المسعدي
في مرمى نيران نقاده من جديد
تهدأ
"الحملة" ثم سرعان ما تعود، مستهدفة هيمنة كتابات المسعدي على المقرر الدراسي؛
لماذا يحتكر المسعدي الفضاء المدرسي والطلابي؟ هل عجزت
تونس أن تنجب كتابا آخرين مجيدين؟ لماذا تحول المسعدي إلى وثن؟ لماذا
احتكر مريدوه الفضاء الإبداعي وصاروا مفسرين لنصه كمفسري نصوص قيس سعيد مثل شفتر وغيره؟
هل خدمت
السياسة
محمود المسعدي وجعلت نصه أمرا واقعا، بحكم قربه من المؤسسة البورقيبية بل أحد
رموزها؟
ألم
يصرح المسعدي ذات يوم بأن كل ما كتبه كان بهدي من المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة؟
تقلد
محمود المسعدي مناصب مهمة، درّس في معهد كارنو والمعهد الصادقي في تونس، وانتُدب للتدريس
بمركز الدراسات الإسلامية في باريس، كما تقلد عدة مسؤوليات في نطاق الحركة الوطنية.
انضم إلى الحركة النقابية رئيسا للجامعة القومية لنقابات التعليم، وأمينًا عامًا مساعدًا
للاتحاد العام التونسي للشغل، وشارك في المفاوضات التونسية الفرنسية التي أفضت إلى
الاستقلال الداخلي. بعد الاستقلال انتخب عضوًا بالبرلمان ثم رئيسًا له. عين وزيرًا
للتربية القومية، ثم وزيرًا للثقافة. وشغل مسؤوليات سامية في منظمتي اليونسكو والألكسو.
من أبرز
أعماله مسرحية "السد" التي تمت طباعتها للمرة الأولى عام 1955، "وتكمن
أهمية الكتاب في الموضوع وزمن الكتابة والاستدعاءات الكثيرة التي استعملها المسعدي
في متنه، مثل: الميثولوجيا، والأفكار الوجودية، والتراث العربي الإسلامي".
العمل
المهم الثاني للمسعدي هو "حدث أبو هريرة قال"، التي طبعت العمل كاملة عام
1973، و"يعدّ هذا النص من أهم النصوص المؤسسة للسرد التونسي والعربي الحديث،
وقد اختير كتاسع أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين".
تدوينتان
للشاعر محمد الغزي حركتا ما كان راكدا من وثوقية في عبقرية وريادة للكاتب محمود المسعدي
الذي ظل أيقونة أجيال، بل أسطورة بنى البعض مجده عليها، وتخصص البعض في كتاباته التي
فرضت على المناهج المدرسية، حتى لم يعد من الممكن أن تكون مثقفا دون أن تسلم بعبقرية
المسعدي.
تدوينتان
أحيتا جدلا قديما أثير من جديد
"بعض
الأصدقاء قالوا: "كلما قرأنا أعمال المسعدي، اكتشفنا الجديد. طلبت منهم أن يفيدونا بهذا
الجديد الذي اكتشفوه. ما زلت أنتظر".
التدوينة
الثانية جاءت قاطعة وأكثر قسوة: "ماهي علاقة المتقبل الجديد بالمسعدي
وبلغته الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة؟ أزعم أن لا علاقة بينهما،
أدب المسعدي كتب
لأجيال مضت وانقضت".
على
الفور، انطلقت بعض الأصوات المؤيدة تثني على جرأة الغزي، مؤكدين أنهم كبتوا مواقفهم
وعبر الغزي عما لم يجدوا الجرأة للصدع به، مثل أبو مدين فاضل هلايلي الذي شكر الغزي: "على هذه الشذرات اللطيفة الجريئة،
إنها ملاحظات تشفي غلاّ كنت أكتمه، لا لأن المسعدي لا يستحق أن يكون في المقام الذي
حظي به سنوات طويلة وعقودا، وإنما لأن تكرار أدب المسعدي مدرسيا قد أنسى الأجيال المتلاحقة
أعلاما وآثارا من الأدب كانت جديرة هي الأخرى بالدرس والاهتمام، وقد نكون قلنا في أدب
المسعدي أكثر مما يتحمّل أحيانا، فلذلك بات ملحّا اليوم أن نفيق من صدمة المسعدي وغوايته، علّنا نفتح المغالق التي طمسها هذا الأديب، دون أن ننكر قيمته طبعا. وإلى ذلك، لا بدّ
في الضفة الأخرى أن نقول الكلام نفسه عن الشابي الشاعر الذي شغل النقد والذائقة طيلة
نصف قرن أو زد عليه كثيرا".
وأمام
بعض التدوينات المستنكرة لما كتبه، اضطر محمد الغزي للتوضيح: "هل نريد تأبيده في
الباكالوريا؟ لست وزيرا ولا مسؤولا لأحور وأغير، أدليت بمجرد رأي قلت الرجل عظيم، لكن
افسحوا المجال لغيره".
جاءه
الرد سريعا من الشاعرة جميلة الماجري مديرة بيت الشعر بالقيروان: "صديقي الشاعر
محمّد الغزّي. لا أفهم أسباب هذه الهجمة الشرسة على أدب المسعدي، ولماذا لا نحترم رأي
الذين يجدون متعة في كتاباته، وتطلب منهم أدلّة، ولم تقدّم أنت أدلّة على بوار هذا الأدب
وعدم جدواه أو جمالياته، لأنّ مثل هذا النقاش الذي يحتاج إلى دراسة وتحليل وشواهد
لا يتّسع لها الفيسبوك، ويظلّ الأمر مجرّد جمل هجومية وتحامل مجاني وإطلاق رصاص... ومن رأيي لا يليق هذا التجريح بأحد الرموز الكبار في أدبنا، وهذه العادة التونسية
مهاجمة الشابي واليوم المسعدي. فاعترافنا بالكتابات الحديثة، وما حققته من إضافات وإبداعات
نعتزّ بها، لا يدعو إلى هدم ما سبق وما تعلّمنا منه؛ فنحن لا نرى أدباء مصر اليوم يقزّمون
نجيب محفوظ، ولا اللبنانيون يفعلون ذلك مع جبران، وإذا كان قصدك وجود أدب المسعدي في
المناهج المدرسية باستمرار، فيجب الخوض في المسألة في هذا الإطار وليس مهاجمة أدب المسعدي
وتجريده من كلّ قيمة، فهذا ليس من الموضوعية العلمية في شيء".
وفي الاتجاه ذاته، أدلى الشاعر عبد المجيد يوسف برأيه، معلنا عدم تأبيد إدراج أعمال المسعدي
في المقرر المدرسي، ملقيا باللوم على عدم التعاطي مع محاور جديدة ما زالت مجهولة، ولم
تنل حظها في أدب المسعدي: "لا أريد تأبيد أدب المسعدي في برنامج البكالوريا، ولكني
أزعم أن المسعدي ما فتئ في جوانب كثيرة منه غير مقروء... وقد حاولت النظر في بعض هذه
الجوانب في عمل لي منشور تحدثت فيه عن مناقشة المسعدي للفلسفة الوضعية الجديدة وفلسفة
التقدم، وهناك أعمال أخرى تنتظر مني الإنجاز، كتجربة الحكم وقضية حكم الجماعة وما إلى
ذلك".
وأضاف:
"ومنذ أمد غير بعيد، نشرت في صفحتي هنا حديثا عن التناص الذاتي وعن إعادة الكتابة...
بقي أن مسألة إدراجه منذ عقود في برنامج البكالوريا لا أحبذه شخصيا، وهناك آثار مهمة
من الأدب التونسي كان ينبغي أن تعوض هذه الآثار المتقادمة... الدراسات حول المسعدي
تكاد تحصر آثاره في التجربة الوجودية والتجربة الصوفية واستدعاء التراث والتناص مع
الأدب العربي القديم... هذه أمور ينبغي تجاوزها فآثاره ما فتئ فيها المتردّم...".
أما
الدكتور نور الدين العلوي أستاذ علم الاجتماع، فقد كان حاسما، وحمّل المسعدي بعض ما يعانيه
شعب يعيش بنص واحد: "إننا نجد في بعض ما يجري الآن أثرا
لمحمود المسعدي: استهانة الغالبية بقيمة الحرية، والسعي الحثيث إلى الخلاص الفردي،
والانكفاء على الذات عند صدور نداءات الحرية.. هي تقريبا نصيحة المسعدي بالخلاص الفردي
الذي اتخذه بطله أبو هريرة".
هل يمكن
الخروج من المسعدي؟
لقد
أعدم المسعدي طيلة ستين عاما قدرة الناس على التفكير خارج نصه، في نصف القرن من هيمنة
المسعدي كتب تونسيون نصوصا أخرى، وتطور الأدب العالمي، لكن المدرسة ظلت تدور على نفس
البرنامج، ولم يجرؤ أي من مدرسي النص على طلب تغيير البرنامج. لقد تحول النص إلى أصل
تجاري مريح يقبض منه الكثيرون خبزة باردة.