يُقالُ تَرَقَّى فُلانٌ ترقيّا؛ فهو قد تنقَّل من حال إلى حال،
وترقَّى فُلانٌ في الشيء؛ أي ارتفع فيه من درجة إلى درجة، فما زال يترقَّى في
الأمر حتى يبلُغ "غايته". وإذا ارتقى فُلانٌ مُرتقى صعبا؛ فقد أجهد
نفسه وأتعبها. ويُقال عمَّن يتقرَّب إلى ربِّه العلي بالتخلُّق والعبادة والذكر؛ إنَّه يترقَّى في مدارج السلوك إليه سبحانه، ومن ارتقى بطنه -أي علا!- فقد امتلأ
شبعا. فصار من ثم جليّا أن الترقي يُحمَل على الانتقال إلى حال مادِّي أو معنوي
جديد، بيد أنه حال يرتفعُ بصاحبه درجة في السُلَّم المعني دون غيره؛ فهو قد يرتفعُ
في سُلَّم الإشباع المادي فحسب، وقد يترقَّى في مدارج الكمال المعنوي وحده؛ إذ
نادرا ما يجتمعان لإنسيّ، والله المستعان.
وإذا كانت بعض تعريفات المعاجم تَفتَرِضُ "غاية" قد
يبلُغها المترقي في شيء؛ فإن هذا هو الاستثناء، كما يؤكد الحديث النبوي الشهير:
"منهومان لا يشبعان؛ طالب علم وطالب دنيا"؛ فاختُزِلَ فيهما طالب
اللذَّة المعنوية وطالب اللذة المادية. فإن الغاية التي قد يقف عندها الكائن
البشري -استثناء في ترقيه!- لا تكون إلا في وظيفة أو ما شابه ذلك من التراكيب
والبِنَى الوضعيَّة ذات المراتب المحدودة؛ كأن يبلُغ الغاية في المناصب والجاه
والسلطان، أما اللذائذ المختلفة، المعنوي منها والمادي؛ فلا غاية لها ولا نهاية في
أصل فطرة بني الإنسان، ولا كابح لها أو مانع عنها في التعيين، إلا ما انطوَت عليه
نفس المعيَّن وجُبِلَت عليه فطرته من حدود وزواجر.
ألم تر أن الجائع المعدم لا يُفكر إلا في إصابة لُقمة تسدّ رمقه،
فإن أصاب رغيفا؛ تاقَت نفسه إلى شيء من إدام! فإن ائتدم بملح؛ تاقَت نفسه إلى
شيء أشهى و"أطرى"، وهكذا، كلَّما "تحسَّن" ما يُصيبُ من
شهوات البطن أو الفرج؛ غلَبَ عليه طلب ما فوقه تلقائيّا. فإن تزوَّج امرأة سمراء، اشتهى البيضاء، وإن تزوج الهيفاء، اشتهى السمينة. فإن تيسَّر أمره، جمع من ألوان
النساء ما لذَّ له وطاب. هذا التزايُد المادي بئر لا قاع لها، وإن لم يكبح الإنسان
جماح نفسه عند مرحلة معينة؛ لأنفق حياته يلهث خلف شهوة جديدة كل يوم، ما تيسَّر له
ذلك، بل وبعضهم يُبدد عمره لاهثا خلف ما لا يتيسَّر له من الشهوة المضنية!!
الترقي الروحي يلزمه -غالبا- شِبَعٌ أدنى من امتلاء بحلال، أو مجاهدة للإمساك -وهو قليلٌ نادر!- ليُعاد بذلك توجيه الطاقة المحبوسة في نفس الإنسان إلى معراج أسمى، معراجٌ يعود من ثم على الإنسان بترقية نظرته للشبع والترقي الجسدي؛ فتترقى طاقته على ذلك.
وربما ظنَّ الظان ألَّا شيء في اللهاث خلف ما أحلَّ الله من
الشهوات،
ما دام البشري مُستطيعا، بيد أنها غفلةٌ تامَّة عن مقصد الخلق وغاية التشريع،
التي أُرسلت بها الرُّسل وأنزلت لها الكتب. هذا المقصد وهذه الغاية هي الأصل، الذي
جُعلت الشهوات واللذائذ عونا عليها ما كانت من حلال، بيد أنها ليست الأصل ولا هدف
الخلق ولا غاية الوجود، بل إن كثرة تلبيتها واللهاث خلف ما أحلَّ منها؛ يُوهن
النفس ويفصم عُرى مروءتها. وإن أشقى الخلق من تعذَّر عليه مؤونة ما يشتهي -من حلال!-
وضَعُفَ عن كبح نفسه مع عجزها! وإذا كان هذا الخراب -الجواني والبراني- ثمرة إفراط
المسلم في الحلال، فما بالك بوقوعه المزري في الحرام!
وما النهي عن الإفراط فيما أحلَّ من الشهوة، إلا لأن الترقي
الروحي
مُرتبط ارتباطا وثيقا بالجسدي؛ عدا استثناءات لا يُقاس عليها من أولياء الله
الصالحين. فإذا كان الجائع أعجز الناس عن ذكر الله لتشوش ذهنه وغلَبَة حاجته عليه؛
حتى لقد يُبتلى في ضَعفِه بسرقة لُقمة تسدُّ رمقه، وكانت الغفلة عن الله أقرب
شيء إلى من ضَعُفَ باشتهاء النساء وهو عاجزٌ عن الزواج؛ حتى لقد يُبتلى بالوقوع
في الزنا، فإن مثلهما في ذلك مثل غيرهما ممن غلَبَت عليه شهوته المجبولَة -أيّا كانت- فغفل غفلة مُخيفة، لا يستفيق منها إلا بقضاء الوطر.
وإذا كان هذا حالُ المبتلى بحرمان، إذ وقع في حرام؛ فإن المتخَم
بالحلال مُتثاقلٌ -هو اﻵخر- بجسده عن الذكر تثاقُلا لا يحضُر معه قلبه، وإن
استجاب لسانه على مضض، كما أن المنهَك من فرط جماع ما أحلَّ الله له من النساء؛
يُشاركه هذا التثاقُل. والآخران قد لا يكونان خيرا من الأوَّلان؛ فإن المتخَم
والمفرِط غافِلٌ عاجز، بيد أنها غفلة العطاء وعجز الامتلاء؛ فكان الفارِق في نوع
الابتلاء لا في سوء الاستجابة.
وإن الترقي الروحي يلزمه -غالبا- شِبَعٌ أدنى من امتلاء بحلال، أو
مجاهدة للإمساك -وهو قليلٌ نادر!- ليُعاد بذلك توجيه الطاقة المحبوسة في نفس
الإنسان إلى معراج أسمى، معراجٌ يعود من ثم على الإنسان بترقية نظرته للشبع
والترقي الجسدي؛ فتترقى طاقته على ذلك. أما التلبية الحرام فلا مجال لتناولها؛ إذ
تُحطم النفس وطاقتها تحطيما كاملا، وتقضي على خصالها الإنسانية، وتُدمر بوصلتها
الرهيفة.
تحقُّق إنسانية الإنسان لا يكون إلا باعتداله في شهواته بين حدَّين؛ أدناهما فوق "ألا يُستفتى من ليس في بيته دقيق"، كما كان الشافعي رحمه الله يقول؛ فلا يُعوَّل على الجائع المعوز في شيء، ولا حتى في أداء زكاة ما تلقَّى من الفهم عن الله! فصار الحد الأدنى أن ينال الآدمي خُبزه
والارتباط بين الترقي الروحي والمادي -عند السالكين- يبدأ في الجماع
لا في شهوة البطن، لما في حُسن الجماع من تعزيز خصال الإيثار وتزكية النفس
وتنقيتها، والتخفُّف الرباني؛ ما تُجنِّب الإفراط. فإن البالغ قد يشتهي الجماع
مُجردا، حتى يصير أشبه بالحيوان في رغبته العمياء، ثم يترقَّى باشتهاء امرأة
بعينها؛ يُحبها وينسجم وصلا بخصالها، ثم يشتهي الأنس الروحي بامرأته، حتى إن
شاخَت وجفَّت أنوثتها؛ بل قد يجد في دفء قُربها في شيخوختها عوضا بمودتها عن
جماعها! فهو في ترقيه يَحِنُّ لذاكرة التلبية الربانية الحسنة، ويدور مع ما سبق
منها إنسانيّا بالعرفان، أكثر مما يدور مع وطأة التلبية الآنية وضغوطها المباشرة.
وما هذا كله إلا لأن القلب لا يجوع إلى الحب، إلا بعد أن تشبع البطن والعين من الطعام شبع
اعتدال، كما لا يضطرم الجسد بالرغبة في الجنس إلا بعد شبع البطن من الطعام؛ فكانت
شهوة الجماع أعلى في سُلم اللذائذ الماديَّة من شهوة الأكل، كما كان العشق نقلة
بعيدة في سلم اللذائذ الماديَّة؛ فتغلِب فيه اللذة المعنوية على الماديَّة أحيانا،
ويصطرعان على الهيمنة ما دام في صدر الإنسان نفسٌ يتردد. بل وقد ينتقل العشق
بالإنسان إلى سلم اللذائذ المعنوية المحضة؛ إذ يصير معراجه إلى ربه، وهذا حديث لا
يتسع له المجال هنا.
وعندنا
أنّ تحقُّق إنسانية الإنسان لا يكون إلا باعتداله في شهواته بين حدَّين؛ أدناهما
فوق "ألا يُستفتى من ليس في بيته دقيق"، كما كان الشافعي رحمه الله
يقول؛ فلا يُعوَّل على الجائع المعوز في شيء، ولا حتى في أداء زكاة ما تلقَّى من
الفهم عن الله! فصار الحد الأدنى أن ينال الآدمي خُبزه. أما أعلاهما فدون ما نهى
الفاروق رضي الله عنه: "أكلما اشتهيت اشتريت؟!"؛ أي الإمساك عن الدوران
مع الشهوة رغم القدرة عليها، وإنما ينال منها المسلم بقدر حاجته، لا بقدر ما
يُشبعها عاجلا؛ إذ لا قاع للشهوات ولا حدّ، إلا رياضة النفس لتتأهّل للوقوف عند
أمر الله ونهيه. هذا الاعتدال يضمنُ اطراد الترقي الروحي، وتيسُّر القيام بعد كل
تعثُّر فيه، كما يضمن أن "ترقي" الشهوة المادية -شبه الحتمي!- لن يشوبه
إسراف، يدور به الإنسان مع شهوته؛ فيُستعبَد لها، ويصير أدنى مرتبة من الحيوان؛
الذي تؤدي الشهوة عنده دوره وظيفيّا محضا، لا إفراط فيه ولا تفريط!
وقد
كان ما أسلفنا إعادة بناء لنموذج الشهوات الجواني الذاتي، الذي ينساق فيه الإنسان
لشهوته انسياقا آنيّا مفطورا في جبلَّته، بغير ضغط مباشر من فاعل براني؛ فهو
مُحب للشهوات بنص التقرير القرآني المعصوم (سورة آل عمران؛ اﻵية رقم 14)، ومن ثم؛ كان سعيه إليها سعيا فطريّا حافزه جواني بالأساس. فإذا اكتسبت الشهوات ضغطا برانيّا إضافيّا، مثل زيادة
مُعدَّلات تعري النساء وتفاقُم فتنتهن وتعذر الزواج، أو تفاقُم الهوة بين الفقراء
والأغنياء، ومعاناة البشري تحت وطأة هذه الأعباء الاجتماعيَّة الإضافية -علاوة على
حافزه الذاتي!- ضَعُفَت مقاومته، وصار ريشة في مهب الريح، إن لم يتغمده الله
برحمة، ويُعينه على نفسه.
وإذا كان المولى قد جبل هذه الشهوات في النفس مُعينا على
التكليف؛ فإنه قد أمر المكلَّف بضبط نفسه، لئلا يصرفها إلا في مصرف حلال. وأمر
المجتمع المسلم أن يُعين أفراده بعضهم بعضا على كبح جماح نفوسهم؛ لتحقيق مقاصد
الشرع المؤدية إلى حفظ السلم الاجتماعي. أما إن صار المجتمع نفسه عاملا إضافيّا ضاغطا، يدفع إلى الشهوات؛ صار المؤمن آنذاك كالقابض على الجمر، يُعاني معاناة لا
يعلمها إلا الله تعالى. بيد أن أعظم هذه الابتلاءات، ما كان مصدره ضغط الدائرة
الاجتماعية المباشرة، أو الوسط العائلي الضيق؛ الذي يتحرك فيه المسلم.
في صراع الروح والجسد للهيمنة على وجودنا؛ نخسر مرات ومرات، لأن نداء الجسد يربح أكثر مما نتوقَّع، بسبب طبيعة هذه الدار الفانية، وطبيعة التكليف ومشقته، وطبيعة تكوين ابن آدم نفسه
وقد ورد في ذلك نص حديثي مُعجِبٌ مُعجِزٌ عن سيدنا ابن مسعود،
أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: "يأتي على
الناسِ زمانٌ لا يَسلمُ لذي دين دينُه، إلا من فرَّ بدِينِهِ من شاهق إلى شاهق، ومن حجر إلى حجَر. فإذا كان ذلك؛ لم تُنَلِ المعيشةُ إلا بمعصيةِ اللهِ. فإذا
كان ذلك؛ حلَّتْ العُزبةُ". قال: وكيف تحلُّ
العُزبةُ يا رسولَ اللهِ، وأنت تأمر بالتزويجِ؟! فقال المعصوم، بأبي هو وأمي صلوات
الله وسلامه على حضرته: "إذا كان ذلك، كان هلاكُ الرجلِ
على يديْ أبوَيهِ، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكُه على يدي زوجتِه، فإن لم تكن له
زوجةٌ كان هلاكُه على يدي ولدِه، فإن لم يكن له ولدٌ كان هلاكُه على يديِ
القراباتِ والجيرانِ". قالوا: وكيف ذلك يا
رسولَ اللهِ؟! فقال من لا ينطق عن الهوى: "سيُعيِّرونَه
بضيقِ المعيشةِ، ويكلِّفُونه ما لا يُطيقُ؛ فعند ذلك يورِدُ نفسَه المواردَ التي
يَهلِك بها".
وقد رُوي الحديث نفسه باختلافات طفيفة -عن أبي هريرة وأنس بن
مالك- وأكثر المحدثين على تضعيف سنده، وإن كان المتن نفسه صحيحا دقيقا مُعجبا،
صريحا في تشريح أعظم أبواب الابتلاء بضغط الشهوات -في زماننا وفي كل زمان- وهو
ضغط الدائرة الاجتماعية المباشرة، التي يدفع ضغطها الإنسان "المتوسط" إما
إلى الطاعة وإما إلى المعصية؛ فإن البيئة الاجتماعية هي مُعين العبد المسلم، ما لم
يتخذه الله وليّا؛ فيعصمه بعصمته من الزلل.
في صراع الروح والجسد للهيمنة على وجودنا؛ نخسر مرات ومرات، لأن نداء
الجسد يربح أكثر مما نتوقَّع، بسبب طبيعة هذه الدار الفانية، وطبيعة التكليف
ومشقته، وطبيعة تكوين ابن آدم نفسه. بيد أن الفائدة الأهم لمن تنبَّه
بحول الله؛ فانفتحت بصيرته، وتأمَّل حركة نفسه خلال هذا الصراع؛ هي معرفة حدوده
البشرية، ليتَّقي غلبة ضعفه بطول اللجوء إلى ربه، علَّهُ ينالُ العفو بدوام
المحاولة/ المكابدة. فوحدها المداومة الصادقة على المكابدة تُنجي إن شاء الله تعالى،
مهما بلغ الإنهاك، ومهما ظن الإنسان بنفسه الهلاك؛ فإن صدق التوكل على الله
يُنجينا بحوله وقوته، "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون" (يس:
83).
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry