استبق النظام
المصري الثلاثاء؛ الذكرى الثلاثين لوفاة صاحب "قنديل أم
هاشم" الأديب الراحل يحيي حقي (17 كانون الثاني/ يناير 1905م- 9 كانون الأول/
ديسمبر 1992م) بقرار أعلنته ابنته الإذاعية نهى؛ فبعد شد وجذب منذ نحو عشرة أيام
فحسب انتصر أعوان القبح والإفساد للأسف، وسيتم نقل مقبرة الراحل وأهله من موسى حقي،
عميد معهد السينما الأسبق، والكاتبين الصحفيين ومحمد وإبراهيم حقي، وغيرهم إلى
مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية، وذلك تحت دعاوى تطوير منطقة مسجد السيدة
نفيسة التي دفن الراحل ضمنها وضمن ألفي جبّانة تم نقل بعضها بالفعل ومساواة البعض
الآخر بالتراب، ولكن هل القرار باتّ ونهائي؟!
ترى ما قيمة الإنسان بوطن يضيق به حي وقد يرديه قتيلا برصاصة مستوردة بقروش
زهيدة، فضلا عن سجنه ومطاردته لمجرد خلاف في الرأي؟ أو ربما لمحبته رؤية وطنه أكثر
ازدهارا ونبلا وتقدما وسلاما؟ فيجازى على تفانيه وإخلاصه بالاستهداف المباشر؟ وماذا
عن رفات رموز أدبية وفكرية واجتماعية تاريخية ومعاصرة؟ ما ذنب أولاء في وطن يضيق
بأبنائه اليوم، بالإضافة للسابقين الذين لم يكونوا فيه في عهد جنرال يحكمه بالحديد
والنار؟ بل جاؤوا أبواب الوطن وشربوا من نيله وأزهر إبداعهم به منذ سنوات أو حتى
قرون؟ وهل صارت بلادي العزيزة الأبية الكريمة تستهتر في عهد النظام الحالي بالجميع
وترديهم على مرمى من العالم المستبد الظالمة أنظمته دون تدخل من أحد؟
ما قيمة الإنسان بوطن يضيق به حي وقد يرديه قتيلا برصاصة مستوردة بقروش زهيدة، فضلا عن سجنه ومطاردته لمجرد خلاف في الرأي؟ أو ربما لمحبته رؤية وطنه أكثر ازدهارا ونبلا وتقدما وسلاما؟ فيجازى على تفانيه وإخلاصه بالاستهداف المباشر؟ وماذا عن رفات رموز أدبية وفكرية واجتماعية تاريخية ومعاصرة؟ ما ذنب أولاء في وطن يضيق بأبنائه
بدأ الحدث المأساوي بإنذار أول في 29 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي
لأسرته بسرعة نقل رفاته ورفات أهله من المقبرة التي تمتلكها العائلة منذ نحو قرن؛
إلى أخرى في طريق القاهرة/ الشرقية. وفي تطور سريع للأزمة تم وضع علامة يدوية على
سور المقبرة تفيد بإزالتها، كتلك التي تم وضعها على مقبرة الراحل طه حسين خلال الأزمة
المشابهة التي أثيرت منذ أيار/ مايو حتى أيلول/ سبتمبر من هذا العام، أسرعت
الإذاعية نهى حقي محاوِلةً التواصل مع الجهات التنفيذية المختصة لإلغاء القرار،
لكنها لم تتلق ردا وعانت من التجاهل التام، لذا ناشدت عبد الفتاح السيسي التدخل لأنه
لن يرضيه ما يحدث لرفات أبيها (على حد قولها).
تم وضع العامة المتفق عليها في عمليات
الإزالة، وبعدها بيومين اثنين تم
إنذار التربي الحارس للمقبرة بأنه إما أن يتم النقل أو تتواجد آلات الهدم في
المقبرة بمدة أقصاها الخامس من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، لتنفيذ قرار الهدم
وتجريف المقبرة وتسويتها بالأرض بمن فيها، وهم في النهاية مصريون
مثلهم مثل ألفي قبر بنفس النطاق جرفت الآلات العملاقة عددا منها بالفعل، أو بحسب
قول ابنة حقي إن قبر والدها في الرمق الأخير بعد أن تمت إزالة عدد من القبور
بجانبه.
أما آلية التجريف للمقابر فواضحة في الكنانة، فيتم إخبار التربي ليخبر
أهالي المتوفين، فإن لم يكن للمتوفى أهل يُستدل عليهم يتم التخلص من القبر، وبهذه
الأفعال الموكل بها موظفون مدنيون في الأغلب، تم التخلص من
مقابر لا عدد لها، من
مثل هدم
وردم وتجريف حوش الصوفية في مقابر "باب النصر" في 2017م، والذي كان يحتوي
جثامين عدد كبير من المتصوفة والزهاد، إلى جوار 14 عالما من أعلام الصوفية والفقه
والحديث والتفسير والتاريخ والاجتماع، تركوا بصماتهم على مر التاريخ المصري،
أشهرهم على الإطلاق تقي الدين المقريزي وعبد الرحمن بن خلدون رائد علم الاجتماع.
لم يرد أحد من
المسئولين على نهى حقي رغم تصريح السيسي في أيلول/ سبتمبر الماضي بـ"أنه لا يمكن أبدا المساس بأي مناطق فيها مقابر
لشخصيات نقدرها ونحترمها أو مناطق أثرية". وجاء تصريحه بعد اعتراض واسع
لمثقفين على قرار مشابه تردد بقوة صدوره في أيار/ مايو، بنقل رفات الأديب المصري
الراحل طه حسين في منطقة التونسي بالقرب من منطقة السيدة نفيسة أيضا.
لكن مسئولا بحي الخليفة في العاصمة (التابعة له المقبرة) صرح في نفس يوم
الثلاثاء الأخير من الشهر الماضي لصحيفة محلية بأن هناك قرار إزالة فعليا لنحو
2000 جبانة (مدفن) في المنطقة ضمن أعمال التوسعة التي تشهدها القاهرة التاريخية،
وأنه تم إخطار الأهالي لنقل الرفات بمعرفتهم قبل عملية الإزالة على أن يتم تعويضهم
بمقابر بديلة.
أطلقت نهى حقي استغاثة عبر هاشتاغ "أنقذوا مقبرة يحيى حقي" على مواقع
التواصل ودعت لمساندتها، مضيفة: "30 عاما خُلّد فيها رائد القصة
القصيرة في مقبرته بالسيدة نفيسة، كصاحب المسيرة الأدبية الحافلة. وبدلا من إحياء
ذكراه الثلاثين بالورود، تبدّل الوضع برسم علامة حمراء على المقبرة تمهيدا لهدمها"،
وتفاعل كُتَّاب وصحفيون ومبدعون مع الاستغاثة.
وأسهبت في أسلوب
يهز كيان كل إنسان، أن لديها أملا بإنقاذ المقبرة بدعم من الناس الذين ضموا صوتهم
لها، حتى لا يتم إبعاد رفات والدها عن البقعة من الأرض التي أحبها وارتضاها مثوى
أخيرا له، وأشارت إلى أن والدها كان من عشاق آل البيت وكتب أكثر من قصة ورواية
عنهم، وأوصى بدفنه بجوار السيدة نفيسة.
وتعجبت من إصدار
قرار نقل المقبرة في نفس الشهر بدلا من تكريمه والاحتفاء به كواحد من رموز مصر يجب
احترام مقبرته، ومن ثم عدم نقله من جوار مَنْ كتب عنهم كتاب "من فيض
الكريم" ومجموعة "أم العواجيز" القصصية بالإضافة لروايته الشهيرة
"قنديل أم هاشم"، فقد كشف عن محبته لهم في حياته فكيف يتم حرمانه منهم
من مجاورتهم بعد وفاته؟
كما بيّنت بحسرة عبر حسابها في الفيسبوك: "أبي في ذمة الله لا يملك الاستغاثة. الوجيعة
كبيرة والشكوى لم تعد لها قيمة"، واعدة بالصمت حتى إيجاد المسئولين حلا.
تدخل في الأزمة
الأكاديمي ومدير مكتبة الإسكندرية السابق، مصطفى الفقي، الثلاثاء الأخير من الشهر الماضي
-أيضا- مرتئيا حلا؛ فقال لإحدى الفضائيات الخاصة: "الرئيس السيسي يحب الحلول
الشاملة، وأقترح إقامة المقبرة (الخاصة بالخالدين) من أجل نقلهم إلى مكان أكثر
احتراما وتقديرا"، مشيرا إلى أن دولا أخرى "تلجأ لنقل رفات بعض
الأدباء
والمفكرين؛ عند شق الطرق والرغبة في تغيير جغرافيا المكان".
ومن المعروف أن
فرنسا عمدت لجمع رفات عدد كبير من رموزها بمقبرة العظماء بباريس ومنهم فولتير وجون
جاك روسو والعشرات غيرهم، وقد تم هذا منذ القرن الثامن عشر.
أين وعد الجنرال بعدم إزالة قبور أمثال حقي، كما فعل في أزمة قبر طه حسين؟ أم أن الجنرال زاد إبداعا عن المخلوع حسني مبارك وعن نفسه باختلاق أزمات تخص الأموات بعد الأحياء، وكأن التطوير لا يمكن أن يمر إلا من مقابر المتوفين؟ وحتى إن كان ذلك ضروريا فهل يجب أن تتم إزالتها خلال أيام وإن حملت ذكرى خاصة
ينتمي يحيي حقي
لجذور تركية المنشأ وكانت زوجته الثانية فرنسية، إلا أنه أوصى بعدم دفنه إلا في
القاهرة بجوار عائلته. ويعتبر حقي أحد رواد القصة القصيرة، ولد بالقاهرة في 17 من كانون
الثاني/ يناير 1905م، ودرس الحقوق وعمل بالسلك الدبلوماسي، وانتقل لعالم الفن
والثقافة. ويعد علامة بارزة في السينما عبر قصصه التي تحولت لأفلام
كـ"البوسطجي"، و"قنديل أم هاشم"، و"رجل وامرأة"، ويعد
كتاباه "كناسة الدكان" و"عطر الأحباب" من أشهر المؤلفات في
السيرة الذاتية والنقد.
وبلغ من مكانة
حقي الأدبية أن صرح الراحل نجيب محفوظ عقب فوزه بنوبل في الآداب عام 1988م أنه كان
يتوقع فوز "أستاذه" يحيي حقي بها بدلا منه، مما أثار حفيظة الأديب
الراحل يوسف إدريس وقتها فأشعل معركة ثقافية وقتها اعتراضا على استبعاده من ترشيح
محفوظ.
فأين وعد الجنرال
بعدم إزالة قبور أمثال حقي، كما فعل في أزمة قبر طه حسين؟ أم أن الجنرال زاد إبداعا
عن المخلوع حسني مبارك وعن نفسه باختلاق أزمات تخص الأموات بعد الأحياء، وكأن
التطوير لا يمكن أن يمر إلا من مقابر المتوفين؟ وحتى إن كان ذلك ضروريا فهل يجب أن
تتم إزالتها خلال أيام وإن حملت ذكرى خاصة، دون مراعاة لكرامة أو مشاعر أو حرمة
للموتى أو رمزيتهم، وفي تحد وإعلان واضح بالسيطرة للغلبة والقوة، وعدم مراعاة
لحرمة ميت؟