هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن أحد يتوقع أن المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وهي محكمة قارية أنشئت وفق بروتوكول بين 32 دولة أفريقية عام 1998 دخل حيز التنفيذ في 2004، ستتحول إلى واحدة من المؤسسات الفاعلة في المحيط الأفريقي والدولي بالنظر إلى ما تحظى به المؤسسات القضائية دوليا فضلا عن ملف حقوق الإنسان الذي يتصدر اهتمامات العاملين في مجال منظمات المجتمع المدني.
والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب هي الذراع القضائية للاتحاد الأفريقي وهي واحدة من ثلاث محاكم إقليمية لحقوق الإنسان إلى جانب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومحكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان. وقد تم تأسيسها لحماية حقوق الإنسان والشعوب في أفريقيا بشكل أساسي من خلال إصدار الأحكام.
ثماني دول أفريقية فقط (بينها تونس) أودعت لدى المحكمة، التي يقع مقرها الدائم في أروشا بجمهورية تنزانيا المتحدة، إعلانات الاعتراف باختصاص المحكمة بتلقي قضايا مباشرة من المنظمات غير الحكومية والأفراد، وهو ما دفع محاميا وناشطا حقوقيا تونسيا إلى اللجوء إليها ليس دفاعا عن قضية شخصية فردية، وإنما عما رآه انتهاكا حقوقيا ودستوريا خطيرا اقترفه الرئيس التونسي قيس سعيد بحق تونس ودستورها وشعبها.
المحامي التونسي إبراهيم بلغيث، مستقل ولا يُعرف له انتماء سياسي مما أعطى مسعاه القضائي معنى سياسيا في ظل أزمة سياسية مستمرة تعيشها تونس منذ 25 يوليو 2021 حين بدأ الرئيس سعيد فرض إجراءات استثنائية بينها حل البرلمان ومجلس القضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وتمرير دستور جديد للبلاد في 25 يوليو الماضي".
قرار مفاجئ
قضت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في قرارها عدد 2021/017 بإلغاء الأمر الرئاسي 117 الذي أصدره الرئيس التونسي قيس سعيد بهدف الانفراد بالحكم والاستحواذ على كافة الصلاحيات لإدارة السلطة في البلاد، وهو ما اعتبرته المعارضة التونسية في حينه البيان الأول للانقلاب على الشّرعية. وبررت المحكمة قرارها بإلغاء الأمر 117 بمخالفته للدستور وقوانين البلاد ودعت إلى ضرورة العودة إلى الديمقراطية الدستورية.
وإلى جانب الأمر الرئاسي 117 قضت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب ببطلان المراسيم الرئاسية المتولدة عنه، مثل المرسوم عدد 69 الذي أعفى بموجبه كلّ من رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزيرة العدل بالنيابة من مهامهم، والمرسوم عدد 80 المتعلّق بحلّ مجلس نواب الشّعب ورفع الحصانة عن رئيسه وأعضائه. ويأتي هذا الحكم عقب تقدّم المحامي التّونسي إبراهيم بلغيث بعريضة للمحكمة الإفريقية ضد الجمهورية التّونسية لانتهاك حقوقه المكفولة في مواد الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب.
أوضحت المحكمة في نصّ قرار الحكم أن الرئيس التّونسي قيس سعيد يحقّ له دستوريا اتخاذ التّدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، والتي قد يكون من بينها إصدار أوامر رئاسية لمجابهة حالة الخطر الدّاهم المهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ممّا يتعذّر معه السّير الطبيعي لدواليب الدّولة، ولكن هذه السّلطة المخوّلة لرئيس الجمهورية مقيّدة بالشروط الموضوعية، والإجراءات المنصوص عليها في الفصل 80 من الدستور التّونسي، والذي ينصّ على ضرورة استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية قبل الإقدام على اتخاذ التّدابير الاستثنائية. وهو ما تجاهله قيس سعيد، ويعدّ إخلالا كبيرا في نظر المحكمة، يتعلق بالإجراءات المطلوبة دستوريا لفرض التدابير الاستثنائية. والرئيس التّونسي تجاوز كل ذلك ـ في انتهاك صارخ لدستور البلاد ـ إلى احتجاز رئيس الحكومة في القصر الرئاسي بقرطاج، وقام بحلّ البرلمان الذي من المفروض أن يظلّ في حالة انعقاد دائم لمتابعة الأوضاع في البلاد وهي تحت تهديد الخطر الداهم.
دلالات حكم المحكمة الإفريقية
ينص حكم المحكمة الإفريقية على بطلان الأمر الرئاسي 117 والمراسم المتولدة عنه لمخالفة دستور البلاد وقوانينها، وهذه اللغة القانونية تعني سياسيا غياب الشّرعية عن إجراءات قيس سعيد، وانتهاكه لدستور البلاد، وانقلابه على المؤسسات الشرعية، ما يفقده هو نفسه الشّرعية كرئيس للبلاد ليمثل مجرّد "سلطة الأمر الواقع"، المستقوية على الشّعب بالقوّة الصّلبة.
كما أنه ورد في نصّ حكم المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب أنّه "كان على الدّولة التونسية أن تنظر في تدابير أقلّ تقييدا للتعامل مع الأوضاع، قبل اتخاذ تدابير استثنائية صارمة، كتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة البرلمانية عن كافة أعضائه المنتخبين من طرف المواطنين، في إطار ممارسة حقوقهم في المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلادهم". مما يعني أن حلّ البرلمان يعد انتهاكا لحق الشّعب في المشاركة في أدارة الشّأن العام من خلال ممثليه في مجلس نواب الشعب، وهو ما يخالف المادة 13 من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب، التي تنص على أن "لكلّ المواطنين الحق في المشاركة بحرية في إدارة الشؤون العامة لبلدهم، سواء مباشرة أو عن طريق ممثلين يتم اختيارهم بحرية، وذلك طبقا لأحكام القانون".
وبالإضافة إلى انتهاك حق الشّعب في المشاركة في إدارة الشأن العام، أعلنت المحكمة في قرار حكمها أن الدّولة التونسية "أخفقت في إرساء المحكمة الدّستورية لإنفاذ حقوق مواطنيها في التّقاضي، وتمكينهم من الطّعن في دستورية الأوامر الرئاسية، التي انتهكت حقوقهم في المشاركة في إدارة الشؤون العامة"، وهو حق تكفله المادة السّابعة من الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب، والتي تنص على أن "حق التقاضي مكفول للجميع، ويشمل هذا الحق في اللّجوء إلى المحاكم الوطنية المختصّة بالنظر في عمل يشكّل خرقا للحقوق الأساسية المعترف بها"، ولذلك ورد في نص الحكم للمحكمة الإفريقية دعوة للدّولة التّونسية "لاتخاذ كافة الإجراءات الضرورية خلال مدى زمني لا يتجاوز السّنتين، لإرساء المحكمة الدستورية، وإزالة كافة العوائق القانونية والواقعية التي تحول دون ذلك".
ينص حكم المحكمة الإفريقية على بطلان الأمر الرئاسي 117 والمراسم المتولدة عنه لمخالفة دستور البلاد وقوانينها، وهذه اللغة القانونية تعني سياسيا غياب الشّرعية عن إجراءات قيس سعيد، وانتهاكه لدستور البلاد، وانقلابه على المؤسسات الشرعية، مما يفقده هو نفسه الشّرعية كرئيس للبلاد ليمثل مجرّد "سلطة الأمر الواقع"، المستقوية على الشّعب بالقوّة الصّلبة.
أكدت المحكمة في قرار حكمها أن التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد "لم تكن مناسبة للغرض الذي اعتمدت لأجله"، فالتدابير الاستثنائية تُتّخذ لمواجهة الخطر الداهم، الذي يهدّد أمن وسلامة واستقلال البلاد، ويعطل السّير الطبيعي لمؤسسات الدولة، وبيّن دستور البلاد الخطوات المطلوبة لمواجهة الخطر الداهم، والتي تتّجه كلّها لتوحيد جهود الرئاسات الثّلاث ـ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان ـ كممثلين عن السّلطتين التّنفيذية والتّشريعية، لإدارة المرحلة الاستثنائية عبر الانعقاد الدائم لمجلس نواب الشّعب، وعدم مساءلة الحكومة خلال تلك الفترة التي تمرّ بها البلاد، بينما اتّجهت إجراءات قيس سعيد بخلاف ذلك، إلى المواجهة مع السّلطة التّشريعية بحلّ البرلمان، والمواجهة مع الحكومة بحلّها وإعفاء رئيسها واحتجازه (تحدثت بعض وسائل الإعلام العالمية عن تعرضه للعنف من قبل عناصر من المخابرات المصرية) داخل قصر قرطاج.
لقد أصدر قيس سعيد في البداية قرارا بتعليق عمل البرلمان لمواجهة "الخطر الدّاهم"، ثم أعلن لاحقا حلّ البرلمان ورفع الحصانة عن رئيسه والنّواب، ليتبين أن الخطر الداهم بالنّسبة للرّئيس كسلطة تنفيذية هو البرلمان نفسه كسلطة تشريعية، وحتى بعد حلّ البرلمان الذي من المفروض أن الخطر قد زال بحلّه، لم ترفع التّدابير الاستثنائية كما يقتضي الدّستور، وإنمّا مضى الرئيس قيس سعيد في صياغة دستور جديد، بديلا عن الدّستور الذي أقسم على احترامه وتمّ انتخابه للسّهر على حسن تنفيذه.
لم يكن قرار المحكمة مفاجئا بالنّظر إلى تاريخها في اتخاذ قرارات شجاعة في مواجهة الانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان والشّعوب في إفريقيا، ما منحها تقديرا دوليا محترما، كما أن قراراتها تتوافق مع مواقف أغلب الأكاديميين ورجال القانون الدستوري في تونس، الذين رفضوا الإقرار بدستورية التّدابير الاستثنائية، كما رفض عمداء كليات الحقوق وأساتذة القانون الدّستوري المشاركة في اللّجنة الاستشارية لصياغة الدستور الجديد بديلا عن دستور 2014، بل إن رئيس اللّجنة الاستشارية لصياغة الدّستور الجديد العميد الصّادق بلعيد، الذي سار كعادته في ركاب السّلطة لأسباب لا علاقة لها بالقانون الدستوري - وإنمّا لأسباب أيديولوجية وطمع في عضوية المحكمة الدّستورية كما يقول البعض- فقد تبرّأ من مشروع الدّستور الجديد الذي انفرد قيس سعيد بصياغته متجاهلا اللجنة الاستشارية، في خطوة مهينة لرئيس اللجنة وأعضائها، تكشف هوس الرئيس قيس سعيد بالتّسلّط والانفراد بالقرار - يعتقد البعض أن قيس سعيد يريد أن يثبت جدارته في مجال القانون الدّستوري بعد رحلة طويلة كأستاذ مساعد، بتخليد اسمه في تاريخ البلاد من خلال كتابة دستورها الجديد.
تبعات قرار المحكمة الإفريقية
بموجب القانون الدّولي فإنّ تونس ملزمة بتنفيذ حكم المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب، في سياق الالتزام بتنفيذ المعاهدات والاتفاقيات الدّولية التي صادقت عليها الدّولة التونسية، ثم إن العلاقات الدّولية تقوم على مبدأ استمرارية الدّول، فالمعاهدات والمواثيق الدّولية التزامات دولية يجب على ممثل الدّولة تنفيذها مهما كانت هويته. وتونس صادقت على الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب الذي إجازته القمة الإفريقية في دورتها 18 في العاصمة الكينية نيروبي سنة 1981، وتنص مقدّمة الميثاق على أنّه يهدف إلى "تثبيت الدّيمقراطية في الدّول الإفريقية، والتّذكير بما ينصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما تنصّ عليه قواعد وقوانين الأمم المتّحدة بشأن حريات الشّعوب وحقوق الإنسان". كما تنصّ المادة الأولى من الميثاق على ما يلي: "تعترف الدّول الأعضاء في منظمة الوحدة الإفريقية ـ الأطراف في هذا الميثاق ـ بالحقوق والواجبات والحريات الواردة فيه، وتتعهّد باتخاذ الإجراءات التّشريعية وغيرها من أجل تطبيقها".
وبموجب هذا الميثاق الإفريقي اعتمدت الدّول الأعضاء في منظمة الوحدة الإفريقية في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو سنة 1998 بروتوكول المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب، الذي دخل حيز التّنفيذ سنة 2004. وتتكون المحكمة الإفريقية من 11 قاضيا منتخبين من قبل الاتحاد الإفريقي، من بين المرشّحين الذين ترشّحهم الدّول الأعضاء. وجاء في التّعريف بمهام المحكمة أنّها تختصّ "بالنّظر في جميع القضايا والنّزاعات، التي ترفع إليها بخصوص تفسير وتطبيق الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب، وكل صك آخر يتعلق بحقوق الإنسان صادقت عليه الدّولة المعنية".
لقد حظيت المحكمة بمصادقة 31 دولة إفريقية، من بينها دول عربية مثل الجزائر وليبيا وموريتانيا وكذلك تونس، التي وقّعت على بروتوكول المحكمة سنة 2007، وبعد الثّورة (سنة 2017) أودعت تونس لدى مفوضية الاتحاد الإفريقي إعلان موافقتها باختصاص المحكمة بتلقي الدعاوى من المنظّمات غير الحكومية والأشخاص، لتنضمّ تونس بذلك إلى 7 دول إفريقية وافقت على هذا الاختصاص للمحكمة، وهي بوركينافاسو وجامبيا وغانا وغينيا بيساو ومالي وملاوي والنّيجر.
ونظرا لمكانة القضاء التّونسي على المستوى الإفريقي والدّولي، فقد كان لتونس تمثيل في الهيئة القضائية للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب، حيث أٌعيد انتخاب القاضي رافع بن عاشور عن إقليم الشّمال الإفريقي لدورة جديدة في عام 2022، خلال اجتماعات المجلس التّنفيذي لوزراء الخارجية الأفارقة، والتي تنافس فيها مرشحون من 7 دول إفريقية.
ومع كل ما سبق من تذكير بالقانون الدّولي، وواجب الدّول الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدّولية، فليس من المنتظر أن ينفّذ قيس سعيد قرار المحكمة الإفريقية، فهو في نظره غير ملزم بالتزامات "العشرية السّوداء" ـ 10 سنوات بعد الثورة ـ التي وافقت على اختصاص المحكمة الإفريقية بتلقي الدّعوات من الأشخاص، كما هو الشأن في هذه القضية المرفوعة من قبل المحامي التّونسي إبراهيم بلغيث.
كما أن الرئيس قيس سعيد لا يحترم تعهداته شخصيا، حيث انتهك دستور بلاده الذي أقسم على احترامه. ونقض عهده مع الشّعب الذي انتخبه لحماية الدّستور كأي رئيس للجمهورية، واستغل موقعه في رئاسة الجمهورية لفرض مشروعه السّياسي، الذي لم يقترحه على الشّعب ضمن برنامجه الانتخابي، ولا انتخب من أجله أو من أجل تغيير النّظام السّياسي للبلاد.
ومن غير المنتظر أن ينفذ قيس سعيد قرار المحكمة الذي ينزع الشّرعية عن إجراءاته، وينسف مشروعه في الاستحواذ على السّلطة من خلال نظامه القاعدي الذي يريد فرضه على الشّعب، وقد مضى فيه أشواطا كبيرة، بإجراء الاستفتاء الذي لم يشارك فيه سوى ربع المسجلين، وإعلان دستوره الجديد الذي دخل حيز التنفيذ، وهو يستعد اليوم لإجراء انتخابات تشريعية في شهر ديسمبر المقبل ـ أعلن 11 حزبا تونسيا مقاطعتهم لها ـ فمن غير الوارد التراجع عن كل هذه الخطوات، تنفيذا لقرار محكمة إفريقية.
ومع أن المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشّعوب لا تملك آلية لفرض تنفيذ قراراتها على نظام قيس سعيد، غير أن الهيئات الحقوقية الدّولية ستأخذ قرار المحكمة الإفريقية بعين الاعتبار، واعتماده حجّة على انتهاكه لحقوق المواطنين في إدارة شؤون بلادهم، وستواصل الضّغط دفاعا عن الحقوق والحريات، وكذلك الشّأن بالنّسبة للهيئات القضائية الدّولية التي سيمثل حكم المحكمة الإفريقية بالنسبة لها سابقة قضائية تستأنس بها في الحكم.
يمثل حكم المحكمة الإفريقية خيبة أمل قوية لشخص الرئيس قيس سعيد المهووس بالتّاريخ، والذي يحلم بتسجيل اسمه في تاريخ تونس بصياغته لدستور "الجمهورية الجديدة"، فاستعجلت عليه المحكمة حكم التّاريخ، وسجّلت في صفحاته الأولى ـ ومن الآن ـ لا شرعية إجراءاته، وانقلابه على دستور البلاد وانتهاكه لقوانينها، بما يجعله في كتب التّاريخ مجرّد انقلابي صغير مغتصب للسّلطة، عبر آليات الكذب والخداع والحنث باليمين.
إنّ تبعات قرار المحكمة الإفريقية تتجاوز الجانب القانوني والحقوقي إلى الجانب السّياسي وعلاقات تونس الدّولية، خاصة مع محيطها الإفريقي. فإلى جانب الدّعم القوي الذي يقدّمه حكم المحكمة لقوى المعارضة التّونسية، بسحب الشّرعية عن إجراءات قيس سعيد الاستثنائية، والتي تصفها المعارضة بأنها إجراءات انقلابية. فإن الحكم يحرج نظام الرئيس قيس سعيد دوليّا، وقد تسلّمت الأمم المتّحدة نسخة من نص الحكم، ومن المنتظر أن يكون للحكم أثر في حجم المشاركة الإفريقية في القمة الـ 18 للفرنكوفونية التي ستعقد في تونس يومي 18 و19 نوفمبر المقبل.
كما أن الهيئات السّياسية والمالية الدّولية ستكثف من ضغوطها على نظام قيس سعيد والتّدخل في الشأن الداخلي للبلاد، مستغلّة الوضع اللاّدستوري القائم، لفرض إرادتها وحماية مصالحها بما لا يخدم المصلحة الوطنية، وهو مآل كلّ نظام للحكم ينقلب على إرادة شعبه، فيفقد بذلك شرعيته ويخضع للابتزاز، ويضطر للاستقواء بالخارج من أجل الاستمرار في الحكم، وتقديم كلّ التنازلات من أجل ذلك.
بالإضافة إلى ما سبق من آثار سياسية لحكم المحكمة الإفريقية تتجاوز الأثر القانوني والحقوقي، فإن للحكم أثر اعتباري يسيئ إلى سمعة تونس ومكاناتها في العالم بأثر من سلوك شخص واحد، بعد أن كانت محلّ أعجاب العالم بأثر من ثورة الشعب ضد الاستبداد، وصياغة دستور معاصر نال تقدير العالم الحرّ، وإجراء أكثر من انتخابات نزيهة وشفافة حازت ثقة المجتمع الدّولي، فنالت تونس بموجب كلّ ذلك جائزة نوبل للسّلام.
مع تاريخ تونس المتقدّم في مجال الحقوق والحريات، حيث كانت سباقة في اعتماد الدّستور في القرن التّاسع عشر (1861)، وشهدت تأسيس أول رابطة لحقوق الإنسان في أفريقيا والعالم العربي (1977)، فضلا عن أوّل منظمة عمالية تدافع عن حقوق العمّال في إفريقيا والعالم العربي (1946). وبسبب إجراءات قيس سعيد الاستثنائية تعود تونس "تلميذا غير نجيب" في مجال الحريات وحقوق الانسان، مدانة من قبل منظمات إفريقية كانت تونس وراء بعثها وإنشائها، في إطار دورها التّاريخي في نشر ثقافة الحقوق والحريات في إفريقيا.
واليوم نجد المحكمة الإفريقية تطالب تونس بإثبات جديتها في تنفيذ قرار الحكم المتعلق بحق الشّعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة، وتشكيل المحكمة الدّستورية لكفالة حق التّونسيين في التقاضي عبر "إعداد تقرير كلّ 6 أشهر حول الإجراءات المتخذة لتنفيذ قرارها إلى غاية اعتبار المحكمة أن الحكم قد تمّ تنفيذه بالكامل"، وهو ما سيمثل ضغطا على نظام قيس سعيد المطالب بإثبات "حسن السّيرة والسّلوك" مرّتين في السّنة، مما يعني أنه سيواجه حملات متكررة ضدّ إجراءاته إلى نهاية مهلة السنتين التي منحتها إياه المحكمة للعودة إلى الديمقراطية وتشكيل المحكمة الدّستورية.
كما يمثل حكم المحكمة الإفريقية خيبة أمل قوية لشخص الرئيس قيس سعيد المهووس بالتّاريخ، والذي يحلم بتسجيل اسمه في تاريخ تونس بصياغته لدستور "الجمهورية الجديدة"، فاستعجلت عليه المحكمة حكم التّاريخ، وسجّلت في صفحاته الأولى ـ ومن الآن ـ لا شرعية إجراءاته، وانقلابه على دستور البلاد وانتهاكه لقوانينها، بما يجعله في كتب التّاريخ مجرّد انقلابي صغير مغتصب للسّلطة، عبر آليات الكذب والخداع والحنث باليمين.
أيا كان تعاطي سلطات الانقلاب التونسية مع قرار المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، الذي يمتاح أسسه من دوافع قانونية وحقوقية، فإن دخول الذراع القضائي للاتحاد الإفريقي في شأن سياسي داخلي لأحد الدول الملتزمة بقوانينها فضلا عن كونه يحصل لأول مرة في تاريخ تونس، فإنه يعكس إرادة إفرقية في الإعلاء من شأن المؤسسة القضائية للإسهام في تمتين أسس العدالة في القارة السمراء، التي مازالت قواها الحية تحلم بالتأسيس لانتقال ديمقراطي حقيقي يحقق مطلب التداول السلمي على السلطة ويضع حدا للانقلابات التي كلفت القارة غاليا.
*دبلوماسي سابق وباحث في العلاقات الدّولية