمل به في الصيف، ولكن تطبيقه في الشتاء قرار اقتصادي وسياسي بالأساس، وذلك
لترشيد نفقات إنتاج الكهرباء، في سياسة متبعة منذ سنوات".
وعن
احتمالات استمرار هذا الإجراء أو وقفه، أكد أن الأمر "يتوقف على من بيده القرار"،
موضحا أن "الشركة تعاني من الأزمات الكثيرة، خاصة مع عدم تطوير شبكات التوزيع
بأنحاء البلاد لصالح المشروعات بالمدن الجديدة".
وأوضح
أن "شكاوى المصانع والمواطنين من ارتفاع أسعار الكهرباء يأتي في الوقت الذي تتراجع
فيه خدمات الشركة التي لم تقم بضخ دماء جديدة في الشبكة من المهندسين أو الفنيين، ويظل
ملف وقف التعيينات بها أمرا مثيرا لغضب كثيرين بالشركة".
وتساءل:
"كيف يحصل أصحاب المصانع والأهالي على خدمة جيدة دون وجود مهندسين وفنيين، وقطع
غيار، واعتمادات لتطوير المحولات أو جلب محولات جديدة"، مبينا أن "تخفيف
الأحمال الآن أمر جيد يقلل من الضغوط على العاملين ويقلل نسب الأعطال".
ويرى
أن "الشبكة لو لم يتم الاهتمام بها سريعا وبكل المحافظات، فإنه من المتوقع حدوث
أزمة كبيرة وانقطاع بالكهرباء كما حدث نهاية عهد حسني مبارك، وإثر ثورة يناير 2011،
وفي عام حكم محمد مرسي".
"سيمنز..
وإنتاج وفير"
وفي
تموز/ يوليو 2018، افتتح رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، ثلاث محطات عملاقة لتوليد
الكهرباء، نفذتها شركة سيمنز الألمانية، بتكلفة 6 مليارات يورو، (سعر اليورو حينها
نحو 20 جنيها)، تعمل بالغاز لتوليد 144,400 ميغاوات سنويا.
المحطات
الثلاث موجودة بالعاصمة الإدارية (شرق القاهرة)، وبمدينة البرلس بمحافظة كفر الشيخ
(دلتا النيل)، وببني سويف (شمال الصعيد)، وهي توفر الطاقة اللازمة لنحو 45 مليون مصري.
وتصدر
مصر الطاقة الكهربائية لـ5 دول عربية تقوم بالربط الكهربائي معها وهي الأردن (400 ميجاوات)،
والأراضي الفلسطينية المحتلة 30 ميجاوات، والسعودية 3000 ميجاوات، والسودان 40
ميجاوات، وليبيا 40 ميجاوات.
وقفزت
صادرات مصر من الكهرباء بشكل لافت، مع توقعات بتصديرها إلى أوروبا، خاصة مع توقيع مذكرات
تفاهم ربط كهربائي مع اليونان وقبرص، بجانب زيادة قدرة
خط الربط الكهربائي مع الأردن، والتصدير المحتمل للعراق ولبنان وسوريا.
ولدى
القاهرة وفرة في إنتاج الطاقة الكهربائية تبلغ نحو 20 ألف ميجاوات، إذ يصل إنتاج الشبكة
القومية للكهرباء إلى حوالي 60 ألف ميجاوات.
ولهذا
فإن السؤال، عن أسباب قرار تخفيف أحمال شبكة الكهرباء المصرية وفي فصل الشتاء، بات
مطروحا بقوة.
"سياسات
حكومية"
وفي
تعليقه، قال الباحث والمتخصص في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية، خالد فؤاد: "لا
يمكن وصف انقطاع الكهرباء المتكرر مؤخرا بقرار حكومي لتخفيف الأحمال بأنه أزمة، لأن لدينا اكتفاء ذاتيا من الغاز الطبيعي، والإنتاج يكفي الاستهلاك المحلي
على المدى المتوسط (من 3 إلى 5 سنوات)".
فؤاد،
أضاف لـ"عربي21": "بالأرقام تنتج مصر تقريبا 7.2 مليار قدم مكعب من
الغاز يوميا، وهو رقم قل بنهاية العام الماضي، ليصل نحو 6.5 مليار قدم مكعب يوميا؛
لكن برغم ذلك مازال هناك اكتفاء ذاتي، ولدى مصر القدرة على ضخ الغاز
بمحطات الكهرباء بشكل طبيعي دون أزمة نقص إمدادات بالوقود".
وأكد
أن "المشكلة هنا في السياسات الحكومية وليست هناك أزمة"، موضحا أن "هدف
السيسي تقليل استهلاك الغاز الطبيعي الذي يجري ضخه بالمحطات، لأن الحرب الروسية الأوكرانية
شباط/ فبراير الماضي، رفعت أسعار الغاز بالأسواق
العالمية وخاصة الأوروبية".
الباحث
المصري، لفت إلى أن "القاهرة استهدفت زيادة صادراتها العام الماضي، واستثمار فكرة
الأسعار العالية لزيادة أرباحها وإدخال عملة صعبة تحتاجها"، مبينا أن "هذه
السياسة استمرت الصيف الماضي باستبدال الغاز الطبيعي
بالمازوت الروسي لتشغيل محطات الكهرباء وتوفير أكبر كميات من الغاز للتصدير".
وقال
إن "الناتج أنه بنهاية العام الماضي حققت مصر حوالي 8.4 مليار دولار، عائدات من
صادرات الغاز"، ملمحا إلى أن "الغاز الطبيعي الذي تصدره مصر من محطات تسييل
(إدكو) و(دمياط) خليط من إنتاج مصر والغاز القادم من إسرائيل
حسب العقد المبرم مع تل أبيب عام 2018".
وذهب
فؤاد، للقول إنه "يحاول أن يقلل استهلاك الغاز والمازوت معا، والمنتجات البترولية
التي تعاني من ارتفاع الأسعار بشكل عام، ويحاول تخفيض فاتورة استيراد لمازوت المستخدم كبديل للغاز بمحطات الكهرباء حتى
يكون هناك قيمة حقيقية من فكرة تخفيض الغاز وتصديره".
ويعتقد
بالطبع أن هناك "انعكاس للسياسات الحكومية بتقليل الاستهلاك المحلي من الغاز وتوفير
هذه الكميات واستغلال الأسعار العالية للتصدير للخارج، على المصريين مع تخفيف الأحمال".
"تكلفة
الفرصة البديلة"
من جانبه
قال السياسي ورئيس حزب الخضر المصري المهندس محمد عوض: "دعنا بداية نقر بالمبدأ
الاقتصادي (تكلفة الفرصة البديلة)؛ وهي ما قد يحدث من خسارة نتيجة استخدام سلعة معينة
بمجال معين، فيما لو استخدمت بمجال آخر لحققت مكسبا أكبر".
وفي
حديثه لـ"عربي21"، أكد "على ضرورة استيعاب إدارة الدولة لدورها الدستوري،
وكونها مسئولة عن بذل جهد وفكر يحقق حقوق المواطن بالوصول للسلع والخدمات بأسعار عادلة
(اجتماعيا واقتصاديا)".
ولفت
إلى أن "قطاع الطاقة المصري سواء الكهرباء أو مشروعات الوقود الأحفوري من غاز
وبترول وفحم، حقق فائضا يعادل ١٠٠ بالمئة عن المطلوب للسوق المصري، وخصوصا إنتاج الكهرباء".
وتابع:
"فوجئنا عام ٢٠١4 بقرار حكومي بتعميم استعمال الفحم بمحطات إنتاج الكهرباء رغم
أنه أسوأ مساهم بالانبعاثات الكربونية، ما دفع محام مصري لإقامة دعوى لإلغاء القرار،
لكنه خسر الدعوى، ما أدى لتحصين القرار الحكومي".
وواصل
شرح الحالة المصرية، مبينا أنه "فوجئ عام ٢٠٢٠، بقرار حكومي جديد بإلغاء القرار
الأول باستعمال الفحم كوقود لمحطات الكهرباء، مضيفا: "علينا أن نتساءل، ماذا كان
وراء القرار الثاني؟ هل ضغوط دولية أم اكتفاء
بما تم من إثراء لبعض الشركات؟ دون أن نغفل ما تم بعد ذلك من بيع شركة (النصر لفحم
الكوك)، بعد 6 عقود عمل في مصر".
وقال
عوض: "من كل ما سبق، يمكن القول إن قرار الحكومة المصرية باستبدال الغاز الطبيعي
لمحطات إنتاج الكهرباء بالمازوت، للاستفادة من فارق سعر بيع الغاز عن شراء المازوت،
قد يبدو ظاهريا قرار اقتصادي يرتكز على مبدأ تكلفة الفرصة البديلة".
واستدرك:
"لكن حتى من هذا المنظور فالقرار غير سديد من عدة أوجه، أولا: أن سعر الغاز المستبدل
يعبر فقط عن السعر التجاري العالمي، ولكنه لا يعبر عما أضاعه على مصر من القيمة المالية
للمقاصة الكربونية (بأن تنشئ دول أوروبية
مشروعات وقود أخضر في مصر)".
ولفت،
ثانيا، إلى أن "سعر الغاز المستبدل، لم يأخذ بالاعتبار التكلفة الإضافية لإنشاء
محطات إنتاج كهرباء تعمل بكل أنواع الوقود"، مبينا أن "تكلفة محطة تعمل بالغاز
فقط، أقل ممن تعمل بوقود مزدوج غاز/مازوت، وأقل ممن تعمل بوقود ثلاثي غاز/مازوت/فحم".
وأوضح
أنه "إذا كان هناك ضرورة لتكلفة محطة كهرباء عالية لاستخدام نظام وقود مزدوج،
فإن ذلك يأتي إعمالا لدور الدولة بتوفير الكهرباء للمواطن، وليس للتصدير، سواء تصدير
الوقود أو الكهرباء".
وقال
إن "نفس الخطأ ارتكبته مصر سابقا بتصدير إنتاج الألومنيوم المصنع بكهرباء مدعومة
في مصانع نجع حمادي، لأوروبا، واستنزفت ثلثي الطاقة المنتجة من السد العالي، وكانت
حكومتها سعيدة بتوقف إنتاج مصانع أوروبا والاكتفاء بالألومنيوم المصري المدعوم كهربائيا".
"ازدواجية
وخداع"
وأشار
رئيس حزب "الخضر"، إلى ازدواجية تسعير الكهرباء في مصر، مبينا أنه
"بينما تزعم الحكومة أنها تدعم الكهرباء للمواطن، استنادا على زعم أن سعر الكيلووات
العالمي أعلى من السعر بمصر، فإن هذا قول يفتقد للموضوعية".
وقال "إنه لا يجب أن يكون هناك سعر البيع العالمي، ولكن تكلفة إنتاج الكيلووات"، متسائلا: "لماذا تكلفة إنتاج الكيلووات بمصر أعلى من المعدل العالمي؟ ولماذا إنتاج كهرباء أكثر من حاجة السوق الوطني؟ ولماذا يتحمل المواطن تكلفة الفائض؟".
وألمح
إلى أن "الحكومة كشفت عن التكلفة الحقيقية، حين عرضت تصدير الكيلووات كهرباء لدول
الجوار والجنوب الأوروبي بثلث ثمن البيع للمواطن المصري، ومع ذلك، لم تنجح بتصدير كل
الفائض".
وعاد
يتساءل: "لماذا إذا انقطاع الكهرباء الآن، ومصر لا تواجه قصورا بإنتاج الطاقة
الكهربائية؟ هل لتوفير الغاز للتصدير وليس لديها منه فائض ولهذا تستخدم المازوت؟ وهل
فشلت باستيراد المازوت مع تقلبات السوق العالمي نتيجة حرب روسيا وأوكرانيا؟".
وتابع:
"أم أن خطة انقطاع الكهرباء تأتي في إطار الأدوات السياسية التي تهدف لفتح باب
المساعدات المالية الدولية لمصر، بمزاعم ما قدمته من تضحيات بيع الغاز لأوروبا، ما
أدى لتعطيل محطات الكهرباء؟ أم أن انقطاع الكهرباء مخطط حكومي لمزيد من رفع أسعار الكهرباء
تحت مزاعم سوء شبكة التوزيع؟".
وختم
تساؤلاته: "أم هو رسالة سياسية للمواطن، ليدرك ويتذكر ما هو مزعوم من إنجازات؟
أم أنه مخطط للقضاء على بعض الصناعات كثيفة الطاقة لصالح صناعات أخرى أو استثمارات
أخرى؟".