هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"أثني عليَّ بما علمتِ فإنني** سمحٌ مخالقتي إذا لم أُظلمِ"
عنترة بن شداد العبسي
علينا بتعلم العيش معا كإخوة وأخوات، وإلا سنموت جميعا كأغبياء.
مارتن لوثر كينگ
مدخل.. مفهوم الحوار التسامحي رهن المساءلة
إن كل من يجهلون في لغة الحوار والتسامح عطاءات كبار المفكرين والفقهاء، أو يقصِّرون في استحضارها، يخطئون المنهج والمرمى، مثلهم كحاطبي ليل، فلا يُجيدون ولا يفيدون. وعليه، فإن تلك العطاءات لا يجوز تحييدها والقفز عليها، وذلك لكونها منشئة ومضيئة. وهكذا فإن المقاربة الفلسفية لمجمل الألفاظ لمن شأنها أن تحوّلها إلى مفاهيم من خلال ربطها عضويا بالمكون الذي يؤسسها وينعشها، ألا وهو التواصل أو ما يسميه الفيلسوف الألماني يورﭼـن هابرمس "الفعل التواصلي"، الذي به تقوم وتتحقق شروط الندية والاستعراف، فإمكانية إنجاز الحوار والتسامح. وفي غيابه، تؤول تلكم الألفاظ إلى مجرد شعارات استهلاكية، ومن ثم إلى الضمور المضموني والتلاشي الدلالي، فنكون بمحضر لغة مهزوزة، غير سالكة ولا منتجة، وهذا بيانه:
1 ـ مفهوم الحوار التسامحي رهن المساءلة
إن لفظة دايلوگ (من اليونانية dia أي عبر ومن خلال، وlogos أي اللغة والعقل). وقد جعل أفلاطون منه قطب الرحى في أعماله الفلسفية الحوارية في ضوء ما ذهب إليه معلمه سقراط من تسخير منهجي له في مواجهاته مع أخصامه السفسطائيين، وكذلك لتوليد الأفكار (maieutica) والاحتكاك الجدلي بين الأوعاء القادر على تفجير منابع النور. ولهذا المفهوم ومرادفاته حضور معتبر، كما نعلم، في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية من خلال تقاليد المجادلة والمناظرة والمطارحة، أو ما يسميه أبو حيان التوحيدي، والمصطلح له، "المثاقفة".
وفي كل اللغات، نعلم فضائل هذا المفهوم التنويرية والتوفيقية المهدئة ولازمته التسامح، خصوصا في أقسى اللحظات والتوترات الاجتماعية والدولية؛ كما نعلم أن نمو الثقافات الإنسانية، عبر لحظاته المزدهرة الدافعة، مدين للحوار التسامحي كعربون انفتاح وإرادة التواصل، وكدينامية منتجة لشروط التعايش البناء والسلام العادلِ الدائم. والآية التي لا تعدلها بهذا الصدد أيُّ قولة في التوراة ولا في الإنجيل هي: ﴿ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئة. ادفعْ بالتي هي أحسن. فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّهُ وليٌّ حميم (فصلت/34﴾. وأيضا هذه الآية العظيمة ﴿ادعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ (النحل/125).
لكن ماذا في استطاعة أخلاق الحوار التسامحي فعله حيال تصاعد الحروب والنزاعات، التي لم تفتأ بؤرها ومناطقها تتعدد وتتناسل منذ الحرب العالمية الأولى (التي ترجَّى الناس أن تكون الأخيرةَ الآخرة (la der des der)؟
مفهوم islamism الملغوم الوضعِ والتصريف، الخاضع لمعالجة لغوية خصوصية بالغة الاستثنائية، فإن مستعمليه يظنون أو يزعمون أنه شيء، ومفهوم الإسلام شيء آخر، وذلك من حيث إن هذا ينطبق على الديانة التوحيدية الثالثة وعلى ثقافتها وحضارتها، وذلك يعني الأصولية أو التطرفية الإسلامية.
بالنظر إلى الهوة التي تنحفر بين المثقفين والمجتمع المدني من جهة، والسياسيين والفاعلين الاقتصاديين من جهة ثانية؛ وبالنظر أيضا إلى غلبة الصدامات ومنطق الأقوى وقانونه، فإنه يُحكم على أخلاق الحوار التسامحي بالركون إلى مجموعة من الأدعية والتمنيات الصالحة، أو على الأكثر إلى خطابات طيبة في محاسن المفهومين لفائدة الثقافات والحضارات، (وهذا ما يسمى œcuménism)؛ خطابات يقدر كل طرف أن يغذيها بحججه واستشهاداته المستمدة من تراثه الروحي، ويستعرضَ، من ثم، أدلة شتى في خدمة القضية النبيلة، إذ إنه لا بديل عن التشبث بحوار وتسامح الشجعان والسعي الدؤوب إلى إنهاء مهلكة النزاعات والحروب بالتي هي أحسن وأعدل. غير أن ثقافة السلام هاته تجد مقوضها في كتلة المعوقات المعقدة المجانسة للهيمنية (الهيجمونيا)، بشقيها الظاهر المباشر والماكر المتخفي.
حاضرا، أمام واقع الأحوال، المفتقر للأمن وأسباب الاستبشار، لا يمكن لأوساط ثقافة الحوار التسامحي إلا أن تصمد في مقاومتها للأزمات والانحرافات المتعددة الأصناف والأشكال، ذلك لأن ممثليها هم من حيث تكوينهم أشخاص معادون لعقلية التيئيس والاستسلام.
بالطبع، إذا كان ذلك الحوار بين الثقافات والحضارات من أجل مشروع سلام عادل ودائم، يظل رغم العراقيل والصعوبات، بمنزلة الأمر الحيوي والمعبر الضروري، فمن المفيد جدا لنا أن نكيفه لروح العصر وللغة المعقلنة، وأن نؤسس لشروط الإنجاز التي يلزم أن ينصهر فيها أكثر فأكثر.
ولنا أن نعرض هنا لبعضها أو قل لأولاها في تقديرنا بالصدارة والأسبقية:
2 ـ شرط عقلنة لغة الحوار التسامحي
إذا كان هذا الحوار بين الأديان والثقافات مطلوبا ومرتجى، فإن لغته في تبادل الكلام والأفكار يلزم أن تكون لها دلالات اتفاقية دقيقة، ومن ثم مخلصة من وباء التعتيم والتلبيس، التي هي مصدر كثير من الأحكام المسبقة وسوء الفهم والسلوك، وإننا هنا نقتصر على عينة من المفاهيم والألفاظ التي يمحو تداولُها الغالب المركوز مقصدها الحقيقي، ويخلخل صحة أساسها المعرفي.
ولنا على ذلك مثال مفهوم "الإسلاموية"islamism :
في كل الديانات والمذاهب والنظريات لا وظيفة للاحقة ism إلا إعلان هويتها ومرجعها الفكري (أو الإيديولوجي). وهكذا، فالمسيحية (christianism) لا تعني شيئا آخر غير ديانة عيسى ابن مريم وآباء الكنيسة القائم على الإيمان التوحيدي وعقيدة التثليث والصليب، وهي الديانة المتفرعة إلى مذاهب كبرى ثلاثة: الكاثوليكية والبروتستانية والأورثدوكسية؛ ففي هذه المذاهب كما في الديانة ـ الأم وفي اليهودية والبوذية إلخ، ليس لتلك اللاحقة أي تضمين دلالي خصوصي كالذي لها في islamism؛ وعلاوة على ذلك، لا أحد يذهب إلى وضع فوارق من أي صنف ودرجة بين الإرهاب (terror) والإرهابية (terrorism)، طالما تقوم هاته على نمط فكر وعمل يسن أتباعه ممارسة العنف الفعلي في علاقاتهم الصراعية بخصومهم ومناوئيهم.
أما مفهوم islamism الملغوم الوضعِ والتصريف، الخاضع لمعالجة لغوية خصوصية بالغة الاستثنائية، فإن مستعمليه يظنون أو يزعمون أنه شيء، ومفهوم الإسلام شيء آخر، وذلك من حيث إن هذا ينطبق على الديانة التوحيدية الثالثة وعلى ثقافتها وحضارتها، وذلك يعني الأصولية أو التطرفية الإسلامية. وهذا الاختلاف الفارق الذي يذهب البعض، حتى بين النخب العربية والمسلمة، إلى صقله وتلميعه كاختلاف في الدرجة والطبيعة، إن هو إلا بدعة حديثة الولادة (معاصرة للصعود القوي للإسلام السياسي، انطلاقا من سنوات سبعينيات القرن الماضي، أي غداة نكبة حزيران/يونيو 1967 وبعدها الثورة الإيرانية في 1979.
نعلم ما لمطارق الإعلام بكل ضروبه من دور مؤثر خطير في قولبة الرأي العام وشحذه وتجييشه، يعضده في هذا ويقويه اليمين المتطرف وبعض وجوه اليمين التقليدي في أوروبا الغربية، بحيث يعدّون الإسلام في حد ذاته هو والإرهاب سيان، أو كوجهين لعملة واحدة، فيلزم تحجيمه ومحاربته.
وبعيد هذه الفترة، انتعشت الالتباسات المصطلحية وعلت سهومها في بورصة الخلط والتزوير، تغذيها أيادي التعتيم والترهيب والخوض في المياه العكرة، فانطلت تسمية "اسلاميزم" و"إسلاميست" على نظم وأحزاب وهيئات وجماعات وأفراد في العالم الإسلامي؛ وفي السلة نفسها ـ وهنا يكمن الخلل الفادح والوباء الأفدح ـ يُلقى بمختطفي الرهائن والمتشددين العنيفين من شتى الأصناف (أكمي، أنصار الدين، موجاوو، بوكو حرام، القاعدة، داعش، وغيرهم)، وأيضا بالإرهابيين والجانحين من واضعي العبوات الناسفة، ومفجري السيارات المفخخة وتجار المخدرات، وهلم جرا.
إن الإرهاب اللاتسامحي، من حيث التعريف الذي يجب البناء عليه، هو عمل من لا دين ولا قانون لهم (no faith no law)، حتى ولو ادعوا عكس ذلك؛ إلا أن مع الإعلاميين عموما في تغطياتهم الميدانية للحرب على الإرهاب أو عبر الإعلام المكتوب والسمعي ـ البصري، ينطبع الخطاب لديهم بتسمية تلك الجماعات أساسا بالإسلامية (أو الإسلاموية لا فرق). وعندما يبلغ عندهم هذا التوجه الطاغي حد التخمة والإتخام، تراهم ينوعون ـ والمعنى واحد ـ باستعمال كلمات: الراديكاليون تارة والجهاديون والسلفيون تارة. وهكذا نراهم مستميتين في تمريغ اسم الإسلام في أوحال العنف والإرهاب، كما لو أنهما من صلبه وإنتاجه.
ونعلم ما لمطارق الإعلام بكل ضروبه من دور مؤثر خطير في قولبة الرأي العام وشحذه وتجييشه، يعضده في هذا ويقويه اليمين المتطرف وبعض وجوه اليمين التقليدي في أوروبا الغربية، بحيث يعدّون الإسلام في حد ذاته هو والإرهاب سيان، أو كوجهين لعملة واحدة، فيلزم تحجيمه ومحاربته. ومن ثم ظهر مدٌّ إسلاموفوبي سافر، وأخذ في الترعرع والانتشار. ففي استفتاء للرأي في فرنسا لوكالة إبسوس ويومية لومند، يظهر أن 74% من المستجوبين يعدّون الإسلام (كذا!) ديانة لامتسامحة (بلوگ لومند 24 ـ01 ـ 2017).
أضف إلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، تصريحات ومواقف أحزاب وجماعات يمينية متطرفة في أوروبا، من أبرزها فرقة PEGIDA الألمانية التي تتظاهر ضد الإسلام نفسه جهرا وصراحة؛ هذا فضلا عما تقوم به في أوساط ثقافية أسماء متصهينة متنفذة من أدوار متقاطعة متكاملة، كأدلير وديل فال مثلا وهنري-ليفي وهولبيك وفنكنكروت، وغيرهم؛ فهذا الأخير الذي يعدّ القرآن "كتاب حرب"، يغذي بفكره وأحكامه المتشددة جماعات في العالم الإسلامي، ويسهم بنحو ما، في نشوء تطرفها وعدائها للغرب وحضارته، هذه الجماعات التي خصها المستشرق الأمريكي المتصهين برنار لويس بكتاب سماه صراحة عودة الإسلام (بلا ism) The return of islam؛ هذا إضافة إلى عرب الاسم والخدمة المجنسين أوروبيا والمدجنين الجدد، كالمؤدب صاحب كتاب مرض الإسلام (من دون isme) وصفاوي (المتعامل جهرا مع المخابرات الفرنسية)، الذي زايد على الجميع بابتداع نعت narcoislamistes (إسلاميو تجارة المخدرات)، وغير ذلك كثير! وكل هؤلاء في المحصلة إنما يؤججون نيران اللاتسامح والجهالات والتشنجات الصدامية العنيفة، التي تتصف بها الجماعات المغالية من الطرفين، وتقوى.
ومن ثم، إذا كان المطلوب هو توخي الوضوح والدقة؛ أي العقلنة في كل حوار تسامحي بين الأديان والثقافات، فإنه يتوجب الذهاب في معاكسة تيار المكرورات الاصطلاحية (التي لها ثقالة العادة)، ثم تسمية الأشياء قريبا ما أمكن من طبيعتها ووظيفتها، أي في حالتنا حصريا: التشدد والغلو اللذان نهى عنهما الإسلام السمح، ومتبنوه: المتشددون والغلاة الذين سموا منذ فجر الإسلام الخوارج، هذا لا سيما أن لا أحد يسمي مثلا متطرفي الديانتين الأخريين باسم judaistes من إرهابيي إرغون وهاغانا أو إيـﮕـل أمير قاتل إسحاق رابين، في حين أن إسلامبولي قاتل أنور السادات نُعت على الفور بالإسلامي(!)؛ وكذلك الشأن في المسيحية، إذ لا تطلق تسمية christianistes على إرهابييها في الماضي القريب ولا في الحاضر، وما أكثرهم!
ويحسن بهذا الصدد أن نؤيد ما ورد بقلم رئيس سنة الأمم المتحدة (2003) حول الحوار بين الحضارات، السيد جييادومينكو بيكو G. Picco، إذ قال: "ليس التاريخ هو الذي يقتل، وليست الديانة هي التي تغتصب النساء، وليست طهارة الدم هي التي تهدم البنايات... وحدهم الأفراد يقومون بمثل تلك الأفعال".
إن الإبقاء على الخلط السيمنتيكي (وهو عبارة عن مؤامرة متعمدة) بين الإسلام والإيديولوجيات الراديكالية التي تدعي الانتماء إليه ليدفع إلى اختزال بُعدهما الاختلافي الشاسعِ العميق في مجرد خيط رهيف، لا تتأخر الأحزاب والمجموعات الغربية اليمينية المتطرفة، فضلا عن شرائح الرأي العام، عن قطعه قصديا ومن دون احتياط يذكر، وخصوصا في فترات الأزمات والتوترات.
3 ـ التسامح وشرط الاستعراف (recognition)
إن الاستعراف (المبني على الاعتراف بالآخر وإرادة معرفته وترسيخ روابط التسامح معه)، لهو الترياق الأنجع ضد تصاعد الجهالات والكراهيات بين الأمم والجماعات، أي ضد كثرة المحن والصراعات الإقليمية أو العالمية، والتعليم هو أحد أكبر الأوراش، الذي يتسنى فيه مأسسة معرفة الآخر هوية وحضارة. وفي هذا الشأن، لقد كان للاستشراق تاريخ طويلٌ غني، رغم ما اعتوره أحيانا من توترات واضطرابات.
فمنذ الحملة النابوليونية على مصر (1798)، يجوز القول بأنه عرف مرحلتين مهمتين، أولاهما تمثلت في "جناح فكري لتجارة المجالات أو للتوسع السياسي" (حسب تعبير بليغ لجاك بيرك)، أي في عهد الغليان الاستعماري وإرادة القوة الأوروبية؛ وثانيهما برز حين تجدد في فترة ما بعد الاستعمار، أي إبان الاستقلالات السياسية المكتسبة؛ إلا أن هذا الاستشراق بشقيه يبدو اليوم وكأنه حقق آخر تظاهراته في أعمال مميزة ـ ولو أنها متفاوتة القيمة ـ لهملتون جيب ومونغومري واط وفون غرانباوم وجاك بيرك وماكسيم رودنسون وسنوك هورخرونيه وأندري ميكل وآخرين. ذلك أن الجيل الجديد من الأخصائيين في العالم العربي والإسلامي (مع استثناء بضعة أسماء)، يظهر قليل الاهتمام بأخذ الاستشراق التقليدي أو المجدد على العاتق، وإمداده بالمزيد من التطور والتعمق.
إن الاستعراف (المبني على الاعتراف بالآخر وإرادة معرفته وترسيخ روابط التسامح معه)، لهو الترياق الأنجع ضد تصاعد الجهالات والكراهيات بين الأمم والجماعات، أي ضد كثرة المحن والصراعات الإقليمية أو العالمية، والتعليم هو أحد أكبر الأوراش، الذي يتسنى فيه مأسسة معرفة الآخر هويةً وحضارة.
ومن ثمة، نرى ممثليه متوجهين في معظمهم إلى الدراسات الأنثروبولوجية والسياسة والمونوغرافيات القطاعية، كثيرا ما يتحولون إلى خبراء في العصائبيات (segmentarism) والذهب الأسود والجيوستراتيجية والحركات المسماة "إسلاموية". فهل نستبشر خيرا بهذا التحول أو نتذمر منه؟ إنه لربما من السابق لأوانه إعطاء إجابة محددة، ولو أن بعض مؤشراته تفتقر إلى ضمانات الكفاءة والعمق، لاسيما وأن معرفة فاعليه بالحضارة الإسلامية، باتت موسومة بالاختزالية والضمور.
وهكذا، فخبراء "الإسلاميزم" مثلا، مع أنهم ينكبون على موضوعهم معظم وقتهم، فلكأنما تربطهم به علاقة الانجذاب والنفور. منجذبين، تراهم يهتمون أيما اهتمام باتجاهاته الصلبة، فيبرزونها على حساب ما عداها؛ نافرين منه، تراهم يؤلفون كتبا في فشل الإسلام السياسي، وأفول "الإسلاميزم" (أوليڤيي رووا، جيل كيبل...). وفي الحالتين معا، فإن خبراءنا هؤلاء الذين لا عيون لهم إلا لموضوع أعمالهم وأيامهم، ينتهون إلى تحييد النخب الديمقراطية والحداثية ووضعهم بين أقواس، كما لو أنهم ليسوا ممثلين أو دالين، علاوة على أن قطاعات كاملة من ثقافة الإسلام "الدنيوية" ومن التاريخ المحسوس للمجتمعات المدروسة، لا تشكل عندهم (وأكثر منه لدى الرأي العام الغربي) إلا ثقبا أسود، متعدد الأشكال والأبعاد، مولدا في مجمل الأحوال لمواقف الطمس واللامبالاة ولسلوكيات اللاتسامح السافرة.
4 ـ التسامح وشرط أنسنة العولمة
إن إرادة القوة الهيمنية الغربية ـ والأمريكية تخصيصا ـ قد حللها وانتقدها باحثون مقتدرون، أمثال هـ.زين و م. هوورد و ر. بارني وإ. سعيد و ن. شومسكي و غ. كولكو وج. نيي، وغيرهم ممن هم أحرار في أن يفكروا وينشروا، لكن من دون أن يجدوا آذانا صاغية عند السياسيين والفاعلين الأمريكيين؛ ولتلك الإرادة منظِّروها وممذهبوها، كالشهيرين إعلاميا فرنسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون (علاوة على وزراء متقاعدين، كهنري كيسنچر وزبيغنييف بريزنسكي، والمحافظين الجدد إبان حكم آل بوش، أمثال بول وولفوويتز وكارل روڤ وريشارد بيرل.
ففوكوياما المعروف بكتابه نهاية التاريخ والإنسان الخاتم، تبنى دعوة جورج بوش الأب غداة حرب الخليج الثانية إلى نظام عالمي جديد، فأعطاها وعاءها الإيديولوجي (وإلى حد ما الفلسفي)؛ وقد قيل وكتب الشيء الكثير في الموضوع. وعن هذا المؤلف يسجل هنتنغتون بحق أنه نتاح "الغبطة الحماسية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، وولّدت وهم قيام الانسجامية"، ويختم بهذا الحكم؛ "إن البراديگم المؤسس على فكرة اتساقية العالم، يتعسف كثيرا على الواقع بحيث لا يصلح لنا كدليل".
وحسبنا هنا أن نحيل على مشهد يقول ما يكفي عن أسِّ الكتاب الإيديولوجي وذهنية صاحبه المتأثرة بملحمة غزو الغرب الأمريكي (فار-ويست)، وهو مشهد يحوي العديد من عناصر الديكور الهوليودي: رحلة قافلة ضخمة من العربات نحو المدينة، سلسلة جبال يلزم اجتيازها، هجمات الهنود الحمر، عربات مشتعلة، معارك، مخيمات، انسحابات، إلخ. لكنْ، وبموجب النهاية السعيدة (هابِّي آند)، فإن «غالبية العربات ستمضي في رحلتها البطيئة إلى المدينة، وسيصل معظمها إليها». والمدينة هنا رمز لطريقة الحياة الأمريكية (American way of life)، وهي أيضا طريقة في التفكير (American way of thinking).
أما هنتنغون في أطروحته الشهيرة حول صدام الحضارات، فإنه يعلمنا أن النزاعات بعد نهاية الحرب الباردة (1948 ـ 1986) لن تكون اقتصادية أو إيديولوجية بل ثقافية، أي بين مجموعات تقوم بينها خطوط فصل (أو كسر) حضارية. والحضارات عنده، على وجه التقريب، سبع: الصينية واليابانية والهندوسية والإسلامية والغربية والأمريكية اللاتينية وربما الأفريقية بتعبيره[!].