قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت، آليت على نفسي أن أكرر في مثل هذا اليوم من كل عام، ذكرى استقلال
السودان، ذات معنى الحديث وإن جاء بلغة مختلفة، إلى أن يتحقق المعنى أو أتوقف عن الكتابة المقرونة بالفعل. بعد
الاستقلال ورث السودان مؤسسة الدولة الاستعمارية التي ظلت كما هي، ولكن أعملنا فيها تجريحا وتشويها، خاصة خلال فترة حكم الإنقاذ.
ومنذ فجر ذلك اليوم، ولأكثر من سبع وستين عاما، وبلادنا تعاني أزمة وطنية عميقة وشاملة تخللت كل أوجه حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية، ولم تحصد البلاد سوى الريح، بالنسبة لأهداف وأسباب استقرارها السياسي ونموها الاقتصادي وتقدمها الاجتماعي. والبادي للعيان ليس هو جوهر هذه الأزمة، وإنما مظاهر تجليها، المتمثلة في الحروب الأهلية والنزاعات المستمرة والمتجددة منذ 1955، الاضطراب السياسي، غياب التنمية وانهيار الخدمات وانعدام المقومات الأساسية والضرورية لحياة المواطن، وتفشي ضنك العيش واستجداء قوت الطعام وانهيارات الطبقة الوسطى لدرجة التسول.
انعدام الأمن والأمان وتحطم الأسر وتفسخ النسيج الاجتماعي والطفولة المشردة والخوف من المستقبل، ونزيف العقول والكفاءات والمهارات وسواعد الشباب، إعاقة نمو واتساع القوى الحديثة التي يفترض أن تبني المستقبل، ترييف المدينة التي خبا بريقها كمركز إشعاع ثقافي وسياسي، إنهاك المجتمع المدني وفقدان الثقة في الأحزاب واللجوء إلى القبيلة والعشيرة؛ بحثا عن الأمن والأمان والحماية، وما يحمل ذلك في طياته من إمكانية تصدع الدولة، شكل جديد من الاستلاب والاغتراب ليس تجاه الدولة أو مؤسساتها فحسب، وإنما تجاه الكيان السوداني ذاته، وهنا تكمن الخطورة.
جوهر الأزمة يكمن في قصور رؤى النخب السودانية، التي ظلت في حالة تصادم منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم
أما جوهر الأزمة/جذور أسبابها فيكمن في قصور رؤى
النخب السودانية، التي ظلت في حالة تصادم منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، وفشلها في إنجاز المهام التأسيسية لبناء دولة ما بعد الاستقلال الوطنية، فظلت هذه المهام مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال، والتي لم تركز إلا على كيفية بقائها واستمرارها في السلطة.
وتلك المهام التأسيسية، التي لا تزال تنتظر الإنجاز حتى اليوم، تتمثل في نوع نظام الحكم والنظام السياسي الملائم لواقع بلادنا وخصائصها، بما يحقق حسن إدارة التنوع ليتوج بالمشاركة العادلة في السلطة بين مختلف الأعراق والإثنيات والمجموعات القومية والجهوية المكونة للكيان السوداني، ويحقق ممارسة سياسية صحية تستند على صيغة سودانية للديمقراطية التعددية، وليس صيغة "وستمنستر"، توائم بين قيم الديمقراطية المطلقة والسمات الخاصة ببلادنا، وتربط الديمقراطية بتوفير لقمة العيش ومياه الشرب وخدمات العلاج والتعليم، إذ بدون ذلك، ستكون الديمقراطية مجرد ثرثرة على ضفاف النيل. وتتمثل في التوزيع العادل للموارد والثروة بين ذات المكونات، بما يحقق رفع معاناة المعيشة عن كاهل المواطن، ورفع الإجحاف والإهمال عن الأطراف، وإعطاء الأسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، في إطار مشروع اقتصادي علمي يراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي (الأطراف)، وعدم استنزاف مراكز ومصادر الخبرة العلمية (المركز)، كما تتمثل في معالجة قضايا الهوية وعلاقة الدين بالدولة.
إن عدم التصدي لهذه المهام التأسيسية، وما يفرخه ويراكمه واقعنا الراهن من تأزم جديد، يدفع بالبلاد إلى السقوط في مستنقع حالة “دولة اللادولة”، ويؤكد مقولتنا بأن السودان منذ فجر استقلاله وحتى اليوم يعيش فترة انتقالية متعثرة الخطى، وأن لا مخرج سوى إعادة صياغة الدولة السودانية عبر التصدي الجاد لهذه المهام التأسيسية، الذي لن يتأتى إلا عبر التوافق على مشروع وطني مجمع عليه، يجيب على أسئلة التأسيس لبناء الدولة الوطنية في السودان.
لا علاج لأزمات السودان المزمنة إلا بالتوافق حول هذا المشروع الوطني، الذي لا يزال غائبا حتى اليوم. وفي الحقيقة، فإن المشروع الوطني في جوهره يعني أن يتوافق السودانيون، بمختلف إنتماءاتهم الفكرية والثقافية والإثنية والسياسية، ووفق مبدأ المساومة التاريخية، أن يتوافقوا جميعا على إجابات لأسئلة المهام التأسيسية لدولة سودان ما بعد الاستقلال الوطنية. فإثنيات وثقافات السودان يحتاج بعضها إلى بعض، في إطار تكامل الوحدة والتنوع وعلى أرضية
الصراع في إطار التحالف، وتحت مظلة مفهوم إدارة الصراع الاجتماعي حول قضايا الوطن كافة، بصورة سلمية وديمقراطية، والمشروع الوطني لا ينجزه حزب واحد أو طبقة واحدة، أو تحالف أحزاب، ولا يبنى وفق أيديولوجية بعينها.
بل يتطلب مساهمة الجميع وعدم إقصاء الآخر. وجوهره التقاء حراك المركز مع حراك الأطراف، والتقاء وتحالف المجتمع المدني مع المجتمع الأهلي، والتكامل بين المجتمع المدني والحركة السياسية. وتقوم أركان المشروع الوطني على تسييد قيم الحرية، والإصلاح السياسي، والتنمية المستدامة، والعلم والمعرفة، والاستنارة والإصلاح الديني، وحب العمل.
وحتى الآن، فإن الماعون المقترح لإنجاز وتحقيق عملية التوافق هذه، هو المؤتمر القومي الدستوري.
إن نقطة البداية في صياغة المشروع الوطني، تبدأ بالوعي بضرورة الانطلاق من حقيقة أن السودان وطن متعدد بالمعنى الواسع للكلمة، متعدد في مستويات التطور الاجتماعي، ومتعدد الأعراق والعناصر والقوميات والتكوينات القومية، متعدد الديانات والحضارات والتقاليد واللغات، ثم التقدم لصياغة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تترتب على ذلك، منطلقين من أن تطور الثورة الاجتماعية في السودان مرتبط بترسيخ مضامين الديمقراطية السياسية التعددية، وسيادة مفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي، وأن هذا التطور لا يرتبط بحزب واحد ولا بطبقة واحدة، بل يرتبط بالمشاركة الواسعة، بتداول السلطة، بعدم إلغاء الآخر أو إقصائه. نحن نحتاج إلى إعمال الفكر النقدي في طرائق تفكيرنا ومناهج عملنا ومفاهيم الأمس.
ونحتاج إلى القناعة بأن المعالجة الخاطئة من هذا الحزب أو ذاك لأي من القضايا المطروحة، لا تعني تخوينه أو الحكم بعدم وطنيته، والقناعة بأن صراع المجايلة صحي، ولكن سوء إدارته تسبب الانتكاسات. وأخيرا، نحتاج إلى الانخراط في برامج عملية لإنجاز ما ظللنا ننتظر إنجازه منذ فجر الاستقلال.