ذكرى كارثة الحركة التصحيحية الانقلابية في سوريا

لم يكن تولي حافظ الأسد السلطة عام 1970 محض صدفة جاءت بها الأقدار، بل كانت من تخطيط مسبق عمل عليه الغرب بدأ منذ عام 1963. وكان عكس ما تتمناه الإرادة الشعبية السورية التي كانت تسعى إلى دولة مدنية يحكمها الدستور، ورئيس مدني منتخب بانتخابات حرة وديمقراطية.

لقد بدأت الحكاية منذ الثامن من آذار/ مارس في عام 1963، عندما سيطرت اللجنة العسكرية في سوريا على القيادة المدنية، مستلهمة خطتها من الانقلاب العسكري في العراق، والتي لم يكن لحافظ الأسد أي دور فيها سوى استغلال الظرف بانخراطه في الصفوف القيادية الأولى للمجلس العسكري واللجنة العسكرية التي ضمته بالإضافة إلى صلاح جديد ومحمد عمران (لأنه كان قبل 1963 ضابطا مسرحا يعمل في وزارة الزراعة، وتمت إعادته إلى صفوف القوات المسلحة من قبل صديقه ورفيقه في اللجنة العسكرية مدير إدارة شؤون الضباط المقدم صلاح جديد، ورقي بعدها في عام 1964 من رتبه مقدم طيار إلى رتبة لواء طيار دفعة واحدة، وعين قائدا للقوى الجوية والدفاع الجوي).

في العام 1966 كانت حركة الضباط الأحرار التي قام بها مجموعة من الضباط (يسمونهم أحرارا)، بقيادة صلاح جديد ومشاركة منه بالانقلاب على القيادة القومية لحزب البعث التي ضمت آنذاك مؤسس الحزب ميشيل عفلق ورئيس الجمهورية أمين الحافظ، لصالح القيادة القطرية لحزب البعث، ليتخلى بعدها صلاح جديد عن رتبته العسكرية لإكمال السيطرة على حزب البعث وحكم سوريا، بينما تولى اللواء الطيار حافظ الأسد وزارة الدفاع السورية ليتسنى له تمهيد الطريق لتأسيس إمبراطورية عسكرية ليحكم بها سوريا بعد أن كسب أيضا دعم وتأييد بعض الضباط الناصريين أمثال راشد قطيني ووليد الحريري.

حافظ الأسد أسس منظومة عسكرية وأمنية مقربة فسح لها المجال من خلال تسريح عدد كبير من الضباط الأكفاء المنافسين بحجة عدم انتمائهم للبعث. كانت هذه المنظومة كبيرة من خلال الضباط الذي التفّوا حوله من أبناء الساحل وكانوا على رأس مفاصل القيادة

اسباب انقلاب الحركة التصحيحية:

1- بعد التواطؤ والخيانة والدور الكبير لحافظ الأسد في هزيمة عام 1967، جاءت انتقادات صلاح جديد لأداء وزارة الدفاع خلال الحرب وخاصة القرار بسحب الجيش وإعلان سقوط القنيطرة بيد إسرائيل، وبدأت الخلافات بين أبناء الدورة الواحدة ورفاق السلاح.

2- التقاعس الذي أبداه حافظ الأسد كقائد للقوى الجوية والطيران في دعم القوات البرية الأردنية، كون القوى الجوية السورية أكبر أسطول جوي حربي في الوطن العربي.

3- قرار صلاح جديد الذي جاء بالإجماع بإقالة حافظ الأسد مع رئيس الأركان اللواء الركن مصطفى طلاس من منصبيهما، لكن حافظ الأسد لم ينصع لهذا القرار.

كل هذه المعطيات لم تكن كافية لإقالة حافظ الأسد ومصطفى طلاس؛ لأن حافظ الأسد أسس منظومة عسكرية وأمنية مقربة فسح لها المجال من خلال تسريح عدد كبير من الضباط الأكفاء المنافسين بحجة عدم انتمائهم للبعث. كانت هذه المنظومة كبيرة من خلال الضباط الذي التفّوا حوله من أبناء الساحل وكانوا على رأس مفاصل القيادة، أمثال ابراهيم صافي وعلي حيدر وشفيق فياض ديب وتوفيق جلول، ومنظومة أمنية واسعة تمثلت بـعلي دوبا ومحمد ناصيف ورفعت الأسد، وأبناء دورة رفعت الأسد البالغ عددهم أربعين ضابطا والتي سميت دورتهم فيما بعد بدورة رفعت الأسد والأربعين حرامي.

قيام الحركة التصحيحية الانقلابية- 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970:

لم تكن الحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر حركة بيضاء، بل سبقتها كثير من الأحداث التي قام بها حافظ الأسد ليغتال ويتخلص من الكثير من أقرانه الضباط، فمنهم من تم زجه في السجن، ومنهم من تم قتله على أيدي خلال وسرايا اغتيال أسسها حافظ الأسد قبل الانقضاض على الدولة السورية وتحويلها لمزرعة الأسد تعيث بها شبيحته كيف يشاء، وبمساعدة عدد من الضباط البعثيين الكبار والقطع الموالية له في الجيش، والانقلاب على من مد يده له وأعاده للجيش كصديقه الحميم صلاح جديد ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي.

في عام 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 أسس الأسد عددا من الأجهزة الاستخباراتية (المخابرات العسكرية والمخابرات الجوية وأمن الدولة والأمن السياسي) المرتبطة بمكتب الأمن القومي في حزب البعث، مما أوجد نظاما بعثيا قويا معتمدا على القبضة الأمنيّة البعثية داخليا. لكن حافظ الأسد لم يندفع بسرعة لاستلام الحكم في سوريا بل قام بتعيين رئيس مؤقت للجمهورية من أجل إعادة ترتيب أوراقه، وكان الرئيس المُعينو اسمه أحمد الحسن الخطيب، ضعيفا ولم يكن بيده أي قرار، بل كانت كل مفاصل الدولة بيد حافظ الأسد الذي كان ينوي الانقضاض على السلطة في سوريا، والذي بالفعل وصل بعدها إلى سدة حكم دولة الرعب التي أقامها على الدم والقتل والاغتيالات.

وبعد الثاني من آذار/ مارس 1971 تم تحيد ولاية رئيس الجمهورية العربية السورية لمدة سبع سنوات بعد إجراء استفتاء شعبي، ليكون بذلك أول رئيس بعثي علوي في التاريخ السوري. وبعدها أعيد "انتخابه" في استفتاءات متتابعة أعوام 1978 و1985 و1992 و199. وقد تولّى الحكم مدعوما من الضباط النصيريين الذي عيّنهم منذ استلامه وزيرا للدفاع.

وكما هو مقرر في نهج حافظ الأسد ونواياه السلطوية، جعل جزءا كبيرا من عقائده وأفكاره جزءا من مؤسسات الدولة السورية والمناهج الدراسيّة، مع احتكار المناصب العليا وسلسلة من الامتيازات الأخرى للضباط الطائفيين والمتخفين وراء البعثية، دون غيرهم من السوريين؛ مع شبه غياب للحريات السياسية والاقتصادية ومنظمات المجتمع المدني.

بقوة السلاح وبالحديد والنار وفي أوائل 1971، وبعد أن أعاد حافظ الأسد ترتيب الأوراق، جعل حزب البعث مطية ليكون لاحقا الأمين العام لحزب البعث ورئيسا للجمهورية العربية السورية، بأسلوب مخابراتي تم التأسيس له منذ عام 1964. كما تم الالتفاف على الحياة السياسية في سوريا بتوحيد الأحزاب الرئيسية في ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية تحت سيطرة سلطة الفروع الأمنية، كما تم تفصيل دستور جديد للبلاد في سوريا عام في آذار/ مارس 1973 على قياس حافظ الأسد ليكون رئيسا لسوريا حتى الممات.

لم تكن الحركة التصحيحية في سوريا مفتاحا للخير ومغلاقا للشر، بل كانت مغلاقا للخير ومفتاحا لشر مستطير يحيق بسوريا عندما لم يكتف حافظ الأسد برئاسة الجمهورية بل أراد أن يكون بيده الجيش والقوات المسلحة، ليقمع الحريات ويقمع الحياة المدنية ويكتم على أنفاسها

لم تكن الحركة التصحيحية في سوريا مفتاحا للخير ومغلاقا للشر، بل كانت مغلاقا للخير ومفتاحا لشر مستطير يحيق بسوريا عندما لم يكتف حافظ الأسد برئاسة الجمهورية بل أراد أن يكون بيده الجيش والقوات المسلحة، ليقمع الحريات ويقمع الحياة المدنية ويكتم على أنفاسها. وكانت الكارثة التي بدأت من عام 1964 عندما سيطر حافظ على مفاصل سوريا الحضارة ليحولها إلى حظيرة للسوريين وبقوة السلاح والحديد والنار.

لقد انتزع حافظ الأسد سوريا من محيطها العربي بأسلوب الدعاية للمقاومة والممانعة، ورمى سوريا في أحضان إيران، وكان يدّعي السعي للوحدة وهو أبعد الناس عنها، وكان يدعو للتضامن وهو أكبر من دق إسفينا بين الدول العربية، وكان يدعو لتحرير فلسطين وهو أول من قتل الفلسطينين في تل الزعتر ودكهم بالصواريخ، وكان يدّعي حماية الأقليات وهو من قتل واعتقل وأخفى المسيحيين وصفّاهم في فرع فسطين، وقتل واغتال الشرفاء اللبنانيين وعلى رأسهم كمال جنبلاط ورينيه معوض والشيخ محمد خالد، كما اغتال ابنه الصحفي سمير قصير وجبران تويني ورفيق الحريري.

ختاما، كانت الحركة التصحيحية وبالا على الشعب السوري التي جاءت بحافظ الأسد إلى سدة الحكم في سوريا، وأنهت الحياة السياسية ومزقت النسيج الوطني السوري بحجة الدعوة للبعث العربي الاشتراكي المغلف بالتحزب الطائفي والعشائري البغيض.