هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
سيذكر التاريخ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي احتفل بعيد ميلاده السبعين أمس، بأنه ممن عملوا على إعلاء مجد بلاده في صراعها التاريخي مع الغرب، وذلك من وجهة نظر الوطنيين الروس تحديدا، الذين يتقدمهم بوتين نفسه، الذي رأى في انهيار الاتحاد السوفييتي “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الماضي”.
إلا أن التاريخ سيذكره أيضا كشخص تسبب بإراقة الدماء ومقتل آلاف الروس والأوكرانيين، نتيجة قراره بغزو كارثي لهذا البلد بداية العام الحالي، ومؤخرا ضم أربعة من الأقاليم التابعة له إلى روسيا لتأمين مصالح بلاده على البحر الأسود ضمن أولويات أخرى.
وفي ميلاده السبعين، فإن نظرة على حياة ضابط المخابرات السوفييتية (كي جي بي) السابق، تقدم الكثير من الإضاءات حول فكر الرجل، الذي سطر اسمه كأحد أهم القادة السياسيين والعسكريين في القرن الواحد والعشرين.
ومنها أنه يؤمن بالإرادة الحازمة المدعومة بالقوة في وجه خصومه، وهذا كان دافعه عندما قرر المواجهة العسكرية مع أوكرانيا، فهو يعلم أن الرد الغربي لن يتجاوز العقوبات الاقتصادية والتنديد الدولي، وذلك لامتلاكه قوة الردع النووي، التي تتوجس منها واشنطن، وترتعب منها العواصم الأوروبية.
ولمن لا يعلم، فقد اتبع بوتين الاستراتيجية نفسها عندما قرر الصدام مع جورجيا في العام 2008، الذي جاء نتيجة توجه الأخيرة وقتها للانضمام إلى حلف الناتو، تماما كما كانت تنوي أوكرانيا، وكان في ذلك، من وجهة نظر بوتين، تجاوز للخطوط الحمراء في عقيدة الأمن الوطني الروسي، فما كان إلا أن حطم جيشه القوات الجورجية، وفرض سلاما مهينا على الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي وقتها.
ومنها، أنه قد يبدو مستمعا جيدا، لكنه يضع الجميع، بمن فيهم مستشاروه، في دائرة الظلام والحيرة لما ينوي فعله، معتمدا في ذلك على عنصر المفاجأة في القرار والمباغتة في التنفيذ.
ومنها، أنه لا يقبل أيديولوجيا باستمرار الولايات المتحدة بأحاديتها القطبية في العالم، وهذا ما يدفعه إلى خلق مناطق نفوذ روسي في مختلف أرجاء العالم، وهو ما ترجمه في التدخل الروسي الحاسم في سوريا لحماية النظام القائم، ومن ثم إيجاد أوراق لابتزاز الغرب عند الحاجة.
ومنها، أنه يؤمن بضرورة التحديث الدائم لقدرات الجيش الروسي، وإعطاء أولوية للتصنيع العسكري، وذلك لضمان قوة الردع، وأيضا هيمنة الأسلحة الروسية في العالم لأسباب سياسية والأهم اقتصادية.
ومنها، أنه يولي اهتماما خاصا لحليفين في العالم، وهما الصين وإيران، ذلك أن التكامل الاقتصادي مع المارد الصيني سيحميه من أخطار الانهيارات الاقتصادية، فيما التنسيق السياسي والعسكري مع طهران وأذرعتها سيضمن له ابتزاز الغرب بطرق مختلفة، وإيجاد نفوذ له في الشرق الأوسط، وهي المنطقة الأهم استراتيجيا في الفكر الأمريكي، لوجود منابع النفط والغاز فيها وتوسطها لحركة الملاحة العالمية.
ومنها، أنه يثق بقوة قطاع النفط والغاز الروسي لممارسة الضغوط القاسية ضد العواصم الأوروبية، وهو ما نراه واقعا الآن في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وهو في كل هذا يسعى إلى إضعاف حلف الناتو من خلال خلق شروخ اقتصادية، وصولا إلى اهتزاز الثقة والخلاف بين أعضائه.
تاريخ روسيا الحديث مرتبط بقوة بتاريخ بوتين، الذي سيعمل جاهدا خلال الأعوام القليلة المقبلة على إعادة مجد روسيا العظمى بكل السبل، وقد يذهب بفكره إلى أبعد مما يتصور البعض. فصناعة التاريخ بالنسبة له مرتبطة بالقوة، وهي سلاحه حتى الرمق الأخير، دبلوماسيا في البداية، وعسكريا في النهاية إن لم تنجح الأولى. وهو بكل ذلك مدفوع بانعدام الثقة بالغرب وقادته، بعد أن أمضى نحو ثلث حياته متربعا على عرش الكرملين. وقد تكون معركته المقبلة تعزيز نفوذ الأسطول العسكري البحري الروسي، من حاملات طائرات وسفن حربية وغواصات في أرجاء العالم.
ولمن أراد المزيد لفهم ما يدور في باطن بوتين، فما عليه إلا أن يقرأ طروحات فيلسوف القومية الروسية وعالم السياسة والاجتماع، ألكسندر دوغين، الذي يراه البعض “عقل بوتين الخفي”، والمؤسس الحقيقي للمذهب البوتيني في العالم.