كتب

تركيا.. دولة محورية في الاستراتيجية الدولية والإقليمية (1من2)

ما هو الدور الذي لعبه أحمد داود أوغلو في رسم السياسات الخارجية لتركيا في مطلع الألفية الثالثة؟
ما هو الدور الذي لعبه أحمد داود أوغلو في رسم السياسات الخارجية لتركيا في مطلع الألفية الثالثة؟

الكتاب: "العمق الاستراتيجي موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"
الكاتب: أحمد داود أوغلو

ترجمه: د. محمد جابر ثلجي و د. طارق عبد الجليل

قام بمراجعته كل من: د. بشير نافع و د. برهان كوروغلو
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون + مركز الجزيرة للدراسات، أيلول2010

(646 صفحة من القطع الكبير)

تحتل تركيا موقعًا جغرافيًا ممتازًا، يمكن وصفه في العلوم السياسية الاستراتيجية بأنَّه Eckmacht، أي قوة إقليمية ذات موقع استراتيجي معتبر.

هذا الكتاب صادر في 2010، وأحدث ضجة كبيرة في ظل الصعود القوي للدور الإقليمي لتركيا في منطقة الشرق الأوسط حينذاك، لكنَّ ما شدَّني إليه هو العودة إلى سياسة التطبيع الجديدة التي ينتهجها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ سنة ونصف مع الدول الخليجية التي اسْتَعْدَتْ تركيا بسبب موقفها من "الربيع العربي" ومناصرة حركات الإسلام السياسي، تُوِّجَتْ في الفترة الأخيرة بزيارة أردوغان للمملكة السعودية، وإجرائه لقاءات مثمرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان في جدّة.
 
وأسهم توتر العلاقات التركية-الأمريكية، في جعل الرئيس أردوغان يغير في سياسته الإقليمية، منذ مطلع العام الماضي (2021)، مع إنهاء الأزمة الخليجية التي كان التحالف التركي القطري أحد أسبابها الرئيسية، ثم دخول أنقرة في مفاوضات لإنهاء القطيعة مع مصر في أيار/ مايو من العام الماضي، وما أعقبها من إبرام مصالحة مع الإمارات توّجت بزيارة ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، أنقرة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
 
وكثرتْ في الآونة الأخيرة تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بشأن تحقيق الانفتاح والتقارب بين أنقرة ودمشق. وباتت لافتة للنظر في هذا الموضوع، ففي ملتقى السفراء الأتراك في أنقرة في 11 آب/ أغسطس 2022، قال أوغلو: "إنَّ تركيا تدعم المصالحة السياسية بين المعارضة السورية ونظام الأسد".

السؤال الذي يطرحه الخبراء والمحللون، هل تعكس تصريحات وزير الخارجية التركية تحولاً جوهريًا في السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا، لجهة العودة إلى انتهاج سياسة خارجية صفر مشاكل مع دول الجوار الجغرافي كما طرحها وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو في كتابه هذا؟

لقد ترك تراجع الحضور السياسي العربي الفاعل في إقليم الشرق الأوسط فراغاً كبيراً، سعت كل من القوى الإقليمية الجديدة الصاعدة على غرار إيران وتركيا إلى أن تملأه، حيث تملك كل من تركيا وإيران مشروعاً إقليميا وسياسياً كبيراً، ولكل مشروع أنصار داخل العالم العربي، ولأنصار كل من المشروعين أيديولوجية تعارض أيديولوجية المشروع الآخر.

ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا في نهاية خريف 2002 ولغاية تدهور علاقات تركيا مع إسرائيل، وانخراطها في الأزمة النووية الإيرانية، كانت السياسة الخارجية التركية تسلك مسارات جديدة، تعبر عن التحولات العميقة التي تشهدها تركيا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ اتخذت مواقف لافتة ونوعية من قضايا قوس الأزمات في الشرق الأوسط.

فقد انتهج حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا سياسة خارجية جديدة قوامها على النحو التالي: الحفاظ على التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، من موقع القوة الإقليمية الصاعدة التي تريد أن تحافظ على قدر من الاستقلالية والمسافة مع الغرب، وفي الوقت عينه تعميق الفجوة مع إسرائيل في سياق مسار تصادمي صعدت إليه الدولتان التركية والإسرائيلية، وإعادة تموضع تركيا في مشهد جغرافي أوسع، أي العودة إلى العالمين العربي والإسلامي، يمكن ملاحظته منذ بداية الألفية الجديدة، حتى صار الحديث عن تصاعد الدور الإقليمي التركي، وانبعاث ما يمكن تسميته بـ"العثمانية الجديدة" ملء الأسماع في أجهزة الإعلام المرئية والمكتوبة في العالم الغربي.

 

 

لا يمكن لتركيا البلد العلماني الكبير، أن يشكل جسراً بين العالم الغربي والشرق الأوسط، جغرافياً واقتصادياً وثقافياً، إلا إذا تمكن من حل معضلة الهوية الوطنية بدلالة الهوية التعددية القائمة على تأسيس العلاقة الممكنة بين الإسلام والديمقراطية، وعلى القبول بمدنية السلطة والتعددية الدينية والفكرية والسياسية وحقوق الأقليات والحريات العامة والخاصة ضمن السياق الاجتماعي العام المقبول.

 

 



وكان هذا المنظور الجديد للسياسة الخارجية التركية يقوم بصورة أساسية على ما يسمى بمبدأ "العمق الاستراتيجي"، Strategic Depth (بالتركية Stratejik Derinlik)، وهو المبدأ الذي صاغه البروفيسور أحمد داود أوغلو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أنقرة، في كتاب نشر له سنة 2001، تحت عنوان "العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا الدولي"، The Strategic Depth: The Turkish International Location.

ولد داود أوغلو عام 1959 في مدينة قونيا في قلب الأناضول، وتخرج من جامعة البوسفور التي تدرس موادها باللغة الإنجليزية وتعتبر أهم المؤسسات الجامعية التركية، في عام 1984، من قسم العلوم السياسية، ليحصل لاحقاً على شهادة الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية. ولاحقاً عمل في أكثر من جامعة داخل تركيا وخارجها كان أهمها الجامعة الإسلامية في ماليزيا. وفي عام 1999 حصل على مكانة بروفيسور في تدرجه الأكاديمي، وكان آخر منصب جامعي تولى مسؤوليته هو رئاسة قسم العلاقات الدولية في جامعة "بي كانت" التركية الخاصة الراقية. 

وبسبب خبرته في العلاقات الدولية واطلاعه الأكاديمي الغزير واهتمامه بتطبيق النظريات على الواقع السياسي اليومي، استدعاه "غول" و"أردوغان" للإشراف على مهام الرصد والتخطيط والمشاركة في عملية إطلاق سياسة خارجية جديدة للبلاد، بعد تشكيل حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الاسلامية، للحكومة التركية، ويعتبر الأستاذ الجامعي أحمد داود أوغلو، الذي كان مستشاراً أساسياً للرئيس أردوغان في مجال السياسة الخارجية، إثر الانتصار المدوّي لحزب العدالة والتنمية AKP خلال انتخابات 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، ثم أضحى ابتداءً من أيار/ مايو 2009 وزيراً للخارجيّة، المنظر الاستراتيجي للدور الإقليمي التركي. فهو الذي صاغ التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية، والعقل المدبر وراء التغيير الجذري الذي طرأ على سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم في علاقة تركيا بدول الجوار العربي-الإسلامي.
 
ويبدو المتأمل في دراسة هذه السياسة الخارجية التركية الجديدة، أو السياسة الإقليمية للدولة التركية، أن البروفيسور أحمد داود أوغلو، كان متأثراً بنظرية "صراع الحضارات" التي وضعها المفكر الأمريكي الراحل صموئيل هانتنغتون في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وما أثارته من جدل فكري وثقافي وحضاري بين العالمين العربي الإسلامي، والعالم الغربي.

إعادة صياغة الهوية الوطنية التركية 

كانت تركيا الدولة العلمانية التي تملك روابط قوية مع أوروبا، والمشاركة الأساسية في حلف شمال ألأطلسي، والمنتقلة منذ نهاية الحرب الباردة من الهامش إلى الواجهة في موضوع الأمن في منطقة أوراسيا، تطمح إلى أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي، وأن تؤدي دوراً إقليمياً في جنوب شرق أوروبا، والشرق الأوسط، والقوقاز.

بيد أن تركيا تعاني من أزمة في هويتها الوطنية، التي لم تكن محل إجماع في البلاد منذ إعلان الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى اليوم. وتعد الهوية باعتبارها مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي؛ "من أهم العوامل الحاكمة في رسم السياسة الإقليمية للدول. وبالرغم من دورها الانطلاقي والأساسي في رسم السياسات الإقليمية والخارجية؛ فإنَّ الهوية الوطنية لا يمكن حسابها بالطرق الاعتيادية المتبعة في قياس قوة الاقتصاد ومدى ارتباطه بالاقتصاد العالمي، أو قياس نسبة الصادرات إلى الواردات، وغير ذلك من المعايير الثابتة. لذلك فمن الطبيعي أن تختلف مدركات هذه الهوية من حزب إلى آخر ومن فصيل سياسي إلى غيره من الفصائل خصوصاً في دول العالم الثالث، وهذا الاختلاف يقود إلى اعتماد البرنامج السياسي للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها في القضايا المختلفة ومنها طبعاً السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية" حسب قول أوغلو.

ولا يمكن لتركيا البلد العلماني الكبير، أن يشكل جسراً بين العالم الغربي والشرق الأوسط، جغرافياً واقتصادياً وثقافياً، إلا إذا تمكن من حل معضلة الهوية الوطنية بدلالة الهوية التعددية القائمة على تأسيس العلاقة الممكنة بين الإسلام والديمقراطية، وعلى القبول بمدنية السلطة والتعددية الدينية والفكرية والسياسية وحقوق الأقليات والحريات العامة والخاصة ضمن السياق الاجتماعي العام المقبول.

لقد حولت المؤسسة العسكرية التركية التي سيطرت على مقاليد السلطة لمرحلة تاريخية كبيرة، ورسمت السياسات الإقليمية لتركيا في اتجاه الارتباط بالغرب الأوروبي والأمريكي على مستوى السياسات الإقليمية والدولية، العلمانية إلى أداة لنفي الدين ومحاربته، بدلاً من الاكتفاء بالفصل بين المجالين الديني السياسي كما هو الحال في النظم الديموقراطية الغربية.

 

 

تعتبر العلمانية المنفتحة الحل الحقيقي لمسألة الأقليات في بلد مثل تركيا متعدد الأعراق، والمدخل الحقيقي للمواطنة وبناء الدولة ـ الأمة، الدولة الحديثة الديمقراطية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة والدولة عن الدين.

 

 



العلمانية في تركيا لم تنشأ ضمن سيرورة ثورة ديمقراطية تاريخية تنقل المجتمع التركي من هدأة التأخر التاريخي إلى عصر الحداثة، بل تحولت إلى شعار، يمتلئ كغيره من الشعارات بمضامين أيديولوجية، وبشحنة من الاستفزاز والتحدي، وأصبحت في ظل سيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة بمنزلة المذهب أو العقيدة الأيديولوجية تمارس سلطة الضبط والتدخل والحجر، ومصادرة حرية العقل. فارتبطت بذلك العلمانية التركية بالاستبداد، وتحولت تدريجيا إلى ما يشبه الايديولوجيا المقدسة أو الدين الجديد، وقطعت تركيا عن واقعها التاريخي والحضاري الإسلامي بعد أن عزلت الدولة التركية نفسها عن الاندماج في محيطها الإقليمي، أي العالم العربي والإسلامي، حيث تراكمت مشاكلها مع دول الجوار الجغرافي، وسيطرت عليها النظرة من أنها محاطة بدول معادية، الأمر الذي جعلها دائما تدافع عن نفسها باستمرار في وجهها.
 
بينما تعتبر العلمانية المنفتحة الحل الحقيقي لمسألة الأقليات في بلد مثل تركيا متعدد الأعراق، والمدخل الحقيقي للمواطنة وبناء الدولة ـ الأمة، الدولة الحديثة الديمقراطية، دولة الحق والقانون التي يستقل فيها الدين عن الدولة والدولة عن الدين.
 
لا شك أن هذا التطبيق الميكانيكي والتسلطي للشعارات العلمانية لفترة زمنية طويلة في تركيا هو الذي "أوجد حالة من الاغتراب الثقافي وخلق أزمة هوية شعرت بها مختلف الفئات الاجتماعية، خصوصاً الطبقات الوسطى والكادحة، وهو عامل ساعد على توليد آليات ضغط شعبي للمطالبة بتوسيع نطاق الحريات الدينية والسماح لها بممارسة الشعائر الإسلامية، ولا جدال في أن وجود هذه الحال المجتمعية الرافضة للاغتراب والراغبة في استعادة هويتها الثقافية والدينية مهد في ما بعد لقيام أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية، على رغم من أن هذه الأحزاب لم تبدأ بالظهور إلا عام 1970 حين قام نجم الدين أربكان بتأسيس "حزب النظام الوطني". ومعنى ذلك أن تيار "الإسلام السياسي" في تركيا يُعَدُّ في الواقع تياراً حديث النشأة إذا ما قورن بالدول العربية والإسلامية الأخرى، وهو ما من شأنه طرح تساؤلات عديدة حول أسباب النجاح المذهل الذي حققه في تلك الفترة الوجيزة نسبيا والتي لا تزيد عن ثلث قرن".


التعليقات (0)