يمتاز
المجتمع المصري بحالة من الترابط الاجتماعي
والاهتمام بالمظاهر الاجتماعية بشكل يختلف عن كثير من المجتمعات، ولا أَدَلَّ على
ذلك من التصوّر المشهور بأن "رمضان في مصر يختلف عن غيره من الدول"، فهناك
احتفاء برمضان يراعي المظهر في الشوارع والمساجد، وهناك حالة اجتماعية ترتبط
بالطعام والاجتماع عليه.
تمتد هذه الحالة الاجتماعية والتراحمية في كل المناسبات،
فتجري العادة في مناسبات العزاء، التي تقوم عليها الأُسَر المكلومة لا التي تقام
في قاعات، بأن يُحضِر الجيران ضيافة المُعَزِّين (الشاي والقهوة والسكر)، ويقومون
على تحضيرها وتقديمها دون إشغال لِبَال الأسرة المصابة بهذه التفاصيل، ودون
تكليفهم أموالها كنوع من المساهمة مهما كانت رمزية.
ويختلف التضامن في الريف بصورة أعمق، فبمجرد وقوع
المُصاب ومعرفة أن هناك من سيَقْدم على أهل الميت من خارج المدينة، تجد بيوت
القرية فُتحت للمسافرين، يتخطفهم أهل القرية لضيافتهم وإطعامهم لأنهم على سفر، وقد
شهدتُ ذلك غير مرة.
وفي حال المرض، يأتي الزائر ومعه مبلغ من المال يقتطعه
بقدر ما يستطيع ليساعد المريض في نفقات المشفى أو الدواء، ويتواصى الناس بالزيارة
وإعطاء ما نسميها "النُّقْطَة"، وهي تُسمّى بذلك إذا أُعطيَت في مناسبة
سعيدة أو حزينة، وأحياناً يتسابق الناس على إعطائها مُجَهَّلَة الأشخاص، ليرتفع
الحرج عن المُتلقِّي فلا يعلم المبلغ المدفوع له من كل شخص، ولا يشعر بأنه في حاجة
إلى دفع نفس المقابل لكل واحد، لأن المبلغ صار مشاعاً، ومثل ذلك السلوك الكريم
وجدته في نازلة ألمَّت بالفقير. فإذا كان هذا حال الأتراح، فكيف بالأفراح؟
الأحوال الطيبة المؤنِسَة الباعثة على التراحم والتماسك الاجتماعي اتجهت إلى الانحدار، ولم نعد نشهد منها إلا بعض الجوانب
يشترك المصريون في مناسبات الفرح مهما كانت صغيرة،
فالانتقال من إحدى المراحل التعليمية إلى أخرى يستلزم "النقطة"،
والخِطبة والزواج يستلزمان "النقطة"، والمولود يأتي برزقه ومعه
"النقطة". ثم هناك الزيارات الاجتماعية، ويُعد إحضار هدية للقريب في
زيارة عادية أمرا معيبا، فالضيف مكروم لأنه كلّف خاطره بالزيارة، وفي المقابل
يستثقل الضيف أن يدخل ويده فارغة، فيُحضر ما استطاع لأجل جلسة الأُنْس مع الأصدقاء
أو الأهل.
أما مناسبة العُرْس فحدّث فيها ولا حرج، فالكلُّ مدعوّ
للحضور، ومن يقدر على المساهمة في التكاليف لا يتردد، ويقوم الجيران والأهل
بالتسابق لعمل أصناف الطعام للحضور، وتجهيز مسكن الزوجية للعروس، بدءا من تنظيف
المنزل وانتهاء بفرش الأثاث وكل قطعة ملابس.
هذه الأحوال الطيبة المؤنِسَة الباعثة على التراحم
والتماسك الاجتماعي اتجهت إلى الانحدار، ولم نعد نشهد منها إلا بعض الجوانب، خاصة
في الأفراح؛ فإذا أراد أحدهم أن يتزوج استبدل قاعة أفراح بالمنزل، فيضطر لدفع مبلغ
كان سيتجه إلى إكرام الضيوف في مكان يستأجره، ويضطر الزوجان لاستبعاد بعض الأصدقاء
والجيران، وقد يضطران لاستبعاد بعض الأقارب، وتبدأ الروابط المنصهرة في الاهتراء،
ويخرج قُبْحُ النفوس الذي هذّبته المودة من قبل، وهذّبه اللِّقَا، والتهذيب غَيْر
تعدّد وجوه الشخص.
ثم طرأ طارئ آخر في مناسبات الفرح أيضا، فيتحرَّج الناس
من التزاور لعدم قدرتهم على تقديم هدية لائقة بمُضِيفِهم، ويخشى المستضيف من كثرة
الزوّار فلعله لا يجد شيئا لائقا يقدمه إليهم، وأصبح الجَفَاء سِمَة للعلاقات بغير
قصد، وتباعد الناس عن بعضهم تَبَعاً للضغوط المادية، وهو تباعد ما كان موجودا وقت
صفاء النفوس وعدم تطلّعها إلى المال.
والتطلّع الحالي تطلّع قهريّ من جهة أن قيمة العملة
المصرية بلغت أسوأ وضع لها على مدار تاريخها؛ فالغداء اليومي لأسرة من أربعة أشخاص
بأقل سعر للحوم قد يصل إلى نحو 120 جنيها (الدولار يساوي 19.16 جنيها الآن)، فضلا
عن فواتير الكهرباء والمياه والملابس والمدارس والمواصلات والعلاج، فأصبحت الأسرة
الفقير تحتاج إلى نحو 10 آلاف جنيه لتعيش بكرامة في مأكلها وملبسها ومشربها
وتعليمها وعلاجها، وهذا حلم بعيد المنال حاليا.
هذه الأحوال ليست على هامش الاجتماع، بل تقع في صلبه، إذ
التراحم في المجتمعات أحد عوامل قوتها وتماسكها، وأحد عوامل صناعة الكرامة، فالمرء
الذي لا يحمل همّ قوت يومه بصورة مُلِحَّة ومرهقة، يكون أكثر قدرة على هزم محاولات
إذلاله وكسر إرادته. لكننا اليوم في سباق يوميّ ولحْظِيّ مع متطلبات كسب لقمة
العيش، وتأمين الحاضر والمستقبل، وفي سبيل ذلك قد يتجرّع المرء ما لا يطيق وما
ينتقص من كرامته في سبيل الحصول أو الحفاظ على فرصة عمل، والأخطر أن المرء قد يضطر
لتنازل يتعلق بقيمه وأخلاقه، ومن هنا كانت الضغوط المالية في صُلب الاجتماع
البشري، لأنها تغيّر من سلوك وطباع المجتمعات.
الأوضاع الحالية للمصريين في تراحمهم وتواصلهم صنعت جوانب سلبية في الحالة المصرية، وأظهرت أيضا أوضاعا سلبية كانت مُهذَّبَة بدافع الوُّد والتراحم، وإذا زال السبب سيزول العَرَض
تنشغل النّظم المستبدة بترتيب عمليات الضغط المادي، وتوجيه
المجتمع نحو الاهتمام بالمظاهر الاجتماعية، لكي يصبح المجتمع في حالة جري دائمة
وراء لقمة العيش، ولا تكون هناك فرصة للانشغال بالهمّ الوطني العام، كما تنشغل
النظم المستبدة بتفكيك الروابط الاجتماعية.
وقد دعا السيسي المصريين ذات يوم لتقليل التزاور في
رمضان لترشيد النفقات، بينما هو يريد تفكيك الروابط الاجتماعية، وله سوابق في
عملية التفكيك خلال فترة حكمه وما سبقها، حيث انقسمت أُسَر على أساس سياسي في
سابقة لم تشهدها مصر بذلك الاتساع. وربما لا توجد دراسة معتبرة توثّق حجم
الانقسامات العائلية في السنوات الأولى بعد تموز/ يوليو 2013، لكن الاستقراء يقطع
بوجود ظاهرة تفشّت في المجتمع في ذلك الوقت، وخفتت بعد الإخفاق
الاقتصادي الكبير
في الحكم.
إن الأوضاع الحالية للمصريين في تراحمهم وتواصلهم صنعت
جوانب سلبية في الحالة المصرية، وأظهرت أيضا أوضاعا سلبية كانت مُهذَّبَة بدافع
الوُّد والتراحم، وإذا زال السبب سيزول العَرَض، فالمرض ليس متأصلا في نفوس
المصريين الطيبين، بل أصله الاستبداد، والمستبد قبيح الطلعة والروح.
twitter.com/Sharifayman86