هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تثور حاليا قضية دينية في دولة إيران، نتجت عن وفاة فتاة إيرانية كانت قد ألقت القبض عليها شرطة الأخلاق، ونتج عن وفاتها اندلاع تظاهرات في إيران، تندد بوفاتها، وبسبب القبض عليها، وهو عدم ارتدائها ثيابا لائقة وفقا للقانون الإيراني، والذي يعاقب على عدم ارتداء الحجاب في الشارع، أو ارتداء ثياب غير لائقة أخلاقيا.
لن أخوض في أسباب وفاة الفتاة، وهو أمر مرفوض بكل معاني الرفض لو ثبتت أن سبب وفاتها أي تجاوز أو إهمال طبي من السلطة الإيرانية، لكن الأمر الذي أريد الحديث عنه بحكم تخصصي، وبحكم اهتمامي، هو الموقف الديني من التزام أو عدم التزام المرأة بالحجاب في الطرقات العامة.
معلوم بداية أن إيران دولة شيعية تعتنق المذهب الإمامي، ومعلوم كذلك أن الحجاب في إيران مر بمراحل تجعله لا يقف فقط عند الأمر الديني أو الاجتماعي، بل له سياق سياسي في العصر الحديث تحديدا، فقد كان موضع إثارة الجدل، حين حظره في إيران البهلوي الأول رضا شاه، وذلك من خلال قانون في يناير سنة 1936م، يلزم الإيرانيات بخلع حجابهن، بدعوى أنه من مظاهر التخلف.
وكان هذا القانون مثار احتجاج من الإيرانيين والإيرانيات، إلى أن اضطر لإلغائه ابنه البلهوي الثاني محمد رضا عام 1944م، وعندما قامت ثورة الخميني الإيرانية سنة 1979 عاد الحجاب للواجهة، حيث أصدر الخميني قرارا بضرورة أن ترتدي النساء الحجاب الشرعي خارج البيت، وأيضا ثار جدل حول هذا القرار.
والحقيقة أن الالتزام باللباس سواء للرجل أو المرأة، أمر يأتي من داخل الإنسان لا من خارجه، فكل الدول التي فرضت على مواطنيها ارتداء لباس معين وبخاصة النساء، كان القرار ضد رغبة الكثيرات، حتى من تحب الحجاب وتود ارتداءه، فرضه يجعل منه أمرا مجبرة عليه، وهو ما نلاحظه في سلوك المرأة الإيرانية خارج إيران، فيكفي لأي مسافر لإيران أن ينظر إلى زي المرأة الإيرانية قبل وصولها لبلدها، تجد كثيرات منهن غير مرتديات الحجاب، ومكياج كامل وصارخ، وفي حقيبة اليد قد أعدت حجابا ترتديه قبل هبوط الطائرة.
وهو نفس السلوك الذي كانت تفعله من قبل المرأة الخليجية التزاما بالعادات والتقاليد، وهو ما يغرس بين الناس الالتزام الشكلي بأمر ديني ينبغي أن ينبع من داخل الإنسان وقناعته، حتى ينال أجر الالتزام به، والأولى بالجمهورية الإيرانية وهي متمذهبة بالمذهب الشيعي الإمامي، وكل المذاهب الشيعية تجعل من أقوال وأفعال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآل بيته مرجعا لها، وهو ما يدل بوضوح على أن هذا السلوك الإجباري للحجاب لا ينبع من فقه علي وآل بيته رضي الله عنهم، إنما ينبع من توجه سلطوي بحت.
وكذلك سلوك الشرطة في مواجهة المعارضين للأمر لا ينم عن اقتداء بسلوك آل البيت، وبخاصة علي رضي الله عنه، نعم هناك سلوكيات ترفض من بعض المتظاهرات، كالإصرار على خلع الحجاب في ميادين عامة بشكل مستفز، إذ يمكنهم التظاهر ضد الإجبار وهو موقف ديني واضح وثابت، أقره القرآن الكريم، وأقرته السنة النبوية المطهرة، بل وسنة أئمتهم المعتمدين في المذاهب الشيعية، إذ تعلي من كرامة وحرية الإنسان.
إن طريقة تعامل الشرطة أو السلطة في الجمهورية الإيرانية مع قضايا الحريات بشتى أشكالها، تحتاج إلى مراجعة منهم بشكل جدي وسريع، لأنها فضلا عن أنها في عدد منها لا تتسم بالموقف الفقهي السديد، فإنها تعطي صورة سلبية ليست عن المذهب الشيعي الذي تتبناه الدولة، بل عن الحكم الإسلامي، ووصمه بالحكم الديني الثيوقراطي.
فعلي رضي الله عنه حين خرجت عليه معارضة مسلحة، وهم الخوارج، لم يقم بقمعهم، ولا الاعتداء عليهم، بل حاورهم وناقشهم، وأرسل إليهم ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وذهب لنقاشهم، ونتج عن ذلك أن عاد معه إلى المنهج السوي آلاف ممن اعتنقوا أفكار الخوارج المتشددة، بل المكفرة لجمهور المسلمين.
بل إن عليا رضي الله عنه نفسه، وضع قاعدة فقهية في التعامل مع المعارضة المسلحة، فقال: لكم علينا ثلاث: ألا نبدأكم بقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم الفيء إن شاركتم معنا في القتال. أي أنه هنا: أعطاهم حق الحياة واحترام هذا الحق، ولو أنهم بدأوا الدولة بالقتال، فدورها يكون برد عدوانها بما يكفي لرد العدوان وليس التجاوز، وعدم الإجهاز على جريحهم، وعدم اتباع الفار منهم، وأعطاهم الحق الديني في التعبد، والحق المالي من المال العام.
وإذا كنا نرفض مواقف بعض الدول الغربية أو العربية العلمانية التي تمنع الحجاب في الأماكن العامة، وتضيق على المحجبات، فبنفس الدرجة أيضا نرفض أن تجبر المرأة على ارتدائه، لأن الجبر والكبت لن يصنع مجتمعا متدينا، بل سيصنع مجتمعا منافقا دينيا وسلوكيا، ويصنع محجبات شكلا كارهات للحجاب حقيقة، وهو ما لا يقره شرع أو فقيه لديه تعمق في شريعة ربه، أو سلوك الأئمة العظام، بمن فيهم أئمة المذهب الشيعي من آل البيت الكرام.
إن طريقة تعامل الشرطة أو السلطة في الجمهورية الإيرانية مع قضايا الحريات بشتى أشكالها، تحتاج إلى مراجعة منهم بشكل جدي وسريع، لأنها فضلا عن أنها في عدد منها لا تتسم بالموقف الفقهي السديد، فإنها تعطي صورة سلبية ليست عن المذهب الشيعي الذي تتبناه الدولة، بل عن الحكم الإسلامي، ووصمه بالحكم الديني الثيوقراطي.
فعلى أصحاب الفكر والطرح المعتدل من التوجه الشيعي، سواء في إيران أو خارجها، أن يبادروا ببيان الموقف الفكري المنضبط في هذه المواقف والقضايا، بعيدا عن القضايا الفردية التي تحتاج إلى تحقيق قانوني نزيه وشفاف في ممارسات الشرطة، لكننا نتحدث الآن عن الموقف الفكري والفقهي لمسألة فرض الالتزام الديني بشكل معين، وهو ما ثبت فشل تطبيقه في كثير من الدول، وعلى رأسها إيران نفسها.