هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لأول مرة في تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل تغيب القيادة النقابية غيابا تاما في منعطف تاريخي خطير ستكون له استتباعاته الكبرى على مستقبل البلاد، حيث كانت المنظمة الشغيلة حاضرة وفاعلة في كل المحطات الكبرى في تاريخ تونس منذ معركة الاستقلال إلى الثورة والعشرية التي تلتها، ولكنها اختفت تدريجيا عن الصورة خلال الأسابيع الماضية إلى أن اختفت تماما قبيل الاستفتاء وبعده كأن لم تكن. وهو ما يؤكد تماما ما جاء في التحليل الذي نشرناه قبل أسبوعين في "عربي21" حول تدهور دور الاتحاد وانهيار قدرته التفاوضية.
الغيبة الكبرى
اختفاء تام، لا موقف ولا تعليق ولا مجرد صورة من أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي أو بقية أعضاء المكتب التنفيذي البارزين خلال يوم الاستفتاء وأثناء الجدل الشديد قبله وبعده، عدا صورة يتيمة مقصودة لقيادي حرّكه ولاءه الأيديولوجي وربما طموحه وترشحه للعب أدوار "بن عيادية" في الأيام القريبة القادمة (نسبة إلى نور الدين بن عياد مساعد رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري الذي قاد عملية انقلاب على قيادة الاتحاد بتكليف من الرئيس سعيد حسب تصريحه).
مواقف متضاربة دون خيط رابط
سيحتار المؤرخون مستقبلا في استخلاص وتكييف موقف اتحاد الشغل الدقيق من الاستفتاء على دستور قيس سعيد، بالنظر لتضارب التصريحات وقرارات هياكل الاتحاد، ولتهرب قيادات الاتحاد من إبداء مواقف واضحة مثلها مثل بقية مكونات المشهد: إما موالاة أو معارضة أو مقاطعة.
اتحاد الشغل قرر في هيأته الادارية المنعقدة في 27 حزيران (يونيو) الماضي عدم مقاطعة الاستفتاء والتسجيل في الحملة الانتخابية. وهو ما فهم منه رسالة لقرطاج مفادها القبول بمسار الاستفتاء والنأي بالنفس عن دعوات المقاطعة التي وحدت قوى المعارضة من يمينها ليسارها وشملت قوى مدنية ومنظمات وجمعيات وشخصيات شريكة للاتحاد خلال السنوات الماضية أغلبها من ذوات التوجهات التقدمية الرافضة لفصول دستور سعيد التي فيها مس بمبدأ الدولة المدنية.
وبرر الناطق الرسمي باسم الاتحاد ذلك القرار بكون "التسجيل إجراء شكلي لا يمس في الجوهر الموقف من الاستفتاء ومن الدستور الذي لا يمكن اتخاذه إلا بعد الاطلاع على النسخة الرسمية منه".
وبعد صدور النسخة الرسمية في الرائد الرسمي يوم 30 يونيو، والجدل الكبير الذي ترتب عنها خاصة في الأوساط التقدمية والحداثية المقربة من الاتحاد، عقدت القيادة النقابية هيئة ادارية استثنائية بتاريخ 2 تموز (يوليو) خرجت فيها بموقف "اللاموقف" تجاه الاستفتاء. حيث ختمت بيانها بالتأكيد أنه "اعتبارا لمجمل التحفّظات والاعتراضات واستنادا إلى مبادئ الاتحاد المضمّنة في قانونه الأساسي ونظرا للتنوّع والتعدّد داخل الاتحاد العام التونسي للشّغل، فإنّ الهيئة الإدارية الوطنية.. تقرّر ترك حرّية التصويت لفائدة الهياكل النقابية وكافّة العمّال".
وهو موقف يعكس التناقضات الكبرى داخل البيروقراطية النقابية والاختراقات المتعددة والخوف من الانقسام والغدر الداخلي، مصداقا لما بيناه في مقالنا السابق.
وكان من مقررات الهيئة الادارية ذاتها الرجوع عن قرار التسجيل في الحملة الانتخابية. هذا الموقف مفهوم بالنظر لأن مشاركة القيادات النقابية في الحملة الانتخابية للاستفتاء كمنظمة أو كـ "أشخاص طبيعيين" كانت ستظهر التناقضات الكبرى في مواقف تلك القيادات تجاه الاستفتاء وتجاه دستور سعيد وانقلابه على الديمقراطية، وتفتح أبواب التناحر والتنازع بين تلك القيادات.
احترازات كبرى على الدستور ورفض صامت
بتاريخ 14 تموز (يوليو)، وبعد صدور النسخة المعدلة من الدستور التي تم فيها بإدخال 46 تعديلا بخصوص "أخطاء تسربت" إلى المشروع الأصلي حسب قول الرئيس، صدرت في موقع الاتحاد وفي ركن "البيانات" وثيقة موقعة من الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي تحت عنوان "ملاحظات الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن مراجعة مشروع الدستور موضوع استفتاء 25 تموز (يوليو) 2022 ".
تضمنت تلك الوثيقة قراءة نقدية مطولة في مشروع دستور قيس سعيد، جمعت بين الملاحظات الشكلانية البسيطة والاحترازات الجوهرية، وبدأت بتسجيل إيجابيات التنقيحات التي أدخلها قيس سعيد في نسخته الثانية، كالعادة للتوازن وتخفيف نبرة المعارضة للرئيس.
هذا ما تخشاه البيروقراطية النقابية: استهداف مباشر من الرئيس المهيمن على كل السلطات والصلاحيات، والخبير بطرق التهديم والانقلاب المؤسساتي، ينهي وحدة الاتحاد ويسحب الشرعية من قيادته، ويضع على رأسه عناصر موالية له تسهر على تدجين المنظمة وتحييدها قبيل انطلاق الحكومة التونسية في تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي.
الوثيقة التي انتقدت "التفرّد الذي طبع صياغة المشروع المذكور". ركزت على الإخلالات الجوهرية في منظومة القيم والمرجعيات والإصرار على "تغييب القيم الكونية لمنظومة حقوق الإنسان ورغبة جامحة في إعادة كتابة مسار التاريخ من منظور ذاتي". كما اطنبت في الحديث عن المخاوف من جعل "العامل الديني عنصرا من عناصر الحياة السياسية والقانونية للدولة وتوظيفه في البناء المجتمعي بما يمثل تهديدا جديا وخطيرا لسيادة القانون ولمنظومة الحقوق والحريات وللمواطنة والمساواة وللطابع الوضعي للنصوص التشريعية".
كما تطرقت إلى الإخلالات الأساسية الواردة في المشروع "التي تعيق بناء دولة القانون والمؤسسات وإرساء نظام سياسي مدني ديمقراطي اجتماعي قائم على الفصل بين السّلط والتوازن بينها وحماية الحقوق والحرّيات وإنفاذها".
كلام لرفع الملام
اكتفت القيادة النقابية بنشر ذلك النص على موقعها على الأنترنت دون حرص على تسويقه ونشر مضامينه. ولم يعقد الاتحاد مؤتمرا صحفيا لتقديم الموقف ولم يعقد ندوة حوله ولم تصدر أي تصريحات لتوضيحه.
وبدا من الواضح أن القيادة النقابية لم يكن هدفها من إصدار الوثيقة النقدية لمشروع الدستور إبداء موقف مبدئي يحتكم إليه النقابيون في قرارهم بالمشاركة من عدمها ومن الموافقة أو الرفض، بدليل استبعاد خيار المقاطعة قبل إصدار الوثيقة ذاتها، وعدم التنصيص على ضرورة الاستناد للوثيقة كاطار لاتخاذ الموقف من الدستور المقترح
كما بدا من الواضح أيضا أن الهدف من الوثيقة لم يكن تحذير الرأي العام من تناقضات مشروع الدستور وخطورته، بدليل سحب طلب التسجيل في الحملة الانتخابية، والامتناع عن القيام بحملة تلقائية خارج اطار الحملة الرسمية كما فعل المحترزون من الدستور من حلفاء المنظمة النقابية.
الاتحاد رفض مقاطعة الاستفتاء، ولم يدع إلى المشاركة فيه، ومنح قواعده حرية المشاركة دون أي تأطير. وسجل في الحملة الانتخابية ثم انسحب منها، وأصدر قراءة نقدية للدستور المقترح فيها احترازات جوهرية دون أن ينبني عليها موقف مبدئي ودون طرحها للرأي العام. ولم يحتج على سير الاستفتاء ولم يرحب بنتائجه كلها مؤشرات تؤكد موقف "اللاموقف".
مبررات اللاموقف
عنون دايفيد هيرست مقاله الأخير الصادر في صحيفة "ميدل إيست آي" بتاريخ 26 حزيران (يونيو) 2022 "بعد الدستور، النقابات هي هدف قيس سعيد". وأكد فيه أن اتحاد الشغل سيكون الضحية القادمة لـ "البلدوزر سعيد" الذي "لا يهتم بالتفاصيل ويريد القوة المطلقة لأنه يعتبر نفسه سلطاناً" "بعد إزاحة زعيم حزب النهضة من الطريق".
بالضبط هذا ما تخشاه البيروقراطية النقابية: استهداف مباشر من الرئيس المهيمن على كل السلطات والصلاحيات، والخبير بطرق التهديم والانقلاب المؤسساتي، ينهي وحدة الاتحاد ويسحب الشرعية من قيادته، ويضع على رأسه عناصر موالية له تسهر على تدجين المنظمة وتحييدها قبيل انطلاق الحكومة التونسية في تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي. وهناك العديد من القيادات النقابية العليا مستعدة للعب هذا الدور خاصة من التيارات الداعمة لقيس سعيد مثل حركة الشعب وحزب الوطنيين الديمقراطيين.
الخشية من هذا المصير المنظور هي التي تبرر كل التردد والتخوف والتضارب في مواقف البيروقراطية النقابية، وتبرر الغيبة الكبرى التي هي بمثابة "غيبوبة اصطناعية" هدفها إبقاء الجسم المهدد بالانهيار على أمل استعادته لعافيته.. ربما في حال تمت ازاحة الخطر الداهم.. أي انتهى الانقلاب على الديمقراطية.
لو حصل هذا الاستهداف، لن تجد البيروقراطية النقابية في المجتمع من سيدافع عنها، لأنها أحرقت كل سفنها وبددت كل أوراقها، وخسرت موقعها في قيادة المشهد السياسي الاجتماعي ورعاية الحوار الوطني، وخسرت مكانتها كسلطة أخلاقية عبر انقلابها على الديمقراطية الداخلية للمنظمة وتزويرها لإرادة النقابيين وانخراطها في منظومة الفساد والتنفع من المال العام، وخسرت حتى دورها الطبيعي كراعية لحقوق العمال ومعيشة الفقراء وحقوق الشعب الكريم الاجتماعية بسكوتها عن الانتهاكات والسياسات غير الاجتماعية عبر تسييس الإضرابات والاحتجاجات وتحريكها وإيقافها حسب التقديرات السياسوية والمصالح الفردية.
على نفسها جنت براقش.