ربما
لم يجْرِ نقاش في منطقتنا مثل النقاش حول قضية
المساواة بين الجنسين، وربما فاق
نقاش الحريات السياسية المكبوتة. وقد جرت عادة الغفلة على دفع الإشكالات الفرعية
للتصدُّر بدلا من الإشكال الأصليِّ، ويُعلِّل البعض هذا بأن حل الجزئيات سبيل لحل
الكُلِّيَّات، وهذا صحيح إذا صَدَق العزم على حل الخلاف، واتضحت غاية المتناقشِين،
لكن نقاشاتنا تدور غالبا حول تعظيم الخلافات، لذا سيظل لزاما أن يكون هناك طرح
دائم يتغيَّا تقريب المسافات، وتقليل فجوات الخلاف، وتأكيد وجود خلافات بين البشر
ينبغي أن يقبلوها فيما بينهم.
تُطرح
مسألة المساواة في عدة نطاقات، منها النطاق السياسي كالحق في الترشح والتصويت في
كل المستويات الإدارية، ومنها النطاق الاجتماعي المتعلق بالأوضاع المالية
والمعيشية للمرأة في الأسرة، وهذا النطاق هو محل الخلاف الأكبر، ويُعدُّ فَهْم
المنظور الذي ينطلق منه المتكلم أساسا لإدراك المراد، إذ "المعاني قوالب
للألفاظ بالنَّظر للمتكلِّم، وأما بالنظر للسامع فينعكس الأمر فتكون الألفاظ قوالب
للمعاني" كما ذكر الإمام إبراهيم البيجوري شيخ الأزهر في القرن الهجري الثالث
عشر.
تُطرح مسألة المساواة في عدة نطاقات، منها النطاق السياسي كالحق في الترشح والتصويت في كل المستويات الإدارية، ومنها النطاق الاجتماعي المتعلق بالأوضاع المالية والمعيشية للمرأة في الأسرة، وهذا النطاق هو محل الخلاف الأكبر، ويُعدُّ فَهْم المنظور الذي ينطلق منه المتكلم أساسا لإدراك المراد
يقوم الاعتبار الديني في مسألة الجنسين على مفهوم
"
العدل" لا المساواة، وقد جاء في صحاح الجوهري: "سَوا-
السَّواء أي: العدل". وفي المنظور
الغربي سنعتمد في النقاش على ما طرحه "أندرو هيود" في كتابه
الهام "النظرية السياسية". وهيود أحد علماء السياسة الذين تزخر الجامعات
العلمية بتدريس مؤلفاته، وهو يقول إن المساواة تعني "جعل ظروف الوجود
الاجتماعي، التي سيتمكن الناس من خلالها أن يتمتعوا بحياة مُرضية، متساوية، وهي
الظروف التي يُعتقد أنها حاسمة لسعادة ورفاهة البشر".
يضيف
"هيود" يشير الاستخدام القديم لكلمة "متساوي" إلى
تماثل المميزات المادية، وهو المعنى الذي لا يزال متبنىً إلى الآن بشكل واسع،
ويُمكن وفقا لذلك أن يُقال عن كوبين ممتلئين بالماء أنهما يحتويان على كميات
متساوية من الماء، فهذا التماثل أو التطابق أو التشابه التام واقع في الأمور
المادية الملحوظة، غير أن هناك تمييزا واضحا في النظرية السياسية بين المساواة وأفكار
"التماثل، والتطابق، والتشابه التام".
يضع
"هيود" بعد ذلك ثلاث نظرات لكلمة المساواة، فتحدث عن المساواة
التأسيسية، وتساوي الفرص، وتساوي النتيجة، وأغلب ما سيأتي بخصوص هذه الصور مقتبس
من كتابه بتصرف.
تُعد
كلمة "المساواة التأسيسية" أقدم مفهوم للمساواة كان له أثر على الفكر
السياسي، حيث يفترض أن كل الناس متساوون بمقتضى الجوهر البشري المشترك، وفي التراث
الديني الإسلامي يبرز قول النبي صلى الله عليه وسلك "الناس سواسية كأسنان
المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى".
كلمة "المساواة التأسيسية" أقدم مفهوم للمساواة كان له أثر على الفكر السياسي، حيث يفترض أن كل الناس متساوون بمقتضى الجوهر البشري المشترك
وفي
العلوم السياسية نشأ المفهوم من نظريات الحقوق الطبيعية التي هيمنت على الفكر
السياسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، من خلال إعلان الاستقلال الأمريكي،
والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، ولكن في هذه الفترة لم تكن المساواة
تعني "تساوي الفرص"، فكان المقصود أن البشر وُلدوا أو خُلقوا متساويين
أمام الله، ولم يكن هناك ذلك التساوي في الحياة العملية، فمثلا كان هناك تمييز
تصويتي بين الرجال والنساء، كذلك كان حق الاقتراع مقصورا على أصحاب المِلْكيات.
انتقل
"هيود" إلى منظور "التساوي في الفرص"، أي إزالة العراقيل التي
تقف في طريق التطور الشخصي للتحقق الذاتي، وهو حق يجب أن يتمتع به جميع المواطنين،
وهو ما يمكن التعبير عنه بإتاحة الفرصة للجميع عند خط البداية.
ظهرت فكرة "التساوي في النتيجة"، وإذا كان التساوي في الفرص يتطلب اتخاذ خطوات مهمة نحو تحقيق مساواة اجتماعية واقتصادية أكبر، فإن التساوي في النتائج يتطلب تغيرات أكثر حسما
كذلك
ظهرت فكرة "التساوي في النتيجة"، وإذا كان التساوي في الفرص يتطلب اتخاذ
خطوات مهمة نحو تحقيق مساواة اجتماعية واقتصادية أكبر، فإن التساوي في النتائج
يتطلب تغيرات أكثر حسما، كالتساوي في الدخل مثلا، لنصل إلى الاهتمام بخط النهاية
بدلا من خط البداية.
ما
طرحه "هيود" يُشعِر بتداخل مفهومي المساواة والعدل، لكن تجري التفرقة
بينهما من جهة أن العدل يعني إتاحة الفرص للجميع على حد سواء، فهو بمثابة المقدمة
التي تهيئ لحصول المساواة، والمساواة تأتي كنتيجة لهذه المقدمة. كما أن المساواة
قد تكون مخلة بالعدالة، فمثلا إذا تمت مساواة المجتهد في العمل بالمقصّر، فهذا
إخلال بالعدالة، بينما لا يمكن للعدالة أن تكون مخلة بالمساواة.
لهذا،
والكلام هنا لهيود، أثارت قضية المساواة جدلا قويا بشكل خاص، عندما طُبِّقت على
توزيع الثروة أو الدخل في
المجتمع، وهو ما يُشار إليه عادة بـ"العدالة
الاجتماعية"، كيف يجب تقسيم موارد المجتمع؟ فبينما يصر البعض على أن المطلوب
هو توزيع متساوٍ، أو على الأقل مساواة أكثر للمكافآت والمكاسب، فإن آخرين يؤكدون أن
العدالة تتطلب أن تنعكس الاختلافات الطبيعية بين البشر في طريقة تعامل المجتمع مع
تلك الاختلافات والفروق.
مفهوم المساواة شديد التعقيد؛ فهناك عدد كبير من أشكال المساواة بقدر ما توجد طرق لمقارنة ظروف الوجود البشري، فهناك مساواة قانونية، واجتماعية، وسياسية، وجنسية، وعرقية.. إلخ. ومن هنا، كما يذكر "هيود"، تعرّض مبدأ تساوي الفرص إلى نقد بسبب وصوله في نقطة ما إلى نقطة "التمييز الإيجابي"
من
هنا اتجه المفكرون الجادون إلى التأكيد على قبول فكرة تفرد كل فرد من البشر، وأن
الناس يولدون بمواهب ومهارات وصفات مميزة مختلفة، وهم مع إقرارهم بهذا فإنهم
يهدفون إلى ترسيخ الظروف القانونية أو السياسية أو الاجتماعية التي سيتمكن الناس
من خلالها أن يتمتعوا بشكل متساوٍ بحياة مُرضية تستحق العناء المبذول في سبيلها. إن
المساواة لا تعني غطاء من التماثل، لكنها بالأحرى تعني جعل ظروف الوجود الاجتماعي
متساوية، كما يقول "هيود".
كذلك
نجد أن مفهوم المساواة شديد التعقيد؛ فهناك عدد كبير من أشكال المساواة بقدر ما
توجد طرق لمقارنة ظروف الوجود البشري، فهناك مساواة قانونية، واجتماعية، وسياسية،
وجنسية، وعرقية.. إلخ. ومن هنا، كما يذكر "هيود"، تعرّض مبدأ تساوي
الفرص إلى نقد بسبب وصوله في نقطة ما إلى نقطة "التمييز الإيجابي"، أي
إجراء تمييز لصالح مجموعة من المجموعات المحرومة لتعويض حالات ظلم سابق، وهي سياسة
يمكن تبريرها من منظور تساوي الفرص في قضايا تتعلق بهضم حقوق أقلية عرقية مثلا،
لكن البعض يرى أن التمييز الإيجابي ينتهك مبدأ الحقوق المتساوية، فقد يؤدي هذا
التمييز إلى منح مكان لشخص أقل كفاءة من غيره بسبب هذا التمييز، ويتعرض الشخص الذي
لم يأخذ مكانته رغم كفاءته إلى ظلم.
أما
فكرة تساوي النتيجة فهي تعد الوجه الأكثر راديكالية خاصة عند تعلقها بالدخل؛ ففكرة
تساوي النتيجة تُنتج الركود في الواقع، إذ تؤدي عملية تسطيح المستويات الاجتماعية
إلى وضع سقف للتطلعات، وتزيل الحافز للمشروع الحر، والعمل الشاق.
عدم العدل لا ينشأ عندما يُعامَل الأنداد بشكل غير متساوٍ، لكنه ينشأ أيضا عندما يُعامَل غير المتساوين بشكل متساوٍ. فالعدَّاؤون مثلا لا يمكنهم أن يركضوا بسرعة متساوية، والتساوي في النتيجة يعني عرقلة العدَّائين الأكثر سرعة، وهذا ينتهك فكرة السباق العادل
يضيف
"هيود": يرى فريدريك هايك وكيث جوزيف أن المبدأ الاشتراكي للمساواة
يرتكز على حسد اجتماعي، والرغبة في امتلاك ما يمتلكه الثري بالفعل, ووفقا لأرسطو
فإن عدم العدل لا ينشأ عندما يُعامَل الأنداد بشكل غير متساوٍ، لكنه ينشأ أيضا
عندما يُعامَل غير المتساوين بشكل متساوٍ. فالعدَّاؤون مثلا لا يمكنهم أن يركضوا
بسرعة متساوية، والتساوي في النتيجة يعني عرقلة العدَّائين الأكثر سرعة، وهذا
ينتهك فكرة السباق العادل.
هذا
السياق الذي شرحه "هيود" يركِّز في المقام الأساسي على المساواة
السياسية لا الاجتماعية، والحاصل أن عموم المنشغلين بالسياسة من الملتزمين بالنصوص
التشريعية، يقفون نفس الموقف تقريبا من هذه المفاهيم، لكن في الجوانب السياسية
والاجتماعية أيضا. فهناك تساوٍ عام بين الجنسين، إلا ما فرَّقه النص الإلهي، وهذه
التفرقة جاءت على وجه لا يمكن ردُّها، وهي في الاعتبار الديني ناشئة من العدالة في
توزيع المهام؛ فالإرث يُضاعف لدى الإخوة الذكور لمسؤولية الإنفاق على أخواتهم
الإناث، وإجرام شخص بعدم تأدية ذلك الحق أو سرقته من شقيقته، فهذا إثم يتحمَّله
المجرمُ لا المشرِّع، وكل انعدام تسوية بين الجنسين ناشئ من وجود التزام على الطرف
الذي جرى التمييز لصالحه.