هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
غدا الأحد 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، تشرئب بلايين الأعناق في اتجاه قطر لتشهد بداية أضخم ملحمة كروية في سياق منافسات كأس العالم لكرة القدم (المونديال) لعام 2022، والتي تدفق قرابة مليوني شخص على قطر خلال الأيام والساعات القليلة الماضية لمتابعتها بالعين المجردة.
وكانت قطر قد تعرضت لنيران صديقة (عربية)، وأخرى غربية منذ أن فازت بحق استضافة المونديال، وكان منطق الواقفين خلف المدافع وراجمات الصواريخ أنه ليس هناك ما يؤهل قطر لتلك الاستضافة، سوى أنها دولة غنية، ومنها من قال إن تعداد السكان في قطر سيحرم الملاعب من جماهير "كافية" تتابع وقائع المباريات، وما أن صارت تذاكر المباريات التي طرحها الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) تنفد بعد ساعات من طرحها، حتى تغيرت لهجة الرماة وصاروا يتباكون على ما اعتبروه الخسائر المادية التي تكبدتها قطر لتستعد لاستضافة المونديال.
تشير بعض التقديرات إلى أن قطر أنفقت ما يربو عن الـ 150 مليار دولار على مختلف المشاريع في سياق الاستعداد لاحتضان مونديال 2022، وحقيقة الأمر هي ما أنفقته قطر على مختلف المشاريع خلال الـ 15 سنة الماضية يفوق ذلك المبلغ بكثير، فعندما وضعت قطر رؤيتها الاستراتيجية لعام 2030، وكان ذلك في عام 2008، لم تكن استضافة المونديال واردة في أجندة واضعيها (فازت قطر بالاستضافة في أواخر عام 2010)، فقد كانت غاية الرؤية ولا تزال تحقيق التنمية المستدامة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية مع حماية البيئة وتنميتها.
ومن ثم كان من البديهي أن يوكل أمر الاستعداد لمنافسات المونديال إلى لجنة تحمل اسم "المشاريع والإرث"، بحيث تكون الملاعب والمضامير التي تدور فيها رحى المباريات في سياق مشاريع البنى التحتية العملاقة، وكما لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها، فلا يدرك حجم التحولات الهائلة التي شهدتها قطر في السنوات الأخيرة، إلا شاهد عيان مثلي جاء إلى قطر قبل أكثر من 35 سنة، وعاصمتها الدوحة لا تزال في مرحلة انتقالية بين التحضر والبداوة، ثم فقد القدرة على التجول فيها بعد أن تشابكت فيها الطرق الأفعوانية والجسور والأنفاق التي جعلت منها متروبوليس، بعد أن امتدت أذرعها لتحتضن عددا من الضواحي الحضرية.
ورغم أنه من المفترض أن أكون ـ بحكم إقامتي طويلة الأمد في قطر ـ شاهدا شاف كل حاجة، وشهد كيف كانت الدوحة قروية ما نصل الخضاب عن أقدامها المدببة، بدوية وطيبة، إلا أنني وخلال الأيام القليلة الماضية كدت لا أعرفها، وكأني بها غادة ظلت تخفي مفاتنها، ثم أسفرت عن وجه وتضاريس تصعق الرائي وتبهره، ويقيني أن الأوروبيين وعموم الغربيين الذين كانوا يحسبون قطر وجاراتها مجاهل صحراوية ترتع فيها الإبل والضباع، سيكونون الأكثر انبهارا بما ستراه أعينهم خلال الأيام المقبلة في قطر من أقصاها إلى أقصاها، وليس في الدوحة وحدها.
منذ أيام أصبحت الدوحة المدينة التي لا تنام، فبموازاة وقائع المونديال ما من ساحة أو حديقة عامة فيها إلا وبها كرنفال "يجنّ فيه الفن وينثال النغم"، فلكل ألوان الفنون نصيب ومساحة، وبعض تلك الفعاليات يبدأ نهارا وينتهي بعد انتصاف الليل، وأينما تصوب عينيك في الدوحة تنعم بمتعة الأبصار، فتعيش حالة من الانبهار ليل نهار.
تزينت الدوحة وتبرجت بمقتضى أحكام رؤية استراتيجية، وكان بديهيا أن تزداد جرعة التزين وعيون مئات الملايين عليها، وكان الأكثر بداهة أن يكلف ذلك قطر مبالغ طائلة، و"من يخطب الحسناء لم يغلها المهر"، ومن المؤكد أن العائد المالي للمونديال على الخزينة العامة في قطر لن يغطي المبالغ المنفقة للاستضافة، ولكن وعلى المدى الوسيط فإن المكسب المعنوي والأدبي الذي فازت بها قطر سلفا من الاستضافة، سيتحول إلى عائد مادي لأن المونديال سيضع قطر على الخريطة الكونية كما لم يفعل أي جهد آخر، وسترى الملايين رأي العين كيف أن قطر عملاق اقتصادي تعود مصاهرته بالمغانم الوفيرة، وبهذا يتحقق جانب أصيل من رؤية قطر 2030 فلا تصبح قطر أسيرة الغاز والنفط بل تصبح وجهة ومركزا تجاريا وسياحيا، وتشير التكهنات سلفا إلى أن اقتصاد قطر سينمو بنسبة 3.4% عام 2022 و2023.
والشاهد هو أن المونديال جاء إلى قطر كـ "زيادة في الخير"، ومن العسف الزعم بأن قطر أهدرت البلايين على منافسة موقوتة، لأن معظم تلك البلايين ستظل تعطي مردودا عاليا على مر عقود مقبلة، فقطر لم تنجز مطارا فاز بلقب أرقى مطارات العالم مؤخرا، ولا أقامت شبكة ضخمة لخطوط قطار المترو داخل عاصمتها، ولا قامت بتوسعة مينائها البحري بحيث صار يضاهي كبريات الموانئ في العالم، من أجل المونديال، ولا استضافت أرقى جامعات العالم، ولم تنشئ أكبر قرية ثقافية في الشرق الأوسط، ولا احتضنت عديد المتاحف المتخصصة من أجل خاطر جماهير كرة القدم، بل وصولا إلى العام 2030 وما بعده.
في عام 2006 استضافت قطر بطولة الألعاب الآسيوية (آسياد)، وأقامت لتلك الغاية قرية بكامل مرافقها، وهناك من لطم الخدود وشق الجيوب على الأموال "المهدرة" على تلك الغاية، وما أن انتهت وقائع تلك الألعاب، حتى تحولت تلك القرية في غضون أسابيع قليلة إلى مرافق صحية ـ طبية، تقف اليوم شامخة بعد أن صارت الآسياد ذكرى بعيدة، وقياسا على ذلك فإن هناك تصور قائم سلفا بتحويل المرافق المقترنة بالمونديال إلى مدارس ومستشفيات ومراكز اجتماعية وثقافية.
منذ أيام أصبحت الدوحة المدينة التي لا تنام، فبموازاة وقائع المونديال ما من ساحة أو حديقة عامة فيها إلا وبها كرنفال "يجنّ فيه الفن وينثال النغم"، فلكل ألوان الفنون نصيب ومساحة، وبعض تلك الفعاليات يبدأ نهارا وينتهي بعد انتصاف الليل، وأينما تصوب عينيك في الدوحة تنعم بمتعة الأبصار، فتعيش حالة من الانبهار ليل نهار.