هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أصعب المواقف والأزمنة والأيّام والساعات والدقائق والثواني في حياة الشعوب المغلوب على أمرها تلك التي يكون فيها السلاح غير الرسميّ منتشرا بعشوائيّة، ويكون القتل في البلاد أسهل الفعّاليات، وشوارعها مليئة بالفوضى والرعب والموت وبلا رادع من قانون أو ضمير، أو سلطة جبّارة يُمكنها أن تُخضع الجميع لسلطانها!
ولقد كان العراق ومنذ منتصف الأسبوع الماضي يغلي وبلا هوادة وذلك بعد أن أصْدَر المرجع (الشيعيّ) العراقيّ المُقيم في مدينة قُم الإيرانيّة كاظم الحائري بياناً مليئا بالألغاز، وأعلن فيه الاعتزال الدينيّ كمرجع بسبب وضعه الصحّيّ، وموصيا أتباعه باتّباع مرجعيّة علي خامئني في إيران.
وبعدها وجّه الحائري كلمة طويلة للعراقيّين، وكأنّ البيان ليس للاعتزال الدينيّ وإنّما رسائل (غير بريئة) لـ (شيعة العراق).
وقد نظر مقتدى الصدر لاعتزال الحائري بأنّه القشّة (المؤامرة) التي قصمت ظهره، وذلك لأنّ الصدر من مُقلدي الحائري، وقد استهدف مباشرة في الفقرة (هـ) من بيان الحائري والذي أكّد فيه بأنّه "مَنْ يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدريّين، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لشرائط القيادة الشرعيّة فهو، في الحقيقة، ليس صدريّاً مهما ادّعى أو انتسب"!
ويبدو أنّ هذه الفقرة (مُؤامرة مذهبيّة شيعيّة) لتسقيط الصدر شعبيّا ومذهبيّا أمام جماهيره القادر على تحريكهم بكلمة واحدة!
وبعد ساعات من بيان الحائري قرّر الصدر اعتزال العمل السياسيّ، ومؤكّدا: "لم أدّع يوما العصمة أو الاجتهاد ولا حتّى (القيادة)، ورغم تصوّري أنّ اعتزال المرجع الحائري لم يكن من محض إرادته وكذلك بيانه، إلا أنّني أعلن الاعتزال النهائيّ، وإن قُتِلت فأسألكم الدعاء"!
وبعد ساعة من تغريدة الصدر الناريّة التي ردّ فيها على (مؤامرة الاستهداف المذهبيّ والسياسيّ) عبر بيان الحائري تابعنا كيف أنّ المشهد الأمنيّ انقلب رأسا على عقب، وتفلتت الأمور بدرجة كبيرة، واقتحم أتباع الصدر المُعتصمون أصلا داخل المنطقة الخضراء القصر الرئاسيّ، واستباحوا الخضراء بالكامل، ولكنّ التطوّر الأكبر بدأ حينما أطلقت بعض عناصر أمن الحشد الشعبيّ الرصاص الحيّ على أتباع الصدر، ممّا دفع مسؤول (سرايا السلام) الصدريّة، تحسين الحميداوي، للتلويح بالردّ المسلّح وهو ما حصل بعد ساعة تقريبا!
وهذه النيران (الأخويَة) كانت الشرارة الحارقة لبداية المواجهات الدمويّة، والتي أطلقت شلاّل الدم ببغداد وبعض مدن الجنوب وكانت الحصيلة مقتل أكثر من 45 ضحيّة ومئات الجرحى!
ومع التطوّرات الميدانيّة الدمويّة فاجأ الصدر الجميع، بعد 48 ساعة من الأحداث، بخطاب مُتشنّج من الحنانة في النجف، وربّما أُرغم عليه دعا فيه أنصاره للانسحاب، ومؤكّدا أنّ "القاتل والمقتول في النار"، وغيّر لغة خطابه الذي كان قبل ساعات يحشد لـ"ثورة عاشورائيّة"!
فما الذي تَغيّر؟ وكيف انقلبت الأمور؟ وهل أُرغِم الصدر على خطاب التهدئة؟
هنالك مَنْ يقول إنّ انقلاب الموقف الصدريّ جاء بعد لقائه بالمرجع الشيعيّ علي السيستانيّ، ودعوته للصدر بالكفّ عن التصعيد!
وهنالك مَنْ يظنّ أنّ تهديدات جدّيّة وصلت الصدر من وراء الحدود أجبرته على التراجع، ولكن هنالك مَنْ يرى أنّ الصدر ربّما حصل على ضمانات لتحقيق ما يَصبو إليه في العمليّة السياسيّة!
وأتصوّر أنّ الاحتمال الأقرب، وبمُوجب بعض التسريبات، أنّ المرجع السيستانيّ أجبره على التراجع وإلا سيُفتي بعدم طاعته، وربّما حسبها الصدر بحسابات البيدر ووجد أنّ التراجع خطوة للوراء هي الأسلم، ولهذا لاحظنا أنّ الصدر لم يَكتب كلمته، وكانت كلمة ارتجاليّة وغير مُعدّة سلفا، وكان الإرباك واضحا على لغة جسده!
وبعد كلمة الصدر صار العراق ساحة للخطابات والبيانات الداعمة لخطوة التهدئة الصدريّة، إلا أنّ خطاب نوري المالكي زعيم الإطار التنسيقي كان مُختلفا، حيث تهجّم بوضوح على الصدر، وأكّد "أنّ القوّة لا يُمكنها أن تفرض واقعا سياسيّا يُكْره الآخرين على المضيّ وفق بوصلتها، وأنّ مؤسّسات الدولة الشرعيّة لها كامل الحصانة، والاعتداء عليها جريمة كبرى تعاقب عليها القوانين"!
فيما طالب الإطار بوجوب الإسراع بتشكيل حكومة خدمة وطنيّة لمنع تكرار الفتنة!
ومع هذا التصعيد السياسيّ والقانونيّ هل سيُوافق الصدر على تشكيل الحكومة بعيدا عنه؟
أعتقد أنّ هذا من المُستحيلات الصدريّة، وهذا يعني العودة للمربّع الأوّل!
وفي ليلة الثلاثاء الماضي اتّهم الصدريّون أمن الحشد الشعبيّ بتنفيذ عمليّة إعدام جماعيّة لسبعة متظاهرين صدريّين بالمنطقة الخضراء!
بعد كلمة الصدر صار العراق ساحة للخطابات والبيانات الداعمة لخطوة التهدئة الصدريّة، إلا أنّ خطاب نوري المالكي زعيم الإطار التنسيقي كان مُختلفا، حيث تهجّم بوضوح على الصدر، وأكّد "أنّ القوّة لا يُمكنها أن تفرض واقعا سياسيّا يُكْره الآخرين على المضيّ وفق بوصلتها، وأنّ مؤسّسات الدولة الشرعيّة لها كامل الحصانة، والاعتداء عليها جريمة كبرى تعاقب عليها القوانين"!
ولهذا عاد وزير الصدر الأربعاء الماضي للتهديد ثانية ودعا بتغريدة شديدة إيران لكبح "جماح بعيرها في العراق وإلا فلات حين مندم"، ومطالبا الإطار بإعلان الحداد على ضحايا التظاهرات وإلا "فليعتبروني والتيّار مـن اليوم عدوّهم الأوّل بكلّ السبل"!
فمَنْ هو (بعير إيران) في العراق، وهل هذه التغريدة هي جرس إنذار لعودة الفوضى ثانية؟
ومع هذه التّشنّجات الميدانيّة والإعلاميّة عادت الاشتباكات بين الصدر وخصومه في البصرة ليلة الأربعاء الماضي وحصدت خمسة أشخاص!
وهكذا، ومع هذا الغليان المُتنامي، لا أحد يعلم متى ستُعاود الجمار المُتّقدة تحت الرماد الاشتعال، وساعتها ستعود المواجهات الطاحنة من جديد، وحينها سيختلط الحابل بالنابل مجدّدا!
dr_jasemj67@