من أكبر الأوهام الشائعة أنَّ الإنسان كائنٌ عقلانيٌّ
يحتكم إلى البرهان، وأنَّ بيان الدليل والحجَّة يكفي ليسلِّم بالحقّ!
هذا صحيحٌ باعتبار ما يفترض أن يكون، لكن باعتبار
الواقع فإنَّ أكثر الناس يفعلون العكس، فهم يستدعون تبريراتٍ عقليَّةً وأخلاقيَّةً
لأفعالهم، بدل أن يقيّدوا أفعالهم بالأسس الأخلاقيَّة: "إن يتبعون إلا الظنَّ
وما تهوى الأنفس".
والتحيُّز عميقٌ في نفس الإنسانِ، لذلك قيل في قصة
موسى والسحرة في القرآن: "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ"، مع أن الأقرب إلى العدل أن يقولوا "نتبع الغالب الذي
يثبت حجَّته"، لكنَّهم حددوا انحيازهم المسبق للسحرة الذين هم من قومهم، قبل
اختبار موقف الفريقين.
وهذا ما يفسر الاختلاف الهائل بين البشر ونشوء الأفراد
والجماعات المتناقضة، فالحقُّ واحدٌ يفترض ألا يختلف الناس فيه: "وَمَا كَانَ
النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا".
أمَّا ما يشكِّل الاختلافات فهو العوامل النفسيَّة غير
العقلانيَّة التي يحاول الإنسان إخفاءها بإلباسها لباساً من التبرير العقليِّ
والأخلاقيِّ، لكنَّ التفتيش الدقيق فيها يظهر أنَّ حظَّ الهوى غالبٌ فيها.
ما يشكِّل الاختلافات فهو العوامل النفسيَّة غير العقلانيَّة التي يحاول الإنسان إخفاءها بإلباسها لباساً من التبرير العقليِّ والأخلاقيِّ، لكنَّ التفتيش الدقيق فيها يظهر أنَّ حظَّ الهوى غالبٌ فيها
لئن سألت الناس عن الشرِّ والظلم والفساد فسينكرونه
ويذمُّونه، لكنَّ كثيراً منهم يتورَّطون فيه، فما هو تفسير التناقض بين الرفض
المبدئيِّ للظلم والفساد واقترافه عمليَّاً؟
إنَّ رفض الناس للشرِّ والظلم والفساد مردُّه أنَّهم
يتخيَّلونه بعيداً عنهم، إنَّهم يتخيَّلون صورةً نموذجيَّةً لكائنٍ شيطانيٍّ
شرِّيرٍ، ويتخيَّلون أنَّ ممارسة الظلم والفساد هو موقفٌ واعٍ اتخذه أولئك الأشرار
في ساعة وعي فقالوا: هيَّا نكون أشراراً!
فما دمنا نحن، والذين يشبهوننا من العائلة والجماعة
والثقافة والأمَّة، لم نتخذ قراراً أن نصير أشراراً، وما دمنا نراهم يأكلون الطعام
مثلنا ويمشون في الأسواق ويتحدثون بلساننا ويرتدون ثيابنا ويضحكون لنا ونضحك لهم
ويبدون لطفاء في التعامل معنا، فكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا أشراراً أو ظالمين؟!
الآخر المجهول هو الظالم والشرِّير والفاسد.
يتحدَّث القرآن عن فريقٍ من الناس يفسدون في الأرض
"وهم لا يشعرون": "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ" (البقرة: 11-12).
هذا هو الخطر، فالظلم والشر والإفساد ليس موقفاً واعياً،
بل هو موقفٌ لا شعوريٌّ يتورَّط فيه الإنسان، ويكون منسجماً في فعله مع البرمجة
النفسيَّة والثقافيَّة التي هيَّأت له الأرضيَّة لارتكاب أفعالٍ غير أخلاقيَّة
ثمَّ تقدِّم له هذه البرمجة التبريرات التي تسكّن قلق ضميره.
من أبين أمثلة الظلم والإفساد في القرآن فرعون، ومع
ذلك فإنَّ القرآن يبيِّن لنا أنَّ فرعون لم يكن يمارس الظلم والإفساد انطلاقاً من
فراغٍ ثقافيٍّ ونفسيٍّ، بل كانت له روايته التي يسوِّقها ويقدِّم من خلالها
تبريراً أخلاقيَّاً لأفعاله: "ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل
دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد".
تعتمد رواية فرعون على أنَّه بطلٌ قوميٌّ يحارب من أجل
حماية هويَّة قومه ويحافظ على الاستقرار ويحارب الفساد الذي يظهره موسى!!
الظلم والشر والإفساد ليس موقفاً واعياً، بل هو موقفٌ لا شعوريٌّ يتورَّط فيه الإنسان، ويكون منسجماً في فعله مع البرمجة النفسيَّة والثقافيَّة التي هيَّأت له الأرضيَّة لارتكاب أفعالٍ غير أخلاقيَّة ثمَّ تقدِّم له هذه البرمجة التبريرات التي تسكّن قلق ضميره
قد نسخر حين نقرأ تبريرات فرعون الآن، ولكنَّها تبريرات
في غاية الجديَّة وقتها، ومردُّ سخريتنا الآن أننا نرى فرعون من مسافةٍ بعيدةٍ
فاصلةٍ، فهو ليس جزءاً من الحراك الاجتماعيِّ والسياسيِّ المعاصرِ، لذلك يسهل
علينا تخيُّله بأنَّه الآخر الشرير الظالم المفسد، ولكنَّ العبرة بالقدرة على
اكتشاف بذور الإفساد في حالة الالتحام بالواقع، وهذا ما يفسِّر أنَّ كثيراً من
الذين يلعنون فرعون الذي ذكره القرآن هم أنفسهم يتورَّطون في موالاة من يتبعون نهج
فرعون ويمارسون نفس أفعاله من قتلٍ وإفسادٍ وعلوٍّ في الأرض، فكيف استقام في
عقولهم لعن فرعون الذي يذكره القرآن وحبُّ فرعون المعاصر لهم؟!
لأنَّهم يعايشون فرعون المعاصر فهم يتشرَّبون روايته
ويشاركونه في المنطلقات الأيديولوجية والاجتماعية والسياسيَّة لموقفه الإفساديِّ،
أما فرعون القديم فلم يبق منه سوى المثل المجرَّدِ، فلا يقتضي وصفه بأنَّه كان
ظالماً ومفسداً في الأرض.
والمجتمع الصهيونيُّ مثالٌ آخر، فنحن من موقع المراقبة
الخارجيَّة نتعجَّب كيف يمكن لإنسانٍ أن يعيش في دولةٍ قامت على أنقاض شعبٍ آخر
واقتلعته من أرضه واقترفت ضده المذابح، ولا تزال تمارس القتل والظلم ضدَّه، كيف
لمن يعيش في هذه الدولة أن يسكِّن ضميره؟!
فإذا اقتربت من كتابات الصهاينة الذين يتنفسون هواء
مجتمعهم الثقافيّ منذ بداية وعيهم ستجد عندهم روايةً، مثل أنَّ الفلسطينيِّين هم
الذين خرجوا من وطنهم، أو أنَّ الدول العربيَّة ارتكبت مذابح ضد اليهود العرب في
بلدانهم، أو أنَّ هذا المكان هو ملاذهم الوحيد بعد مجازر هتلر أو أنَّ لهم حقَّاً
في هذه الأرض منذ آلاف السنين!
لا يهمُّ في سياقنا إثبات تداعي مثل هذه المبررات
ووهنها، إنَّما المعنى أنَّ الموقف العدوانيَّ لا يمارسه أصحابه في فراغٍ بل
ينطلقون من برمجةٍ نفسيَّةٍ وثقافيَّةٍ، وهذا الفهم يقرِّبنا من فهم الخارطة النفسيَّة
للجماعات على نحو أعمق والاهتداء إلى مفاتيح تفكيك مواقفهم.
يبيِّن القرآنُ أنَّ كلَّ أمَّة متصالحة مع منظومة
أفكارها وقيمها، والأمر لا علاقة له بأنَّ هذه الأمم على حقٍّ، بل لأنَّ هذا
التصالح هو حاجةٌ نفسيَّةٌ لحماية الهويَّة الجماعيَّة وتوحيدها عبر إقناع الأفراد
بأنَّ هناك مبرراتٍ أخلاقيَّة:
- "كَذَلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ".
- "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ".
- "كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ".
- "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً".
لا يوجد فردٌ أو أمَّةٌ يقول في لحظة وعيٍ: "قررت
أن أصير مستكبراً، أو ظالماً، أو مفسداً.."، إنَّما توجد خطوات الشيطان، خطوة
بعد خطوة، فينزلق الناس إلى أفعال الظلم والإفساد "وهم لا يشعرون".
لذلك إذا تعمَّقت في داخل أيِّ جماعة أو أيديولوجيا
ستجد أنَّها متصالحةٌ مع ممارساتها، بينما من هم خارج تلك الجماعة أقدر على ملاحظة
مخالفاتها، لأنَّ المراقب الخارجيَّ يرى الجريمة في ذاتها، أمَّا المتماهي
داخليَّاً فإنَّ الجريمة تقدَّم له ضمن إطارٍ تفسيريٍّ تبريريٍّ تطوِّع نفسه
لقبولها.
المراقب الخارجيُّ يرى أنَّ الجماعة قتلت فرداً بغيرِ
حقِّ فيستعظم ذلك، أمَّا المتماهي في داخل الجماعة فقد تقدَّم الجريمة له في إطارِ
أنَّ هناك مؤامراتٍ تحاك ضد جماعتِه، وأن هناك مخططاً مقصوداً لإثارة الفوضى،
وأنَّ إبداء الحزم هو خير وسيلةٍ لحماية الذات! وبهذه المبررات تصير الجريمة
"المرفوضة في ذاتها" مقبولةً في سياقها المتوهَّم.
وتلاقي هذه المبررات هوىً في نفس المنتمي المتماهي؛
لأنها تهدِّئ شعوره بالقلق وتمنحه الاستقرار وتحافظ على مصالحه التي ارتبطت بمصالح
الجماعة فيتبناها ويدافع عنها كما لو أنها حججٌ عقلية، بينما في قرارة نفسه فإنَّ
دافع الهوى يحركه: "بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ
أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ".
هذه الطبيعة الخفيَّة المتدرِّجة لفقدان الميزان
الأخلاقيِّ وتطويع النفوس لتقبُّل أشدِّ الجرائم فظاعةً تستدعي من الإنسان أن يحرص
على إبقاء الحسِّ النقديِّ يقظاً في داخله، وإبقاء مسافةٍ فاصلةٍ تحميه من التماهي
والذوبان والركون الذي يفقده القدرة على رؤية الحقائق ببداهتها وحسِّها المباشر.
الحضور الكثيف في القرآن لمنهج محاسبة النفس ولومها هو منهجٌ غير مألوف في الفلسفات البشريَّة التي تنحو عادةً إلى تزكية الذات وتمجيدها. وجدوى المنهج القرآنيِّ أنَّه يوقظ في النفس الحذر والمراجعة ويبصِّرها ببذور الحيد والضلال، وهذا على نقيض الذين يزكّون أنفسهم
لذلك من الملاحظ جداً في القرآن غلبة منهج محاسبة
النفس ولومها، لأنَّ النفس سريعاً ما تنزلق إلى التبرير وتزيين العمل، فاقتضى
العلاج تعزيز منهج النقد والمحاسبة حتى تكون النفس سريعة التذكُّر والإنابة:
- "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ".
- "فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى".
- "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ".
- "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ".
الحضور الكثيف في القرآن لمنهج محاسبة النفس ولومها هو
منهجٌ غير مألوف في الفلسفات البشريَّة التي تنحو عادةً إلى تزكية الذات وتمجيدها.
وجدوى المنهج القرآنيِّ أنَّه يوقظ في النفس الحذر والمراجعة ويبصِّرها ببذور
الحيد والضلال، وهذا على نقيض الذين يزكّون أنفسهم، فإنَّهم يستسلمون لإغراء تمجيد
الذات وتنزيهها فيعميهم ذلك عن ملاحظة أخطائهم حتى يتمادوا فيها.
معنى "التقوى" الذي يعدُّ ركيزةً أساسيَّةً
في القرآن ليس سوى الحذر والمراجعة والتفتيش في دقائق النَّفس واتهامها ومعالجة البدايات
الخفيَّة قبل استفحالها، فهذا هو العلاج النَّاجع الذي يحمي الأفراد والجماعات من
الغفلة والضلال وهم لا يشعرون.
twitter.com/aburtema