ليس غريباً على هذا النوع من الاحتلال، الذي ابتليت به
فلسطين أن يصبح ارتكاب الجريمة، أمراً معتاداً في الحياة اليومية للإسرائيليين كنظامٍ سياسي، ومجتمع استيطاني، لا تكاد تقع جريمة حتى تقع أخرى. آخرها، قتل الشهيد القائد ناصر أبو حميد، بسبب إهمالٍ طبّي متعمّد وبعد أكثر من عامٍ على وقوعه فريسة لمرض عُضال.
ثمانية وسبعون شهيداً من الحركة الأسيرة، سبقوا أبو حميد بسبب الإهمال الطبّي المتعمّد منذ العام 1967، وقائمة شهداء الحركة الأسيرة تصل إلى مئتين وثلاثة وثلاثين.
كانت قوات الاحتلال قد منعت زيارة الشهيد من قبل ذويه ومحاميه، إلّا وهو على مشارف الوفاة.
هي جريمة مكتملة الأركان، تتابع سجّلاً طافحاً بالجرائم التي يرتكبها الاحتلال، من دون تمييز بين شابٍ ومسن وطفلٍ وامرأة، وفي ظلّ غياب المساءلة، والمحاسبة من قبل المجتمع الدولي، ومنظومة العدالة الدولية.
قبل استشهاد ناصر، كانت السلطات الإسرائيلية قد ارتكبت جريمة أخرى حين قامت بسحب بطاقة الهوية المقدسية من الحقوقي الفلسطيني صلاح الحموري وأبعدته إلى فرنسا، وقبلها بأيّامٍ قليلة جريمة أخرى، ارتكبها أحد المستوطنين حين قام بدهس متعمّد للشقيقين محمد ومهند مطير.
رهيبة محصّلة الإجرام الصهيوني لهذا العام 2022، حيث جرى اعتقال نحو ستّة آلاف مواطن فلسطيني واغتيال أكثر من مئة وخمسين والحبل على الجرّار، والقادم أسوأ بكثير.
تتراكم الجرائم بما في ذلك جرائم حرب، وجرائم بحق القانون الدولي والقانون الإنساني، ولا تزال الجنائية الدولية لم تحرّك ساكناً رغم امتلاء الأرفُف بالملفّات التي تطالبها بالتحرّك، بما في ذلك تقارير دولية، وتحقيقات أجرتها مؤسسات حقوقية تابعة للأمم المتحدة.
وبالرغم من فضيحة التواطؤ الدولي مع إسرائيل، وانهيار المنظومة الأخلاقية التي تدّعي الحرص على حقوق الإنسان، إلّا أن السفير الأميركي في مجلس الأمن، يدعو لاتخاذ إجراءات صارمة بحق الفلسطينيين والإسرائيليين.
لا يجد السفير الأميركي مَهْرَباً من مطالبة المجتمع الدولي بإدانة إسرائيل على ما ترتكبه من جرائم، إلّا بأن يضع الجلّاد والضحيّة في نفس المكانة.
حين تمّ تكليف ريتشارد غولدستون بإجراء تحقيق بشأن الاشتباه بارتكاب جرائم حرب من قبل إسرائيل خلال عدوان 2014 على قطاع غزة، كان هناك من يدّعي بأن ذلك التحقيق سيفٌ ذو حدّين، وأنه قد يطال فلسطينيين، أيضاً، بالإضافة إلى إسرائيليين.
الفلسطينيون موافقون على أن تجري منصّات العدالة الدولية تحقيقات واسعة ومعمّقة حول شُبهات ارتكاب جرائم حرب، وهم لم يمتنعوا ولا مرّة واحدة عن التعاون مع اللجان الدولية، لكن إسرائيل لم توافق ومن غير المحتمل أن توافق على استقبال أي لجنة تحقيق، أو السماح لها بالقيام بعملها.
إذا كانت إسرائيل ترفض القرار الأميركي بالتحقيق في جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي تحمل الجنسية الأميركية، فهل يُعقل أن توافق على أي تحقيقات من قبل أي أفرادٍ أو جماعات أو مؤسسات دولية؟
غرائب هذا الزمان كثيرة، والفضائح أكثر من أن يجري تبريرها، أو التستُّر عليها، وكلها تؤكد مدى الظلم الذي يقع على أصحاب الحقوق، والشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها من قبل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، والآيل للسقوط.
الملف الأوكراني شاهد واضح على انهيار المنظومة الأخلاقية للدول الاستعمارية. المليارات تتدفّق هناك من دون حساب، ومخازن السلاح مفتوحة على مصاريعها، وما على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلّا أن يتمنّى ويطلب.
أوروبا وحدها قررت تقديم ثمانية عشر مليار يورو، بالإضافة إلى تسعة عشر مليارا سبق أن قدمتها لأوكرانيا.
هذا عدا عشرات مليارات الدولارات التي قدمتها وتقدمها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الأسلحة والذخائر الفتّاكة، وكل ذلك تحت عنوان حماية القانون الدولي ورفض انتهاك سيادة الدول.
الأوكرانيون، يعبرون كل الحدود بوثائق ومن دونها، ويحصلون على كل أنواع وأشكال الدعم، والترحيب، بينما يقضي الفلسطينيون الذين يركضون خلف لقمة العيش، غرقاً في البحار، أو جرّاء طمع المهرّبين، ولا أحد في الغرب، يصدر حتى أسفاً أو نعياً.
الجنائية الدولية، تقف على أُهبة الاستعداد، وتحت الطلب لتشكيل محاكم لمن ترى وتدّعي أنهم يرتكبون جرائم حربٍ من الروس ولكن الأوكرانيين مجرّد ضحايا، ولا صلة لهم بارتكاب جرائم حرب.
من الواضح أن العالم ينقسم، وفق منظومات مزعومة، وأخلاقيات متناقضة، تخدم أصحاب المصالح، والقابضين على نواحي القوة الغاشمة.
لست أدري بأيّ حقٍّ يُدِين الغربيون إيران ويُخضعونها لنظام عقوبات متلاحقة، بزعم تزويدها روسيا بطائرات من دون طيّار، وأسلحة وذخائر، فهل هذا حقّ للدول الغربية، وجريمة لغيرها.
لا تفيد الشكوى، وليس سوى القوة والانحياز للمصالح الوطنية سبيلا لانتزاع الحقوق. بيني غانتس وزير الجيش في الحكومة المنتهية صلاحيتها، يمارس عملية ابتزاز علنية ومكشوفة، وكأنه يقدم آخر نصائحه، لحكومة «اليمين العنصري الفاشي» التي تستعد لتسلُّم مهامها.
تمنع إسرائيل تسليم جثمان الشهيد ناصر أبو حميد لذويه، وتحتفظ بأكثر من مئة جثمان لفلسطينيين، بهدف استخدامهم في المقايضة التي تتعلق بملف تبادل الأسرى.
في ضوء هذه الأوضاع الدولية المتغيّرة، وفشل المراهنة على النظام الدولي القائم، بكلّ مخلّفاته وعناوينه، وأدواته، لا بدّ من العودة للأصول.
الأصول تقول: إن المراهنة الأساسية، تقع على عاتق الشعب الفلسطيني وقياداته وفصائله، التي ينبغي أن تتوقف عن الشكوى ومطالبة الآخرين، قبل أن تقوم بما ينبغي عليها أن تقوم به، لإعادة استجماع أوراق قوتها، وهي كثيرة، ومتاحة، ولا تحتاج سوى لتوفّر الإرادة.
(
الأيام الفلسطينية)