بدأت نظريات الحكم الحديثة في القرن السابع عشر مركِزة
على تغير شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وابتدأ التوجه نحو إعطاء مساحات أكبر
للمحكومين على حساب سلطة الحكم، وتطورت هذه المفاهيم لتصبح شرعية الحاكم مرهونة
بالرضا الشعبي، وبقدر ما يكون الحاكم يسمح بمشاركة المحكومين في القرارات
التنفيذية، يزداد هذا الرضا، ثم تطورت أشكال الحكم إلى صورة تنظيم دولي يسعى، ولو
ظاهريا، إلى تعزيز تلك القيم ونشرها، فكانت الأمم المتحدة عام 1945، التي استطاعت
الاستمرار بخلاف عصبة الأمم، فأين نحن بعد 77 عاما من نشأة التنظيم الدولي؟
خلال رحلة العلاج التي بدأت مع ابنتي انتبهت إلى اهتراء
المنظومة الصحية في البلد الذي أعيش فيه، ورغم السخط الذي شعرتُ به تجاه الوضع
الصحي، تفاجأتُ بكارثة صحية أخرى، وهي محدودية البلاد التي تقوم بإجراء الجراحة
التي تحتاج ابنتي إليها (زراعة القلب)، ومع النقاشات العديدة من الكثير من
الأطباء، تبيّن أنها عملية ليست بالصعوبة التي تبدو من اسمها، ويمكن إجراؤها في
عشرات البلدان، بدلا من تكدُّس قوائم الانتظار في دول محدودة، ولكن ما العائق أمام
هذا الوضع؟
نحن أمام أنظمة دولية تتحدث عن التنمية السياسية، ومفاهيم الحريات والديمقراطية، والعولمة والتعاون الدولي، لكن ممارساتها الحقيقية نجدها تركِّز بالأساس على الجيوش في العالم الثالث، وتعزيز شرعية الأنظمة المستبدة
نحن أمام أنظمة دولية تتحدث عن التنمية السياسية،
ومفاهيم الحريات والديمقراطية، والعولمة والتعاون الدولي، لكن ممارساتها الحقيقية
نجدها تركِّز بالأساس على الجيوش في العالم الثالث، وتعزيز شرعية الأنظمة المستبدة.
فمثلا تتوجه المعونة الأمريكية لمصر إلى الجانب العسكري بصورة أساسية، وعليه تذهب
مئات الملايين (من الدولارات) سنويا إلى الجانب العسكري، وهنا السؤال: هل يمكن أن
تنفق الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات (سنويا) لتعزيز القطاع الصحي في
دولة مثل مصر مثلا؟
أمّا على مستوى التدريب، فهناك تدريبات عسكرية مشتركة
على مستويات عالية الأهمية، وبقدر كفاءة مرتفع؛ بغرض تعزيز كفاءة الجيوش في المهام
القتالية، وتُجرى هذه التدريبات على مستوى الأسلحة المختلفة. وربما تشترك الدولتان
في أكثر من تدريبات سنوية، ثنائية وجماعية، وتتبادل القيادات العسكرية الزيارات
بصفة دائمة، ويُنقل الضباط لتلقي دورات تدريبية، تنتهي بأحدهم إلى أن يكون وزيرا للدفاع
في بلادنا، أو رئيسا لنا.
عطفا على ذلك تأتي تساؤلات: هل يمكن أن تهتم الدول (التي
تقوم بنشر الديمقراطية) بالتعليم بجميع مراحله، وبنوعَيْه الفني والعام بنفس
المستوى، ونفس الإنفاق؟ هل يمكن أن يتم تبادل الخبرات التعليمية في جميع المراحل
بنفس درجات التبادل في الخبرات العسكرية والأمنية؟ هل يمكن استقبال الأطباء في
بلادنا بنفس الصورة من الكثافة في بعثات علمية لإعادتهم إلى بلادنا لخدمتها، بدلا
من محاولات السعي الحثيثة إلى استقطاب النابهين منهم؟ والمفارقة أن الضباط يتم
الاعتناء بإعادتهم إلى بلادنا لتطبيق ما تعلَّموه هناك، فهذا الاهتمام بإعادة
الضباط أمام الاهتمام بالاحتفاظ بالأطباء النابهين يقول الكثير والكثير عن
الغايات.
محليًّا، تجد الأنظمة تعتني بنفس النمط من الاهتمام
الغربي، فيتم تعزيز الجهاز الأمني على حساب المستقبل والوعي، وهو ما فهمته الأنظمة
الغربية والمحلية المستبدة على السواء، فالتعليم يعني الوعي بالحقوق، أو على الأقل
يعني الشعور بالكرامة ورفض المهانة، فيتم تعزيز أي شيء في سبيل التجهيل وتزييف
الوعي، فتكون نفقات التعليم متوجهة إلى الإعلام لتزييف الوعي، ونفقات
الصحة متوجهة
إلى الجهاز الأمني، والعدالة في توزيع الثورات يتم سحقها وتوجيه الثروات إلى فئات
بعينها.
الخلل في ترتيب الأولويات مُستقى من جهتين؛ جِهَة الاستبداد المُنشَغِلة بترتيبات البقاء في الحكم، وما يستلزمه ذلك من الإنفاق على الأمن وتزييف الوعي، وَجِهَة الدول الغربية المنافقة المنشغلة بترسيخ بقاء الأنظمة التي تطاوعها وتخدم مصالحها في المنطقة
تجد في دولة مثل مصر وضع المستشفيات الحكومية في أسوأ
حال، وقد يحدث تطوير في المستشفيات دون حدوث زيادة حقيقية في عدد الأسِرَّة، فضلا
عن الروتين في إجراءات دخول المريض الذي قد يودي بحياة أحدهم. وتجد تباطؤا في
إنجاز المباني الجامعية والطبية، بينما يطالب حاكم البلاد بإنجاز المدن الفارغة
والكباري في مدد قياسية، ويقوم بالظهور المتكرر بصورة نصف أسبوعية تقريبا لأجل
السيطرة على الوعي، بغض النظر عن حجم نفقات ظهوره، وإلزامية تغطيتها على القنوات
المحلية.
هذا الخلل في ترتيب
الأولويات مُستقى من جهتين؛ جِهَة
الاستبداد المُنشَغِلة بترتيبات البقاء في الحكم، وما يستلزمه ذلك من الإنفاق على
الأمن وتزييف الوعي، وَجِهَة الدول الغربية المنافقة المنشغلة بترسيخ بقاء الأنظمة
التي تطاوعها وتخدم مصالحها في المنطقة، فأصبحنا أمام حالة عنوانها: إذا كانت
الدول الكبرى تهتم بالعسكرة، فلماذا لا تهتم بها الأنظمة المستبدة؟ وإذا كانت شرعية
الحكم تستند إلى جهة خارجية، فلماذا لا تكون الأولويات وفقا لمرادها من جماعة
الحكم؟
الأزمة التي تعانيها البشرية متشعبة، فهناك سيطرة للتوجهات
السياسية من الدول الكبرى، وسيطرتها الاقتصادية على العالم، وسيطرتها في النواحي
الفنية والتقنية، ثم هناك أزمات استبداد في دول العالم الثالث، وترسيخ للجهل
والفقر في تلك الدول مقابل الاستفادة من ثرواتها الطبيعية والبشرية من قِبل الدول
الأكبر والأقوى، وهناك أزمات تتعلق بالرعاية الصحية والتعليم والغذاء والدواء.
ومهما كانت المبادرات الدولية عديدة، فهي في الحقيقة لا ترقى إلى حجم الأزمة، ولا
ترقى إلى نفس درجة الاهتمام بعسكرة العالم الثالث. وفوق ذلك تعاني دول العالم
الثالث بشدة من أي أزمة تحدث في الدول الكبرى، رغم أننا لا نشترك في صناعة القرار
الدولي، ولسنا طرفا في تلك الأزمات، وعليه يبقى سؤالان أخيران: كيف، ومتى ستتم
إعادة تأسيس علاقات الحكم والتعاون الدولي، بحيث تصير الأولوية للقِيَم لا
المصلحة؟