الذاكرة السياسية

قصة عودة الأحمر إلى صنعاء يوم دفن الغشمي وبقائه بها حتى وفاته

الرئيس اليمني السابق أحمد حسين الغشمي مع طبيبه الخاص الإيطالي
الرئيس اليمني السابق أحمد حسين الغشمي مع طبيبه الخاص الإيطالي

تولى المقدم أحمد حسين الغشمي زمام الأمور في صنعاء مساء يوم اغتيال الرئيس الحمدي؛ بوصفه نائبا لرئيس مجلس القيادة، وبادر بعد تركيز حكمه إلى تعيين "مجلس الشعب التأسيسي" من 99 عضوا برئاسة القاضي عبد الكريم العرشي (6 شباط ـ فبراير 1978). ومن ثم قرر المجلس شكل رئاسة الدولة الجديدة وإلغاء مجلس القيادة السابق وانتخاب الغشمي رئيسا للجمهورية (نيسان ـ إبريل)، ليصبح أول رئيس في النظام الجمهوري يحكم منفردا من دون مجلس رئاسة أو قيادة. 

سيؤدي هذا التغيير إلى انشقاق الرائد عبد الله عبد العالم قائد قوات المظلات، الذي فقد منصبه في مجلس الحكم السابق، وتوجه إلى الحجرية مسقط رأسه (المناطق الوسطى) مع عدد من الضباط اليساريين. تمكن العَالِم من الوصول إلى قريته بعد أن طلب إذنا من الغشمي لعلاج ولده، واصطحب معه حراسة كبيرة وآليات بزعم حماية نفسه من متمردي "الجبهة الوطنية" الذين يقاتلون نظام صنعاء. بعد وصوله إلى قريته، أعلن تمرده على الغشمي وانتقل بعد أسابيع إلى جنوب اليمن

انفراد الغشمي في الحكم يَمرُّ أيضا بإبعاد كبار المشايخ عن السلطة، ومن ثم مواصلة السياسة التي انتهجها الحمدي. يقول الشيخ عبد الله الأحمر في هذا الصدد: "دخل مجاهد أبو شوارب إلى صنعاء بعد اغتيال الحمدي، والتقى بالغشمي الذي أكد له أنه يرفض الحوار معنا، وطلب منا أن نبقى في خمر. كان الشيخ أحمد ناصر الذهب عندي وأراد العودة إلى صنعاء، فمنعه الغشمي من العودة واضطر للبقاء في قرية القابل شمال العاصمة".

ويضيف الأحمر في مذكراته: "لم يجتمع بنا الغشمي في صنعاء، وإنما في بيته في ضلاع همدان شمال العاصمة. قال لنا إنه معنا وأننا جميعا في خط واحد. وطلب منا أن نؤجل الدخول إلى صنعاء، قائلا: اتركوا لي فرصة". (مذكرات الأحمر مرجع مذكور ص 231). 

في هذا الوقت، كان ترتيب السلطة والحكم قد تم من دون مشورة المشايخ ومن دون الأخذ برأيهم. بل أكد الرئيس علنا بأنه لن يسمح بالولاءات القبلية داخل القوات المسلحة. 

بعد ستة أيام من توليه الحكم، سيتعرض الغشمي لمحاولة اغتيال قام بها الضابط (زيد) محمد الكبسي ثأرا للحمدي، لكنها باءت بالفشل وقتل صاحبها. هذه المحاولة عززت ميل الرئيس إلى التمسك بسياسة الحمدي ونهجه، ليس فقط تجاه المشايخ، وإنما أيضا في شؤون الحكم كافة، فحافظ على الحكومة السابقة برئاسة عبد العزيز عبد الغني، وعلى أكثرية الوزراء والموظفين الكبار السابقين والناصريين منهم بصورة خاصة، وأبرزهم؛ عبد السلام مقبل ومحمد الجنيد وأحمد لقمان وعبد الله سلام الحكيمي وسالم السقاف. وطلب من الحكومة أن تواصل العمل في الخطة الخمسية التي أعدها الرئيس السابق.

دولة بلا مشايخ

يؤكد القائد الاشتراكي يحيى منصور أبو إصبع، ما ذكره الشيخ عبدالله الأحمر عن موقف الغشمي السلبي من المشايخ. كان أبو إصبع عضوا في وفد "الجبهة الوطنية" الذي التقى الرئيس الجديد، معتبرا أن حكمه امتداد لحكم الحمدي وسياسته. ينقل عن الرئيس قوله: "هؤلاء المشايخ اختلفوا مع الحمدي وخرجوا إلى مناطقهم بين قبائلهم، وقد تواصلت معهم أكثر من مرة، وجاءني مبعوثون ووسطاء من طرفهم، وقد قلت للجميع؛ إنني لا أمانع في عودتهم كمشايخ ومواطنين معززين مكرمين في بيوتهم، وجميعهم معهم بيوت في صنعاء. إذا اقتنعوا بهذا أهلا وسهلا، أما أن يعودوا إلى الوضع أيام الإرياني وأول عهد الحمدي، أي تقاسم الوزارات والمحافظات ومنافسة الدولة والتدخل في كل كبيرة وصغيرة، فانا لن أسمح بعودة هذه الأوضاع. أنا هنا رئيس الدولة ومعي مجلس الشعب التأسيسي، وأنا صاحب القرار في الدولة، علما أن عوائل المشايخ وأبناءهم موجودون في صنعاء". وأضاف أبو إصبع نقلا عن الغشمي ". ذكرت هذا لمجاهد أبو شوارب وهو مقتنع بوجهة نظري. إن وافقوا على شروطي يمكنهم العودة إلى صنعاء في لحظات". ( مذكرات أبو إصبع مرجع مذكور).
 
كانت هذه الرسالة موجهة ليس فقط للمشايخ ولـ "الجبهة الوطنية" التي تقاتل الحكومة المركزية في المناطق الوسطى، وإنما أيضا لقادة الجنوب اليمني، وذلك للتأكيد أن عهد الغشمي هو استمرار لعهد الحمدي بالوسائل والمواقف نفسها، ولن يقتصر الأمر على المواقف اللفظية، فقد بادر الغشمي وفقا لروايات متواترة، لا أعرف عنها إلا ما ذكره السفير مصطفى نعمان، بأن الغشمي أظهر حسن نيته تجاه الجنوب عندما قابله صالح مصلح وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية. ناقشا أمر تبادل المعارضين الهاربين من الجنوب إلى الشمال، والمعارضين الهاربين من الشمال إلى الجنوب. ولإثبات "جديته" استدعى الغشمي المعارضين الجنوبيين الشيخ أحمد سالم بلحمر (العولقي) والشيخ عوض الربيزي، وطلب من حراسه قتلهما بحضور الضيف، ووعد بتسليم الآخرين مقابل تسليمه عبدالله عبد العالم وفارين شماليين إلى الجنوب (مصطفى النعمان، إندبندت عربية، 12 آذار/مارس 2019). 

 

                            أبو لحوم والأحمر والشايف

من جهته يروي صالح مصلح المجذوب، أنه التقى الغشمي في منزله في الضالع، وأنه أمضى ساعات معه وهو يضع يده على مقربة من مسدسه؛ لأنه كان ينتظر لحظة إطلاق الرصاص إذا ما اختلف مع محدثه. بالمقابل، كان الغشمي يعبر عن ثقة مطلقة بالجنوبيين ستودي به بعد أقل من شهرين من هذا اللقاء.

حاولت السعودية التقريب بين المشايخ والغشمي من دون تقدم كبير. ويروي الشيخ سنان أبو لحوم جانبا من هذا الفشل: "سألني الأمير سلطان بن عبد العزيز إن كنت سأمر على الرئيس أحمد الغشمي عندما أعود من جدة إلى صنعاء، فقلت: الغشمي من أولادنا وهو زميل إخوتي، ولكني لا أريد أن أحرجه لأنني مصنف عندهم في خانة الرجعيين. فقال الأمير سلطان: ونحن مثلك في خانة الرجعيين" (مذكرات سنان أبو لحوم، ص247).

مشيخة العاقل

الملفت في هذا الصدد، أن الرئيس أحمد حسين الغشمي الذي منع المشايخ من دخول صنعاء، ينتمي هو نفسه إلى مشيخة مهمة في قبيلة همدان الواقعة شمال العاصمة صنعاء. فقد ولد عام 1941 في "دسكرة ضلاع همدان" ونشأ في أسرة تولت المشيخة بعد انهيار سلطة عاطف المصلي زعيم المنطقة، الذي ساعد الإمام البدر في اليوم التالي للثورة على الهروب من همدان إلى حجة، وزوده برؤوس من الماشية وبجنود للحراسة.

يومذاك، سأل الثوار الجمهوريون المصلي عن سبب فعلته. قال؛ إن البدر استجار به وإن "حق القبيلة" يسمح له بمثل هذا التصرف، فكان أن أعدمه الثوار في صنعاء باعتباره خائنا ليتولى المشيخة آل الغشمي، وهم ينتمون إلى ما يعرف محليا باسم "مشيخة العاقل"، التي تحتل مرتبة وسطى بين المشايخ الكبار وعامة الناس. وقد شارك آل الغشمي في محاربة الأتراك وكان أحد رجالهم المعروفين جبران الغشمي حاضرا في "دعان"، في أثناء توقيع اتفاق هدنة بين العثمانيين والإمام يحيى حميد الدين عام 1911.

همدان وسنحان 

وإذ بادر الرئيس إبراهيم الحمدي إلى مواجهة وعزل المشايخ الكبار عن حكمه، استعان لهذه الغاية بمشايخ الوسط ومنهم الغشمي في همدان وآل عفاش في سنحان، وينتمي كلاهما إلى "بلوك" عسكري تقليدي كان النظام الإمامي قد خصصه لهاتين الضاحيتين الشمالية والغربية للعاصمة، ومازال العسكر يكثر من أهاليهما في عهود الحمدي والغشمي وصالح. يمكن اعتبار هذه المبادرة من قبيل الحفاظ على تقليد إمامي قديم، يقضي بكف يد كبار المشايخ وإبعادهم عن السلطة، بل تخويفهم. وهذا ما يؤكده اللواء حاتم أبو حاتم في مذكراته: "كان الحمدي يقول بأنه قد رفع الغشمي إلى مرتبة أكبر من مستواه، "أيش عاد يشتي" يعني لم يكن يصدق بأن الغشمي يفكر في رئاسة الدولة. وأتذكر في إحدى المرات، كنا في مقيل مع الرئيس إبراهيم وكلمناه عن أحمد الغشمي وأنه "ما ينفعش"، فقال ما يهوّب على الشيخ عبدالله والشيخ سنان إلا هو"؛ يقصد أن الغشمي كان مصدر تخويف للشيخين.. وللمثقفين المعترضين، الذين كان يخاطبهم بالقول: "ما فيش عندي سجون عندي مقبرة". (موقع خيوط، الحلقة الثانية، 20 نيسان ـ إبريل 2022). 
    
والجدير ذكره في هذا الصدد، أن همدان تنتمي إلى حاشد بالتحالف، وعليه، يجب أن تخضع مبدئيا لرأي وقيادة شيخ مشايخ القبيلة عبد الله بن حسين الأحمر. ولكننا نرى العكس تماما مع الغشمي وسنراه لاحقا مع الرئيس علي عبد الله صالح، أي إهمال رأي شيخ المشايخ الذي طالب بنقل السلطة إلى المدنيين في الحالتين. وقد أصر الرئيسان على بناء قوة عسكرية مهمة توفر استقرار الحكم وتثبت قواعد الجمهورية المسلحة. 

الراجح عندي أن التحالف القبلي مؤثر في قضايا الثأر والديَّة و"التهجير" (تعيين منطقة آمنة خالية من الثأر والتعديات)، و"التقطع" (نصب الحواجز للخطف والقتل والتعدي) بمواجهة قبائل أخرى فقط، ويضعف تأثيره في السياسة عموما. وهذا ما عرفناه في رفض الحاشدي أحمد الغشمي السماح لشيخ مشايخ حاشد بالعودة إلى صنعاء بعد اغتيال الحمدي، ورفض الحاشدي علي عبد الله صالح الاستماع إلى نصيحة الشيخ عبد الله الأحمر في الامتناع عن تولي رئاسة الدولة، وفي إقامة الوحدة مع الاشتراكيين (العلمانيين) في جنوب اليمن لاحقا، حتى لا نذكر أمثلة أخرى.

لن تتميز أشهر الغشمي الثمانية في الحكم بإنجازات تذكر سوى تعيين "مجلس الشعب التأسيسي"، الذي سينقل السلطة أولا إلى العرشي، ومن بعد إلى علي عبدالله صالح. ولن ينجح الغشمي في تحويل "عدائه" للمشايخ إلى فرصة لكسب اليساريين والمعارضين، فقد كان الناصريون ينظمون أنفسهم خفية وينتشرون في مؤسسات الدولة من أجل الثأر للحمدي وتولي السلطة. 

 

                   الرؤساء الحمدي والغشمي وصالح الذين قتلوا تباعا

سيقتل الغشمي في مكتبه في قيادة القوات المسلحة (26 ـ 6 ـ 1978)، وسينعقد إجماع حول مسؤولية الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي عن اغتياله بواسطة حقيبة "سماسونايت" مفخخة، حملها المبعوث الجنوبي الخاص مهدي أحمد صالح، المعروف باسمه المستعار "تفاريش" إلى الرئيس الشمالي، الذي رفض أن يفتش معاونوه المبعوث وأمرهم بإدخاله فور وصوله إلى مكتبه، والسبب في هذا الإصرار يعود لتحذير جنوبي من عدم فتح الحقيبة إلا في مكتب الرئيس؛ كي لا تتسرب الأسماء المرشحة للاعتقال ويهرب أصحابها. 

ينعقد إجماع على أن صالح مصلح المجذوب وزير الداخلية الجنوبي هو الذي جهز الحقيبة المفخخة، والمبعوث الذي تربطه به علاقات عائلية. وكان، كما ذكرنا، قد قابل الرئيس الشمالي قبل شهرين واتفقا على تبادل المعارضين، وأن يحمل المبعوث الجنوبي في حقيبته بحسب الاتفاق لائحة بالمعنيين الذين سيتم تسليمهم.

سيارة الرئيس المهربة 

لن يشكك أحد بدوافع مقتل الغشمي، خصوصا أن سالمين الرئيس الجنوبي قد اغتيل بعد يومين. وتفيد وثائق تلك الفترة أن الطبيب الأجنبي الإيطالي الذي أنقذ الغشمي من مرض الكزاز في أريتريا، هو نفسه الذي سيوقع على تفاصيل وفاته بالانفجار، وليس بالرصاص كما انتشرت بعض الشائعات نقلا عن ابنه.
سيبقى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر طيلة الثمانية أشهر من حكم الغشمي، سيبقى في مدينة خمر ولن يعود إلى العاصمة إلا يوم دفن الغشمي، الذي كان يقول؛ إن اليمن لن تقوم لها قائمة ما دام الشيخان "عبد الله الأحمر وسنان أبو لحوم على قيد الحياة" (اللواء حاتم أبو حاتم، مرجع مذكور). 

يطرح هذا الكلام مشكلة عويصة، إذا ما علمنا أن الغشمي نفسه قال لضباط كلية الطيران بعد أيام ثلاثة من انقلابه، ردا على طلبهم السماح بشراء سيارات بالتقسيط من المعارض التجارية أجابهم الغشمي: "ولماذا تذهبون إلى معارض السيارات. أنا معي سيارة تهريب وأنا رئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة" (حاتم أبو حاتم، المرجع نفسه). للعلم، كان عدد كبير من رجال القبائل خارج العاصمة يملكون سيارات مهربة.

يبقى أن إصرار الرئيس الغشمي على إبعاد "المشايخ" عن الحكم لا ينطبق على أسرته، فقد لاحظ شهود عيان تلك الفترة، أن شقيقه الشيخ محمد الغشمي قاد مجموعة من الدبابات من ضلاع همدان في هجوم مباشر على صنعاء ثأرا لأخيه، قبل أن تتضح معالم الجريمة وتفاصيلها خلال ساعات. وينقل عنه يحيى منصور أبو إصبع أنه حرضه على السيطرة على الجبهة القومية في جنوب اليمن"، فتكون أنت هناك وأنا هنا، ونبني دولة قبيلية تعيش لقرنين من الزمن" (أبو إصبع مرجع مذكور).

عندما وصل إليه نبأ اغتيال الغشمي، علق الشيخ سنان أبو لحوم ببيت شعر: "كلما قلنا عساها تنجلي.. قالت الأيام هذا مبتداها" (مذكرات أبو لحوم، ص 249). 

تلك كانت حال اليمن عشية وصول القاضي عبد الكريم العرشي إلى الحكم، وهو الرئيس المدني الذي دعمه الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، لكنه لن يصمد في السلطة أكثر من ثلاثة أسابيع، وسيتخلى عنها للرئيس المقبل علي عبد الله صالح.

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية

 

 

اقرأ أيضا: عبد الله الأحمر في عرين النظام الإمامي ومقاومة العثمانيين

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر وفشل رهان الإصلاح يفتح باب الثورة والجمهورية في اليمن

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر يشارك بحماية الجمهورية مع السلال ومن ثم الانقلاب عليه

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر: حذرني السلال من الفقهاء ولست ديك رمضان زمن الأرياني

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر يضفي شرعية الشورى على الحمدي ويعارضه حتى اغتياله

 

 

اقرأ أيضا: الأحمر لم يغدر الرئيس الحمدي الذي قتلته استراتيجيته الخارجية














التعليقات (0)