"عمليتي
في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم
آجلاً، وأعلم أنني لم أحرر
فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا واضع هدفا أمامي؛ أن
تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي"..
كانت هذه وصية الشهيد "
عدي التميمي" التي كتبها بخط يده، بعد أن
استطاع رغم صغر سنه القفز على كامل المنظومة الأمنية لدولة تدعي أنها دولة عظمى وأن
جيشها لا يقهر. لقد تمكن من اختراق حاجز في "شعفاط" شمال القدس،
متخطياً حراسه من الجنود الصهاينة الذين يذيقون الفلسطينيين الواقفين في طوابير
للعبور كأس الذل والهوان، فصوّب بندقيته تجاه الجنود، فقتل مجندة وأصاب ثلاثة جنود
آخرين، وتمكن من النجاة منهم وذهب حراً طليقاً بعيداً عن أعينهم.
جُن جنون المحتل الصهيوني، واستمر اثني عشر يوماً في البحث عن شاب حليق
الرأس مرتكب الهجوم، كما وصفه الإعلام الصهيوني. وفرض
الاحتلال حصاراً شديداً على مخيم
"شعفاط" والمناطق القريبة منه، فسارع الشباب الفلسطينيون في هذه المناطق
إلى الحلاقين وقاموا بحلق رؤوسهم تماماً (
حلاقة عالموس)، ورفض الحلاقون أخذ أجرتهم
في لفتة شديدة الدلالة. فقد تضامن الجميع معه حتى يصعب على قوات الاحتلال العثور
عليه، كما أحرقوا كاميرات المراقبة، مع تكثيف ذكر الاسم عبر الرسائل والمكالمات
لتضليل المخابرات الصهيونية..
لم يكن عدي ولا هؤلاء الشباب ممن عاشوا في أرض فلسطين التاريخية ولعبوا ومرحوا فيها قبل حرب 1948 ويحملون ذكرياتهم الجميلة في وجدانهم، بل حملوا مأساتها في صدورهم.. ولا عاصروا اتفاقية أوسلو، ولكنهم نبت خرج من رحم هذه الأرض
لم يكن "عدي التميمي" مطارداً، بل طارد قوات الاحتلال ولم يهرب
منها، بل
هاجمها مرة أخرى قرب مستوطنة "معاليه أدوميم" شرقي مدينة
القدس، حيث أصاب حارس أمن صهيونيا قبل أن يشتبك مع عناصر الجيش الصهيوني المدججين
بالسلاح ويقاتلهم حتى آخر رصاصة وإلى ما بعد النفس الأخير..
لقد أظهرت الفيديوهات التي انتشرت عقب استشهاد "عدي التميمي" أنه
ظل يطلق الرصاص بينما ينهال عليه الرصاص من كل حدب وصوب وتخترق جسده النحيل، ولم
يضع يده على جسده الجريح والدماء تنزف منه، ولكنه قاتل حتى فرغ مسدسه من الرصاص. وفي
أثناء ملئه من جديد ليواصل إطلاق النار، جاءته رصاصة في وجهه، وهي الرصاصة الوحيدة
التي وضع عدي يده على مكانها من بين مئات الرصاصات التي اخترقت جسده.
توافد على بيت الشهيد "عدي التميمي" آلاف الفلسطينيين تضامناً مع
هذه الأسرة المكلومة وسط مظاهر الفخر، وإن لم يخل من الحزن أيضا.
لم يكن عدي ولا هؤلاء الشباب ممن عاشوا في أرض فلسطين التاريخية ولعبوا
ومرحوا فيها قبل حرب 1948 ويحملون ذكرياتهم الجميلة في وجدانهم، بل حملوا مأساتها
في صدورهم.. ولا عاصروا اتفاقية أوسلو، ولكنهم نبت خرج من رحم هذه الأرض التي تشهد
تربتها أنها عربية وتجري في عروقها الدماء الفلسطينية.
لقد توهم الصهاينة الأوائل بعد احتلالهم لفلسطين، أن الأمر قد استتب لهم وأنهم
سيسعدون بالأرض التي سرقوها، وأن كيانهم السرطاني المزروع على أرض غريبة عليهم
وعلى مَن يحيطون بها، سيستمر ويدوم إلى الأبد. وعبرت عن ذلك "جولدا مائير"
بمقولتها الشهيرة: "إن الكبار سيموتون والصغار سينسون"، لكن الكبار احتفظوا
بمفاتيح بيوتهم المسروقة وسلموها لصغارهم الذين لم ينسوا ولن ينسوا، وسيظلون
يتوارثون هذه المفاتيح جيلا بعد جيل.
لم يكن عدي ينتمي لأي فصيل فلسطيني مقاوم، شأنه في ذلك شأن الخمسة الذين
قاموا منذ أشهر بعمليات في تل أبيب، وبئر السبع، والخضيرة، وبني براك. وقد أسفرت
تلك العمليات الأربع عن مقتل 14 إسرائيليا وإصابة ما لا يقل عن 20 آخرين. لقد نجح
عدي وهؤلاء الخمسة في اختراق منظومة الأمن الصهيوني ونفذوا عملياتهم، لأنها لم تكن
من تخطيط تنظيم أو حركة مقاومة فلسطينية، ولكنها جاءت بمبادرات فردية تذكرنا
بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، كونها جميعا ضربت أهدافاً في أراض فلسطينية محتلة
عام 48، اعتبرها الكيان الصهيوني داخل حدوده الآمنة..
جيل جديد يؤكد أنه عاقد العزم على النضال من أجل تحرير فلسطين، وأنه سوف يأخذ منحى مختلفا، وقد يكون ذلك بمثابة بديل عن الفصائل التاريخية، مثل حركة فتح، والجبهتين الشعبية والديمقراطية، وغيرها من الفصائل التي توارت بالتزامن مع توقيع الاتفاقات السياسية والأمنية
الملاحظ في كل العمليات النوعية التي
جرت مؤخراً استخدام السلاح الناري الآلي، وأنها لم تعد تعتمد على الأحزمة الناسفة
كما كان يحدث في الماضي، كما أصبح التركيز على عناصر الجيش والشرطة وحرس الحدود.. من
القدس والضفة الغربية إلى من مخيم "شعفاط"، ومن جنين التي فشلت قوات
الاحتلال في اقتحامها مرات عديدة، إلى نابلس التي لا تزال قوات الصهاينة تحاصرها
بحثاً عن قادة "عرين الأسود"، المسؤول عن العديد من العمليات، وهو فصيل
جديد من فصائل المقاومة بلا قيادة معلنة، وشبابه يخفون وجوههم وراء اللثام
الفلسطيني، ويعلقون شرائط حمراء على فوهات البنادق، رمزاً لامتناعهم عن التورط في
أي خلاف فلسطيني، ويوجهون دعوة لتوحد الفلسطينيين في عمل شعبي مسلح لكسر الاحتلال
وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر..
هؤلاء الشباب الفلسطينيون يريدون
إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، كقضية "تحرر وطني"، وليست قضية
للمساومة والمواءمات السياسية التي تضيع في دهاليز المفاوضات التي لا تنتهي..
جيل جديد يؤكد أنه عاقد العزم على النضال من أجل تحرير فلسطين، وأنه سوف
يأخذ منحى مختلفا، وقد يكون ذلك بمثابة بديل عن الفصائل التاريخية، مثل حركة فتح،
والجبهتين الشعبية والديمقراطية، وغيرها من الفصائل التي توارت بالتزامن مع توقيع
الاتفاقات السياسية والأمنية..
أصبح "عدي التميمي" أيقونة لانتفاضة ثالثة منتظرة، في مواجهة القوة
العسكرية الصهيونية الجبارة التي تنتشر في كل مدن الضفة الغربية، باعتراف القيادة
العسكرية نفسها التي صرحت بأن 55 في المئة من القوات البرية للجيش الصهيوني تنتشر
حالياً في مدن الضفة الغربية في مواجهة الشباب الفلسطيني تحسباً لانتفاضة جديدة؛ لن
تمنعها السلطة في رام الله، سلطة التنسيق الأمني المقدس، لأنها انتفاضة شبابية
عفوية وبلا قيادة واضحة يمكن أن ترضخ لضغوط السماسرة العسكرية والمالية في داخل
فلسطين المحتلة وخارجها، وتأتي مكملة للفصائل "الصاروخية" في غزة.