هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُقال؛ إن المرأة أقوى عاطفة من الرجل بإطلاق، وأشد منه عشقا باتفاق. بيد أنه حُكم الظاهر، وقول العَييِّ الجاهل، الذي يبني رأيه على كم الدمع المسفوح، وصدى الشهقات المسموع، لا على ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل، في واقع الحال وفي مسيرة التاريخ. فإنَّما نُظِمَت ملاحم العشق المشتهرة كلها فوق أطلال مُعاناة رجال، أفقدهم العشق صوابهم، وأذهلهم عن نفوسهم. وبعد أن كانوا يمتدحون قبيلة المعشوق وقومها وأهلها، إذا بهم يهجون الريح تهب من جهتهم؛ إذ حالوا بينهم وبين التئام نفوسهم بمن عشقت من النساء!
وكما ستجد العاشق مُكتمل الرجولة يُحيي ذِكر معشوقته وقد نهلت من جسده الرماح، وراحت بيض الهند تَقطُر من دمه، حتى ليود تقبيل صفحات تلك النصال اللامعة كثغر المعشوق مُتبسِّما، تشوقا إلى السكون الحيوي الضروري، الذي يصبو إليه في قُربها وهو لم يزل بعد يصطلي إنهاك الحركة في الوجود، فإنك لن تجد لامرأة -من المتقدمين أو المتأخرين ـ أبياتا صريحة في العشق، إلا وهي تتوارى خلفها لرثاء الإنسانيَّة أو بعضها، كأنها لا تستطيع النظم في غرضٍ آخرٍ، إلا إن تستَّرت خلف العشق. فإن المرأة لا تذهل بالعشق عن نفسها؛ لأنه بعض تكوينها المألوف، وإن أنكرته على طول الخط؛ خوفا أو جهلا، أو لأنه ارتبط في أصل وجدانها بالأمومة الساكنة في أعماقها، التي لا تحتاج جهدا لاكتشافها.
أما الرجل، فإن العشق يُخرِجه عن طبيعته، ويُفارق به مألوف أطواره، وهو مع ذلك لا يُنكره، بل يجهر به إن اشتدَّت وطأته وأحكم قبضته ومَلَك رقبته، حتى ليُعيَّره أقرانه بهذا الضعف! فإن العشق من الرجل ليس مقرونا بالأبوة، وإنما مُقترِنٌ برغبة المقاتل في هُدنةٍ عَقِب كل معركة، وتوقه إلى السكون بعد الحركة، إنها حاجة فطريَّة دوريَّة مثل الجنس في إلحاحها، لكنَّها لا تصدُر عن البيولوجيا مثل "عشق" الأنثى للذكر، وإنما تصدُر عن الحاجة الروحية والبدنيَّة إلى السكن المودَع في الأنثى كما أودع في هدأة الليل، وعن هذا السكن نفسه، تصدُر طاقة البيولوجيا الذكوريَّة الدفَّاقة.
ولهذا، فإن الرجل يُنادي امرأته بنداء العشق إن أحبَّ قُربها، أو إن أحب جماعها، أو إن اجتمع السببان في نفسه، وهذا قليلٌ التحقُّق فعلا، وإن كان شائع الحدوث! والثانية تَعرِفُ هذا بغير جهد؛ فهو أشبه بارتباط شرطي، بل إن الرجل يكاد يبوحُ به بوحا جارحا، كلما اضطرمت نفسه بالشهوة. أما الأولى، فإنها غالبا لا تستطيع أن تُدرك كنهه إلا بعد فوات الأوان، بعد أن تمر بعاصفة حياتيَّة؛ تُدرِك فيها أن ما خبرته مع رجلها كان عشقا لا يتكرر إلا لماما، وقد لا يتكرر في حياتها أبدا، وستجد أن من كان يُحبها حبّا ملك عليه نفسه، لا يستطيع مُخالطتها بعد إذ تخلَّت عنه إلا بشق الأنفس، صحيح أنه فُطِمَ عنها بالألم، ولم يعُد يصبو إلى قُربها، بيد أن هذه المخالطة تؤلمه ألما عميقا، وإن لم يُفصح عنه؛ فإن الحب لا يموت وإن تحوَّرت أشكاله، والمخالطة تنكأ الندوب، وتُلهب ما اندمل منها. أما من كان يُحبها حُبَّ اشتهاء، فإن فتور رغبته فيها ـ لأي سبب ـ سوف يُفضي إلى اشمئزاز، يجعلُ المخالطة ميسورة لكنَّها مُنفِّرة.
من المفارقات الإلهية العجيبة، أنه رغم كون العشق خروجا للرجل عن طوره، وتجاوزا به لطبيعته؛ فإنه يظلُّ مكونا مفطورا في جبلَّته، يزيد وينقُص باطراد، مُتناسبا مع حجم نشاطه العقلي، وذلك كما يزيد نشاطه الجنسي وينقُص، مُتناسبا مع نشاطه البدني.
ولا عجب أن يعجز العاشق عن مُفارقة معشوقته إلا كرها، بل يكاد يرجو أن يتنفَّسها، فلا يمكن قطع حبله السُّري هذا إلا بفطام مؤلم منهك، شديد الوطأة؛ إذ يتعلَّق برقبتها كأنها أمه التي لا يستطيع فراقها، مهما كان عمره وخبرته، ومهما عرف من النساء قبلها وذاق من أنوثتهن، وحتى إن كان يكبُرها بعشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة!! وإنها متى قطعتهُ؛ أبغض من تتقرَّب إليه من بنات جنسها، وإن لم يُبغض الجانية! بل وقد "ينتقم" منها فيهنَّ، بيد أنه لا يجسر على الانتقام منها؛ فقد انكشفت نفسه عليها انكشافا يجعله ضعيفا أمامها، كأنها عضو حميم من أعضاء جسده! والأنكى، أنه أراد بانكشافه هذا أن يحتجب بنظرها عمَّن عداها، فأفرط فيه إفراطا عجيبا؛ جعله يأخذ بيدها إلى الأركان المظلمة في نفسه، التي لا يستطيع الولوج إليها وحده، لشدَّة وطأتها على روحه؛ فإذا التجوال في دياجير نفسه يَهونُ، بمجرَّد النظر إلى مَنْ سكنت إليها نفسه.
ورغم أنها تظل ماثلة لعيني روحه وبصيرة عقله، في الود كما في الهجر، وفي الوفاء كما في الغدر، فإن النظر إلى صورتها يظلُّ مؤلما في كل حين؛ إذ يصير في الأولى غُربة عن حضورها، وفي الثانية تذكيرا بغيابها؛ فكأن محض نظره إلى الصورة عذاب لا نهاية له. فإن طال عليه الأمد بعد قطعه، صار حضورها في مُخيلته عزاءه الوحيد، الذي لا يُفارقه حتى في صلاته، حاضرة دوما وأبدا على الهيئة التي تَسكُن بها نفسه، كما كانت حاضرة في كلِّ ركن من أركان حياته. بيد أنه لا يستطيع تحمُّل مجرد التفكير أو الحلم برؤيتها أخرى وجها لوجه؛ إذ صار يفرق من نفسه المكلومة ـ التي كانت تشتفي بالنظر إلى وجهها ـ من أن تنظر إليها بعد الفطام فلا تسكُن، ولذا؛ يريدُ أن تظلَّ كل علاقته بها هو ما استقرَّ منها في خياله وسكن روحه فحسب.
ومن المفارقات الإلهية العجيبة، أنه رغم كون العشق خروجا للرجل عن طوره، وتجاوزا به لطبيعته، فإنه يظلُّ مكونا مفطورا في جبلَّته، يزيد وينقُص باطراد، مُتناسبا مع حجم نشاطه العقلي، وذلك كما يزيد نشاطه الجنسي وينقُص، مُتناسبا مع نشاطه البدني! إذ كلما تنامى نشاط الرجل العقلي، وازداد تدفُّق طاقته الذهنيَّة وتألقها؛ ازدادت حاجته إلى العشق، بل كانت عاطفته كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله؛ فقد جُبِلَ على ذلك لتُوازِن هذه الطاقة العاطفية الهائلة طاقته العقليَّة الجبارة. وقد لاحظ تشارلي شاپلن ذلك في صديقه الصدوق أينشتاين، ورأينا مصاديقه في حياتنا اليوميَّة غير مرَّة، وفي تاريخنا العريض مرات ومرات. لهذا، كان الخاملون ومتوسطو الذكاء و"العاديون" من الرجال، أصحاب نشاط عاطفي ضئيل ـ نسبيّا ـ في اتساق مع حجم نشاطهم العقلي. بل ستجد أن عاطفتهم قد ارتبطت أصلا بالأشياء وبطول التعود، الذي يشحن بالتكرار طاقاتهم العقلية والعاطفية سواء بسواء.
وإذا كانت عاطفة الرجل مثل الحبر الذي يُعكر ماء عقلانيته، رويدا رويدا حتى يعتم الماء بهيمنة هذه العاطفة، ولا يعود بوسع العقل الظهور في هذه العتمة، ولا تبيُّن طريقه؛ فإن أصحاب الطاقات العقليَّة الدفَّاقة يسعون إلى هذه "العتمة العاطفية" عن قصد، ومع سبق الإصرار؛ إذ يجدون فيها راحة مؤقَّتة من نشاطهم العقلي المضني ومن إنهاك وهجه، مما يُعينهم على استعادة توازُنهم الإنساني؛ ليُعاودوا بعدها نشاطهم في سكينة. أما أصحاب القُدرات العقلية المتوسطة، فإن هذه العتمة بلبلةٌ كاملة لعقولهم، ووبالٌ قد لا يستطيعون اجتياز دياجيره أبدا، ومن ثم؛ ترى الحاذق منهم يفرُّ من حركة عاطفته فراره من المجذوم.
وبهذا، نجد في شدَّة العاطفة معيارا مهمّا على حجم الطاقة العقليَّة للرجل، وهو معيار صحيح ما لم يكن الرجل ممن يكبتون عاطفتهم، ويُحرِّمون على أنفسهم التعبير عنها؛ فإنه قد يكون صاحب طاقة عقليَّة مكبوتة أو مُجهضة. كذلك، ستجد أن صاحب الطاقة العقليَّة الجبارة، يُفسح للعاطفة مساحات شاسعة للحكم والهيمنة؛ لا يتحمَّلها الرجل المتوسط العقل، الذي يجتهد لتفادي هيمنة عاطفته، ويسعى لتكريس هيمنة عقله المتوسط طوال الوقت طلبا للأمن البارد.
إذا كان مبدأ عشق الرجل وجوهره هو توقه المؤرِّق إلى السكن، كما سلف منَّا القول؛ فإن المرأة لا تستطيع أن تُدركه ـ ودع عنك أن تُقدره حق قدره ـ إن كانت مشغولة بحركة في الوجود، سواء أكانت هذه الحركة حقيقيَّة تستنزفها في كل يوم فعلا، أم كانت حتى في طور الخطة التي تسعى بها إلى الخروج بحركة من الجواني إلى البراني.
وتلزمنا الإشارة إلى أن العبقري ليس وحده صاحب الطاقة العاطفيَّة الهادرة، وإنما يُشاركه الأحمق في ذلك ولا عجب، وذلك كما يُشاركه في ضخامة حجم طاقته العقلية، بيد أن الفارق بينهما يكمُن في المقدرة على توظيف هذه الطاقة الربانية، وتنظيم مصارفها، وإلا فإن الأحمق قد حباه الله بطاقات هائلة هو الآخر، بيد أنه حرمه من مقدرة التحكُّم فيها وتنظيمها؛ فهي مُبدَّدة ضائعة، مثلها في ذلك مثل الماء الغزير "المهدَر" في مساقط المياه.
وعندنا، أن المعيار العاطفي لحُمق الرجل، مقلوبٌ لمعيار عبقريته؛ فإن الأحمق عاطفته فوَّارة جياشة شديدة التدفُّق، بيد أنها عاطفة هوجاء تُرديه موارد الهلكة؛ فهي لا تُميز بين خيرٍ وشر، ولا بين صالح وطالح، فإن حبه مقرون بأسْفَهِ أهواء النفس، ومبعثرٌ بهذا على كل تافه. أما العبقري، فرغم أن فيض عاطفته هادر هو اﻵخر، بيد أن عاطفته يسوقها العقل إلى مجاريها؛ فتحفرها بسيل لا يتوقَّف، حتى تجري نهرا هادرا في اتجاه محدَّد إلى غاية واضحة. وهذا ما يجعل عاطفة الأحمق تسبق عقله الضامر، فكأنها الماء ينتثر في صحراء. أما عاطفة العبقري، فهي من وراء عقله الحاد، يسوقها إلى المجرى الذي تسيل فيه لئلا يتبدَّد منها إلا مقدار البَخْر. وحتى إن كان المصب صحراء جرداء، لا يُغنيها الماء، فإن هذه العاطفة ستجري فيه من أول منبعها، وإلى آخر ذرة رمل في مصبها، مهما بدت الغاية عبثيَّة وتجلَّى المصب عبثيّا.
وهذا مُنتهى قُدرة العقل الجبار، فإن الله فَطَرهُ على مقدرة يوجه بها هذه العاطفة من المنبع حتى تجري، بيد أنه سبحانه حرمه من أيَّة مقدرة على بناء سدود توقف هذا التدفق، أو حتى تُبطئ حركته؛ فكأنه جمع في أمره بين الاختيار والجبر، وصار أمره كله ـ بعد هذا الاختيار الأولي ـ إلى مُقلِّب القلوب وحده لا شريك له. لهذا؛ فإن العبقري لا يُعاني في اختيار مجرى نهره، ولا في إطلاق الماء ليجري فيه بقوة وانتظام، وإنما يُعاني لأنه لا حيلة له فيما وراء ذلك؛ لا حيلة له ما أُجري النهر من باطنه، ولو كانت الإنس والجن بعضهم لبعض ظهيرا.
وإذا كان مبدأ عشق الرجل وجوهره هو توقه المؤرِّق إلى السكن، كما سلف منَّا القول؛ فإن المرأة لا تستطيع أن تُدركه ـ ودع عنك أن تُقدره حق قدره ـ إن كانت مشغولة بحركة في الوجود، سواء أكانت هذه الحركة حقيقيَّة تستنزفها في كل يوم فعلا، أم كانت حتى في طور الخطة التي تسعى بها إلى الخروج بحركة من الجواني إلى البراني. إن الشرط التكويني الأساس لتذوقها هذا العشق؛ أن تكون هي أصلا ساكنة سكونها الفطري في الوجود البراني، إلا من الحركة الضرورية بقدرها، مما يؤهلها لتلقي الرجل بعد حركته المنهِكة؛ فيسكُن بها؛ إذ لا يُمكن أن تذوق عشق الرجل الناضج، إلا امرأة قد تصالحت مع أنوثتها وتحقَّقت بها. وما عدا ذلك محاولة لاستنبات البذور في الهواء.
صحيفة تركية: أسماء الأسد طلبت الطلاق من زوجها.. ترغب بالذهاب إلى لندن