أخبار ثقافية

كتاب لمارك أوين جونز عن السلطوية الرقمية بالشرق الأوسط (2)

مارك أوين جونز مؤلف وأكاديمي في جامعة قطرية- من موقع منظمة "داون"
مارك أوين جونز مؤلف وأكاديمي في جامعة قطرية- من موقع منظمة "داون"

صدر كتاب للمؤلف والأكاديمي في جامعة حمد بن خليفة في قطر، مارك أوين جونز، يتناول كيف تفشت السلطوية الرقمية في أنحاء الشرق الأوسط، نشره موقع "ميدل إيست أي"، وترجمته "عربي21"، على جزءين.

 

وتنشر "عربي21"، في السطور التالية الجزء الثاني من الإيجاز، الذي جاء تحت عنوان، "التموضع في الشرق الأوسط":


على الرغم من هذه الحالة الملحة، نزعت دراسة التضليل المعلوماتي حتى الآن نحو تفضيل نموذج الحرب الباردة، والذي يضع روسيا والصين في مربع الاتهام بتقويض الأمن الأمريكي والأوروبي. ويندر أن يتم التركيز على دول الخليج المتحالفة مع الغرب. وبنفس الشكل، ثمة نزعة نحو التركيز على العناصر الفاعلة التي تنتج قدراتها الذاتية، مثل الصين وروسيا. 

ليس المقصود هنا التقليل من قيمة مثل هذا البحث، وإنما القول إن ثمة ميلا معياريا نحو التركيز على هذه الدول باعتبارها فاعلة رئيسية في بث التضليل المعلوماتي داخل النظام البيئي. وهو مجال تهيمن عليه المخاوف الأمنية عبر الأطلسي. من وجهة نظر علم الاتصالات والعلوم السياسية، فإن جل الأدبيات الموجودة التي لا تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تركز أيضاً على التضليل الإعلامي الذي يتم بثه من قبل اليمين المتطرف الصاعد، سواء داخل الولايات المتحدة أو عبر البلدان الأوروبية. 

وهذا ينطبق بشكل خاص على الديمقراطيات الليبرالية، والتي كثيراً ما تعتبر تصاعد التضليل المعلوماتي جزءاً لا يتجزأ من تراجع الديمقراطية وتجدد الاهتمام بالمبادئ التحررية أو بالمبادئ السلطوية. كما أن ذلك له معنى، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن التضليل الإعلامي إنما هو منتج وعرض، في نفس الوقت، لعودة صعود الشعبوية. كما أن المقارنات مع صعود الفاشية الأوروبية في ثلاثينيات القرن الماضي أوجد، وهذا أمر يمكن تفهمه، إحساساً بالحاجة الملحة للسعي لفهم دور الدعاية والخداع والشعبوية. 

ولكن بالنسبة لمن يعيشون في الشرق الأوسط، ليس التضليل المعلوماتي بالأمر الغريب عليهم. ومع ذلك، مثله مثل غيره من المناطق الواقعة خارج أوروبا والبلدان التي تتحدث بالإنجليزية حول العالم، يتم تجاهل هذه المنطقة من قبل شركات وسائل التواصل الاجتماعي. 

لاحظ كريغ سيلفرمان، من بازفيد، كيف يميل فيسبوك نحو التركيز على الولايات المتحدة عند التعامل مع التضليل المعلوماتي. كما أكدت سوفي جانغ، الموظفة السابقة في فيسبوك، كيف يميل فيسبوك نحو تجاهل أو تأخير التعامل مع التلاعب في المنصات في أماكن لا تحدث ردود فعل مكشوفة في مجال العلاقات العامة. بالمقابل كان ذلك الإهمال الواضح من قبل شركات التكنولوجيا فيما يسمى الشمال العالمي هو الذي سهل الممارسات غير الليبرالية عبر مساحات شاسعة من العالم. أما الآن فقد غدا واضحاً جداً أن برنامج البحث يحتاج لأن يركز اهتمامه على التضليل المعلوماتي الذي يمارس في الشرق الأوسط وفي أفريقيا. 

تنزع دراسات التضليل الإعلامي التي يتم إجراؤها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو مسايرة اهتمامات السياسة الخارجية الغربية، فعلى سبيل المثال تعتبر داعش وإيران فاعلين سيئين. ولقد أفضى ظهور داعش إلى حدوث انطلاق حاد في قوة الفاعلين خارج إطار الدولة في بث الدعاية الفظيعة والمروعة. كما كان ذلك انعكاساً لحقيقة أن التضليل المعلوماتي أو الدعاية كانت تثير اهتمام صناع السياسة الغربيين فقط حينما كانت تشكل تهديداً للمدنيين الغربيين أو للمصالح الغربية. 

 

اقرأ أيضا: كتاب لمارك أوين جونز عن السلطوية الرقمية بالشرق الأوسط (1)

ومع ذلك يمكن، ولو جزئياً، إيعاز ظهور داعش نفسها، في واقع الحياة أو عبر الإنترنيت، إلى النزوع نحو تجاهل المؤشرات الأولية للأزمة المحدقة قبل أن تنخرط في التيار العام. دون الرغبة في النيل من أهمية دراسة نماذج مثل داعش، أو بالفعل، ما يصدر عنها من تضليل معلوماتي، ما ينبغي أن يقال بهذا الشأن هو أن مثل هذه الدراسة تصرف الانتباه المحدود بعيداً عن كارثة التضليل المعلوماتي الذي تولده حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي باتت دولها جزءاً من المجتمع الدولي وتستمد شرعيتها من الانتماء إليه. 

بالطبع هذا لا يعني عدم وجود شبكة متنامية من العلماء والنشطاء وصناع السياسة والصحفيين الذين يعملون في مجال توثيق انتشار التضليل المعلوماتي في منطقة الشرق الأوسط وتسليط الضوء عليه. ثمة مواقع رائدة باللغة العربية ديدنها التحقق من المعلومات مثل موقع فتبينوا الذي يتخذ من الأردن مقراً له، وكذلك هو حال موقع مسبار. ولكن مهما بذلت هذه المواقع من جهود فإنها تظل محدودة بالنظر إلى وجود 400 ألف ناطق بالعربية حول العالم ووجود أنظمة بيئية إعلامية يتفشى فيها وباء التضليل المعلوماتي. كما أن كثيراً من البحث يركز على قضايا بعينها، والمقالات المنشورة تتوسع في الكلام عن أحداث بعينها، مثل جريمة قتل جمال خاشقجي، أو الأزمة الخليجية، أو التضليل المعلوماتي المتعلق بجائحة كوفيد-19 والذي يكتسب صبغة دينية. 

كما توجد دراسات ناشئة ترتكز على حالات وقعت في بلدان بعينها أو ترتبط بمجموع سكاني بعينه. إضافة إلى ذلك فإن أنماطاً من التضليل المعلوماتي الدوني المرتبط بالأمن السيبراني، مثل الدراسات التي تتعلق بعمليات الاختراق والتسريب، تسلط ضوءاً مهماً على التفصيلات الدقيقة للأساليب المستخدمة وكيف تنعكس آثارها على السياق الإقليمي. ولكن نظراً للحاجة إلى تسليط الضوء على حملات التضليل المعلوماتي بسرعة، فإن الجانب البطيء جداً من النشر الأكاديمي يتسبب في إحداث تباطؤ في التعامل مع مشكلة ملحة وسريعة التغير. 

كما أن الأساليب الجديدة المطلوبة من أجل إجراء تحليل يقوم على المصادر المفتوحة يسبب بحد ذاته انفصالاً في الأدبيات بين أولئك الذين يعملون في مجال علوم الحاسوب وبين العلوم الاجتماعية. ومع ذلك تحظى الدراسات التجريبية بشكل متزايد بتوثيق من قبل منصات إعلامية محترمة تتعاون مع الباحثين، وكذلك من قبل منظمات بحثية تركز اهتمامها على التكنولوجيا وعلى الفحص الرقمي. 

نشر سيتزن لاب، الذي يتخذ من جامعة تورونتو مقراً له، العديد من التحقيقات الفحصية حول السلطوية الرقمية في مختلف أرجاء المنطقة، وكان لبعض الوقت ينشر تحديثاً دورياً بعنوان "الرقابة السيبرانية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا". كما أقام مرصد الإنترنيت في ستانفورد علاقات مع شركات مثل فيسبوك وتويتر، ويقوم من حين لآخر بنشر تحليلات حول عمليات معلوماتية مدعومة من قبل الدولة صادرة من الشرق الأوسط بناء على بيانات يتم توفيرها حول تلك البلدان. وبنفس الشكل، يقوم الكشف العالمي للتلاعب المنظم بوسائل التواصل الاجتماعي الصادر عن معهد الإنترنيت في أكسفورد سنوياً بإجراء مقابلات مع الخبراء في القضايا ذات العلاقة بهذا الموضوع لتوثيق طبيعة التضليل المعلوماتي في سياق عالمي. 

كما بدأ الاتحاد الأوروبي بجمع المعلومات حول التصدي للتضليل المعلوماتي، وكما أشار مارياتجي شاكي، فإن أوروبا واحدة من قلة قليلة من المنظمين الجادين للمؤسسات التكنولوجية الكبرى. ولكن نظراً للمجال الواسع للأساليب المطلوبة لدراسة التضليل المعلوماتي والتعرف عليه، فإن الدراسة تتباين ظروفها ومعاييرها من قطاع أكاديمي إلى آخر. 

قد يبدو نوعاً ما تعسفياً التركيز على جميع البلدان بنفس القدر حين القيام بدراسة منطقة بأسرها. فمصطلح "منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" إشكالي لأنه يستخدم لوصف مجاميع سكانية تتباين من حيث اللغة والتجارب التاريخية والتقاليد السياسية، ناهيك عن ذكر التباينات الواسعة في السياسات الخارجية والأولويات المحلية. ولكن، ودون الرغبة في الظهور بمظهر المختزل، ما زالت كثير من الدول ترتبط ببعضها البعض من خلال خيوط مشتركة، وخاصة فيما يتعلق بالدين واللغة والإرث الإمبريالي والهيمنة الاستعمارية. أي أن هذا المصطلح يبقى في الحد الأدنى مرشداً مفيداً رغم ما يعتريه من عيوب. 

في سياق هذا الكتاب، تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مجموعة مترابطة، حيث يتنافس الكثير من الفاعلين لخدمة مصالحهم. إن من الأهمية بمكان الإقرار بأن "منظومة الخداع" لا تقتصر على الدول السلطوية التي تتواجد داخل حدود جغرافية تميزها تماماً عن غيرها. 

بينما بات دور الإنترنيت ووسائل الإعلام الرقمية موضع دراسة من قبل العديد من التخصصات الأكاديمية، إلا أنه ما زال ثمة نزوع داخل الجهود البحثية المتعلقة بالمنطقة، وبشكل أوسع ضمن السياق العالمي، للتركيز على الدولة كوحدة أساسية للتحليل – سواء من حيث سياسات الدولة أو من حيث ما تقوم به من نشاطات. وينطبق ذلك بشكل خاص على الدراسات المعنية بالمرونة السلطوية في المنطقة، حيث يتم التركيز على قابلية النظام للاستمرار. مجمل القدرة التي يتمتع بها الفاعلون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنبع من الاستفادة من التقنيات ومن الموارد البشرية من الصين وأوروبا وشمال أمريكا، التي عادة ما تسمح لمثل تلك الخبرات بأن تكون محل شراكة انطلاقاً من كون كثير من هذه البلدان أصلاً شريكة لها في الغايات التي تسعى لتحقيقها من خلال سياساتها الخارجية. 

وليس المقصود هنا التقليل من أهمية دور الدولة، وإنما الاعتراف به كواحد من بين كثير من الفاعلين في إيجاد السلطوية الرقمية، والإقرار بأن الدول، وبينما تتفاعل مع الكيانات الأخرى، بإمكانها أيضاً وبسهولة أكبر استعراض قوتها متجاوزة حدودها حين يتعلق الأمر بالسلطوية الرقمية. 

أحد الجوانب التي يعتني بها هذا الكتاب هو أن السلطوية الرقمية تتضمن فصلاً بين الممارسات السلطوية وانتزعاً لها من فضاءاتها، بحيث تتجاوز الحدود التقليدية للدولة. فالسلطوية الرقمية مشروع تعاقدي، وفي هذا المجال تبرز قوى ومراكز رقمية جديدة هي التي تستعرض نفوذها إلكترونياً. والعنصر الهام في ذلك هو تقنية الحرية الجديدة التي يجري نقاشها في الفصل التالي. 

إذن، بينما تنتشر تجمعات التضليل المعلوماتي حول القارات، يشير مصطلح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام إلى المواقع والمجاميع السكانية المستهدفة والمستغلة ضمن سياق هذه العمليات، والتي تنبع عن منظومة الخداع التي تناقش في الفصل الثاني. في نفس الوقت، بينما يتطرق الكتاب إلى العديد من الحالات التي تمت دراستها، ينزع التركيز لأن يكون منصباً على الأحداث وعلى اللاعبين في منطقة الخليج الفارسي. وبالفعل، وكما يحاجج هذا الكتاب، أفضت سياسات منطقة الخليج إلى العديد من عمليات الخداع العالمية منذ عام 2011. 

نظراً لأن أغلبية دول الخليج مصنفة من قبل معظم المؤشرات على أنها سلطوية، فإن من الأهمية بمكان إدراك كنه السياسات الرقمية غير الليبرالية. ولكن بما أن دراسة التضليل المعلوماتي شيء جديد، وكثيراً ما يتم غض الطرف عن منطقة الشرق الأوسط، فإن ذلك يعني أن كثيراً من الأسئلة ذات العلاقة تبقى بلا أجوبة. تمتد هذه الأسئلة لتشمل العديد من المجالات الدراسية، ولكنها تتعلق بشكل خاص بالعلاقات الدولية والعلوم السياسية والاتصالات. يشير فيرارا وشركاؤه فيما يتعلق بموضوع الاتصالات إلى أهمية التعرف على "محركي الدمى". 

وبالفعل، من خلال البحث في هوية أولئك الذين تستهدفهم البرامج الآلية، وما الذي يتحدثون عنه، ومتى قد يتخذون إزاء ذلك إجراء ما، فقد نكون قادرين على تحديد من ذا الذي يقف من ورائها. تتداخل مثل هذه الاستفسارات مع مطالب منظري العلاقات الدولية، الذين يسعون لفهم "لماذا تستخدم الدول والعناصر الفاعلة خارج إطار الدولة التضليل المعلوماتي، ولماذا يبدو التضليل المعلوماتي أكثر انتشاراً في السياسات الدولية هذه الأيام مقارنة بما كان عليه الوضع في أي وقت مضى."

من أجل ذلك لا بد أولاً من أن نوثق عمليات الخداع ونكشفها، ثم نحدد من يتحمل المسؤولية عنها، وكيف يعملون، وعلى أي مستوى يشتغلون. بإمكاننا القيام بذلك من خلال فحص السمات المنطقية والتكتيكية والاستراتيجية للمحتوى المخادع. ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة يمكننا أن نبدأ بفهم من هم أكبر اللاعبين في عملية الخداع التي تجري في المنطقة، وما الذي يسعون لإنجازه. 

لحظة ما بعد الحقيقة في الخليج

إذا أخذنا ما ورد أعلاه في الاعتبار، يثبت هذا الكتاب تحقق لحظة ما بعد الحقيقة في الخليج، وهي فترة من الزمن تتميز بتعزيز السلطوية الرقمية التي تقودها بشكل أساسي الدولتان العضوان في مجلس التعاون الخليجي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. يسعى الكتاب إلى شرح لماذا برزت هذه اللحظة وما هي طرائقها المتعددة – أي ما هي تكتيكات وأساليب الخداع؟ ومن الأقاويل التي تورد في هذا الصدد أن التفاؤل التقني الذي تميزت به ثورات الربيع العربي، والتي انطلقت في 2010، هو الذي مهد السبيل لانطلاق السلطوية الرقمية، والتي يعتبر الخداع أحد أركانها الأساسية. 

فنفس وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الرقمية التي ساعدت على تأجيج الثورات العربية تستخدم الآن كأدوات للقمع من قبل الثورة المضادة، وخاصة من قبل دول خليجية بعينها، حماية للوضع السلطوي القائم في أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبشكل خاص من التهديدات التي يشكلها الخطر "الإسلاموي" المظنون ويشكلها التوسع الإيراني. 

على الرغم من أن هذا الكتاب يستعرض سلاسل العمليات المعلوماتية في العديد من الدول ومن قبل العديد من العناصر الفاعلة، إلا أنه يركز بشكل أساسي على اللاعبين الكبار – وذلك انسجاماً مع الميل المعياري للتركيز على العوامل السائدة. ويرى، بشكل خاص، أن المملكة العربية السعودية، وإلى حد ما دولة الإمارات العربية المتحدة، هما الدولتان الأكثر استعراضاً لقوة الإعلام الرقمي حيث يسود اللسان العربي في منطقة الشرق الأوسط. 

من الجدير بالملاحظة أنه يسهل إلى حد ما افتراض أن جميع البلدان أو الكيانات تتسم بنفس القدر من السلوك. من المؤكد أن جميع البلدان تقريباً تشارك في العمليات المعلوماتية، ولكن سيكون من الأجدى أن ترتكز مثل هذه التحليلات حول الفاعلين السيئين واستخدامهم للتضليل المعلوماتي على المصادر المعروفة للتضليل المعلوماتي بدلاً من السعي لتوليد تكافؤ زائف من خلال المبالغة في توصيف الحالات. فالقيام بذلك يفضي إلى تشيئ مفهوم مساواة التضليل المعلوماتي بناء على تكافؤ تعسفي مرتكز على الدولة ما بين قطاع واسع من الفاعلين المختلفين، سواء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو في غيرها. 

وبالفعل، ثمة سبب يفسر لماذا يركز دارسو التضليل المعلوماتي عادة على القوى الكبيرة مثل روسيا والصين وإيران. فليست كل الدول لديها نفس القوة وكثافة السكان والسلطوية، كما سنرى، ونفس القدر من الخداع. 

وبالفعل، فإن السؤال المفيد الذي ينبع من ذلك هو: من هي القوى الكبرى المخادعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ من خلال التوثيق التجريبي لحملات التضليل المعلوماتي المعروفة، يثبت هذا الكتاب أن المملكة العربية السعودية بالذات ينبغي أن تعتبر قوة عظمى من الناحية الرقمية، على الأقل في عالم الخداع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً تويتر. وهنا يعني كونها قوة عظمى من الناحية الرقمية أنها تستخدم الموارد البشرية والتكنولوجيا الرقمية لشن عمليات للتأثير على ثلاث جبهات – محلياً وإقليمياً ودولياً – بطريقة مستمرة ومتطورة. 

يمكن النظر إلى المحفز لهذه اللحظة باعتباره تطوراً غير مفاجئ ينجم عنه تحديث السلطوية. بمعنى آخر، إنه الميل لدى الأنظمة السلطوية نحو تحديث قدرتها على مقاومة المعارضة والتكيف مع التحديات الجديدة (مثل وسائل التواصل الاجتماعي). 

من الممكن تمييز لحظة ما بعد الحقيقة في الخليج بالدخول إلى عهد جديد من السياسة الخليجية، تشكل إلى حد كبير من خلال التحالف الذي أبرم ما بين إدارة ترامب ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. فسياسة إدارة ترامب المتمثلة في ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران وسعيها الدؤوب لتشجيع التطبيع بين الخليج وإسرائيل وفر الأرضية الخصبة للتآزر ما بين التضليل المعلوماتي والخداع. 

تداخل ذلك مع الرؤية الجديدة للشرق الأوسط بقيادة حكام كل من المملكة العربية السعودية وأبوظبي، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، حيث سعى هذان المستبدان الصاعدان إلى وضع شعبيهما في مقدمة اللحظة الخليجية الجديدة، وهي لحظة تسعى للتطبيع مع إسرائيل وزيادة العداوة تجاه إيران والإسلام السياسي. 

كما يمكن تعريف لحظة ما بعد الحقيقة الخليجية من خلال عمليات التآزر للتضليل المعلوماتي، حيث تتغذى السياسة الأمريكية اليمينية المتطرفة وغايات السياسة الخارجية لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على بعضهما البعض في مجازات يعزز بعضها بعضاً. 

من الجوانب المثيرة للحظة ما بعد الحقيقة في الخليج ظهور النزعات الطغيانية والشمولية. فمن أجل خلق "حالة دائمة من التعبئة" حيث يناصر المواطنون زعيمهم "المهدوي" الجديد ويدافعون عنه، يلجأ الزعماء الشموليون في العادة إلى استدعاء الخصوم الخارجيين لصرف الناس عن الانشغال بنقد السياسات الداخلية. 

في الخليج، وبالذات في المملكة العربية السعودية وفي الإمارات العربية المتحدة، ابتدع الحكام "محوراً للشر" يتكون من جماعة الإخوان المسلمين وقطر وتركيا وإيران. ولذلك فإن أي تعبير عن التعاطف مع هذه الكيانات، وكذلك أي انتقاد يوجه لحكومتي السعودية والإمارات، يواجه بقمع حازم. وكجزء من محاولة شرعنة إعادة توجيه السياسة الخليجية، تركز جهود التضليل المعلوماتي والدعاية على السعي لإنشاء محور شر كفزاعة إقليمية يفترض أنها تشكل تهديداً لمجلس التعاون الخليجي. 

يسلط هذا الكتاب الضوء على حقيقة أن الحيز الرقمي في العالم العربي ليس ملعباً مستوياً ولا أفقياً يتسنى للأفراد أو الدول التنافس داخله بالتساوي. وكما هو حال القوة العسكرية التقليدية، بعض الدول تصب قدراً أكبر من الموارد في جهاز الخداع الرقمي لديها، مغذية بذلك غاياتها الاستراتيجية المختلفة. وبنفس الشكل، وكما هو الحال مع أي نظام استبدادي أو شمولي، تلعب شخصية الزعيم دوراً مهماً حين يتعلق الأمر بكيفية تجلي تلك الاستراتيجيات التي تتبع من أجل التحكم بالمعلومات.  

ما ورد أعلاه مقتطف من كتاب: السلطوية الرقمية في الشرق الأوسط: الخداع والتضليل المعلوماتي ووسائل التواصل الاجتماعي (الصادر عن دار هيرست للنشر في عام 2022). 

 

التعليقات (1)
نسيت إسمي
السبت، 20-08-2022 12:16 م
1 ـ (بين العين السلطوية والأنف النبيل) في شوارع برلين المحفوفة بالأشجار والزهور، بينما كنتُ أتسكّع فيها كغريبة تبحث عن شيء ينقصها كي تشعر بالانتماء الراسخ إلى المكان، اقتحمتني رائحة كما لو أنها قادمة من الماضي، لا أستطيع القول إنها أضرمت حنيني، فما أحدثته من اضطراب لدي أمر مختلف، قد يكون مستبطنًا حنينًا ما، إنما المشاعر التي انتابتني كانت مختلطة بسؤال راح يكبر حتى امتلأت به، إنها رائحة "عطر الليل". شجرة عطر الليل التي تنمو في كثير من جنائن البيوت السورية، كريمة حدّ الإبهار، مع انسحاب الشمس من الأفق، تبدأ الشجرة زفيرها من دون ضجيج، تتسلّل إلى المساأت وتعتلي النسمات فتسافر إلى أقاصيها، شجرة كريمة، توزّع عطرها بلا تمييز ولا حدود. اعتراني شعور عارم بنشوة جعلت من كياني خفيفًا مثلما لو كنت أطير مع النسمات المضمّخة بعطر الليل، ورغبة قويّة بأن أشارك الآخرين بالرائحة، أنا الوحيدة الغريبة التي تتسكّع في مدينة غريبة. لماذا لا أستطيع مشاركة الآخرين بهذا العطر؟ كنت، كغيري، ألتقط الصور لما يلفتني إن كان لناحية الجمال أو لطرافة في مشهد ما، أو حدث أكون سباقة في إشهاره أو مشاركة الآخرين به على مواقع التواصل، هذا ما يحصل معنا اليوم في عصر الصورة والوسائط المتعددة والتقنيات الذكية التي تمنحنا إمكانية التزامن أو المحايثة، هواتفنا الجوالة في أيدينا، نلتقط ونوثّق ونشارك الآخرين، أصدقاءنا الافتراضيين وغير الافتراضيين، بما حصلنا عليه، بما شاهدناه، بما نشعر به، بما نفكّر به أيضًا "بقلم سوسن جميل حسن". 2 ـ قال الناقد الأدبي المغربي سعيد يقطين إن العرب يتعاملون مع الإعلام الرقمي بوصفه مجرد وسيط تكنولوجي فقط وليس باعتباره ثقافة ومعرفة وفلسفة وخيالاً. 3 ـ (كفاأت رقمية) من المفترض ان تكون هناك كفاأت رقمية مؤمنة لبناء مجتمع معرفي في مجالات كافة من خلال تأهيل المواطن معرفياً ورقمياً بناأً على مجموعة فرضيات تؤكد ذلك وتكون من خلال: 1. الرقمنة هي ثورة الاتصالات تسهم في تغيير المجتمعات والاجيال المستقبلية نحو الافضل بالاستخدام الرشيد لهذه التقنية. 2. تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات تتطلب سياسات حديثة. 3. الانترنت تغيير في العالم والمنطقة العربية واكتساب المعرفة وحرية العمل والتصرف ولا يمكن للحكومات إيقاف هذه العملية الرقمية، فالمستقبل في تطور دائم.