كتب

محددات الاختلاف وأخلاقيات التعايش في التشريع الإسلامي

الحوار بين الفرق والمذاهب الإسلاميّة الفاعلة اليوم بات ضرورة حضارية ملحة
الحوار بين الفرق والمذاهب الإسلاميّة الفاعلة اليوم بات ضرورة حضارية ملحة

الكتاب: "الاختلاف وأخلاقيّات التعايش في الفكر التشريعي الإسلامي"
المؤلّف: د. منير بنجمور
النّاشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختص
الطّبعة الأولى: 2019
عدد الصفحات: 207


لم يعد من شكّ في أنّ الحوار بين الفرق والمذاهب الإسلاميّة الفاعلة اليوم في مجريات الأحداث الدّينية والفكرية والسياسيّة، بات ضرورة حضارية بالغة الأهمية، بل وفريضة تتطلّب بذل قصارى الجهد لتتعايش مع بعضها، في قطيعة تامّة مع إرث الخصومة التاريخية وتطلّعا لبناء مستقبل الأمّة المشترك.

ولتحقيق الغاية المنشودة يكون من الوجاهة تمثّل المعايير العلميّة والأخلاقيّة في الحوار فيما بينها، خاصة مع استفحال ظاهرة المد المذهبي، التي باتت زائدة دودية مصاحبة لتوسّع الظاهرة الدّينية وتسارعها، سواء داخل نفس المجتمع العربي الإسلامي أو خارجه، وهو ما أذكى إلى حدّ كبير شعلة التعصّب وغذّى الفرقة بين المذاهب وفرمل باستمرار ورشات العمل المشترك على المستويين الوطني والاقليمي.

وبما أنّ المد المذهبي المعاصر، خاصّة فيما يتعلّق بالصراع الإيديولوجي، استدعى خلطا مسقطا بين الجانبين الدّيني والسياسي، فإنّ أُثاره لم تقف عند مستوى التعصّب المذهبي سواءُ عند السنة أو الشيعة، بل تعدّته إلى مستوى تهديد وحدة المسلمين وأمنهم من جهة وشلّ حركة الاجتهاد من جهة أخرى. يحصل كلّ هذا في الوقت الذي استقر فيه الرأي عند أغلب الباحثين في تاريخ التشريع الإسلامي على أنّ الاختلاف بين المذاهب الإسلامية وتنوعها قائم في بعض الأصول وفي كثير من الفروع. وعليه يكون من الأهمية بمكان التصدي لهذه الظاهرة من خلال استنطاق مقالات المنصفين من علماء الشريعة بغاية تأسيس قواعد علميّة وأخلاقية في الحوار بين المذاهب تجاوزا للصراع القائم بينها وتحقيقا للعيش المشترك. 

في هذا الإطار يتنزّل كتاب الدكتور منير بنجمور، أستاذ محاضر في الفقه وعلومه بالمعهد العالي لأصول الدّين، جامعة الزيتونة تونس وبكلية الحقوق والعلوم السياسيّة بجامعة تونس ـ المنار، الذي اجتهد في جمع شتات ما تفرّق وتناثر في بطون كتب الفقه وأصول الفقه وغيرها بما "يمكّن من بناء رؤية متكاملة تكون مرجعا للمختلفين، تحملهم على الإنصاف، وتكشف لهم عن قواعد الحوار المثمر، وتحيد بهم عن الصراعات المذهبيّة والإيديولوجيّة المقيتة".

وتقوم الدّراسة التي يعرضها بنجمور أساسا على الخطاب الحجاجي، بما هو استدلال على أصالة مبدأ الخلاف، وشرعيّة الاختلاف، استدلال نابع من النّصوص الدّينيّة أوّلا، وراجع إلى ما وضعه علماء الشريعة من أصول وقواعد ثانيا، وجار في الفتاوى والأحكام ضمن حركة الاجتهاد التي امتدّت قرونا في مرحلة ثالثة.  كما أنّ الدّراسة "مراوحة بين بين التأصيل المفاهيمي والمعرفي لمسألة الخلاف الفقهي، والتأسيس لجذور هذه الظاهرة في سياقاتها التاريخيّة والوفاق بين سائر المذاهب، من خلال ما جادت به أقلام العلماء من القدامى والمحدثين، وما اقتضته ضغوطات الواقع".

ويجدر التذكير بأنّ الدّكتور منير بنجمور هو خبير في القانون الدّولي الإنساني ومستشار سابق لوزير الشؤون الدّينيّة وعضو سابق بالمجلس الإسلامي الأعلى في تونس. وله مؤلفات عدّة، منها: "القضايا الطبيّة المعاصرة ومقاصد الشريعة" و"القضايا الماليّة المعاصرة ومقاصد الشريعة" و"أنموذج السلطة أم سلطة الأنموذج (جدل الدّيني والسياسي في الفكر التشريعي الإسلامي، قراءة من الدّاخل في التّأسيس والامتداد)".

فكرة الكتاب
   
وفق ما أوضح د. منير بنجمور في خاتمة المقدّمة العامّة للكتاب، فإنّ هذه الدراسة المعنونة بـ "الاختلاف وأخلاقيات التعايش في الفكر التشريعي الإسلامي"، إنّما تروم تحقيق المعاني التالية: أوّلا ضبط المصطلحات والمفاهيم ذات العلاقة بالموضوع، ثانيا تقصّي مراحل الخلاف الفقهي نشأة وتطوّرا وامتدادا وحضورا، ثالثا ضبط المعايير العلميّة والأخلاقيّة والمهاريّة المحددة لعمل المجتهد. وأخيرا رصد مكامن الوفاق ومواطن الإنصاف عبر استنطاق الموروث التشريعي من فقه وقواعد ومقاصد، تأسيسا لأخلاقيات الحوار والتعايش بين المدارس الفقهيّة. 

تأصيل الخلاف الفقهي
 
يشير د. منير بنجمور إلى أنّ المدونة الأصوليّة الفقهيّة تثبت أنّ علماء الشريعة قد وجّهوا عنايتهم إلى تأصيل الخلاف الفقهي من جهة ما هو جزء لا يتجزّأ من علم الأصول، كما اجتهدوا في وضع ضوابط لهذا الخلاف تراوحت بين النّظري والعملي، أي بين ما هو معرفي أصولي وما هو أخلاقي قيمي وما هو مهاري تقني. ولعلهم كانوا ينشدون بهذه المعايير تأسيس مرجعيّة للوفاق والائتلاف تدعم المرجعيّة العليا، أي القرآن الكريم والسنّة النبويّة وما خطّه الصحابة والتابعون ومن تبعهم في هذا القصد النبيل، يضيف بنجمور.

 

لم يفت العلماء قديما وحديثا تأكيد شرعيّة الخلاف الفقهي صونا لما أسماه الكاتب بحق الانتماء وحماية لحرية التعبير والإبداع وتكريسا لمبدأ التعددية المذهبية. ولم يكن اهتمامهم يزيد عن وضع قواعد تشريعيّة للعيش المشترك أو "الدستور"، فالقول بحرية الانتماء لا يعني القول بإمكانيّة التعايش والالتقاء.

 



في ذات الإطار يؤكد بنجمور أنّ علماء الشريعة اهتمّوا بتهيئة الأرضيّة الملائمة للخلاف والائتلاف معا، لأنّ الاختلاف الفكري يجب أن لا ينفي الائتلاف الروحي والاتحاد في الأصول والثوابت، حتّى أضحى الحديث عن الاختلاف لا يكاد يذكر إلاّ مقترنا بالكلام في الائتلاف، فكما أنّ الأوّل سبب للرحمة فالثاني مصدر للنّعمة.

المذاهب الفقهيّة تعبير عن جدل النص والعقل والتاريخ

يخلص الكاتب في نهاية بحثه إلى أنّ المذاهب الفقهية الإسلاميّة "لم تكن وليدة صراعات إيديولوجيّة ولا إفرازا لتجاذبات سياسيّة، كما لم تتشكل لأغراض حزبيّة أو طائفيّة، وإنّما برزت في سياقاتها التاريخيّة".
إلى ذلك يرى الكاتب أن المذاهب الفقهية امتدّت جغرافيّا ضمن ما يعبّر عنه بالفكر التشريعي الذي كان استجابة لحاجات مجتمعيّة ضاغطة بدءا من فترة الإسلام المبكّر، كما جاءت نتاجا لقراءات وفهوم متنوعة للنص التأسيسي. إنها تعبير عن جدل النص والعقل والتاريخ، يضيف بنجمور.

وعلى تعدّد قراءات النص وتنوعّها فإنّ دائرة الخلاف تقلّصت بفضل ما سنّه علماء الشريعة من "قواعد تكفل التعايش بين المختلفين، أهمّها: كلّ مجتهد مصيب، ومراعاة الخلاف، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، والفتوى يغيّر المذهب، والجمع بين الأدلّة".

العقل المقاصدي والتحرر من ضيق الفروع

لم يفت الكاتب التنويه بما أسماه "الثورة التجديدية في عالم الفكر التشريعي"، والمتمثلة في تفعيل العقل المقاصدي، بما هو التفات إلى تحكيم معاني النصوص وضبط كليات الشريعة باستقراء الجزئيات. ويرى أنه بمقتضى هذه الثورة تحققت نقلة ابستمولوجيّة مفادها التحرر من ضيق الفروع ومعانقة أفق الكلّيات، ومنه استبانت فلسفة الشريعة في عموم أحكامها ومفرداتها.

وبرزت محاسن هذا التجديد المنهجي للفكر التشريعي حين اصطلح المحققون على أنّ "المقاصد هي النبراس الذي يستنار به لرفع الخلاف وتفعيل الوفاق والتحرر ولو نسبيا من النزعة المذهبية ومن الجمود على المنظومة التراثية، يضيف الدكتور بنجمور.

هل تُلغي الوحدة التشريعيّة التعدد المذهبي؟

لم يفت العلماء قديما وحديثا تأكيد شرعيّة الخلاف الفقهي صونا لما أسماه الكاتب بحق الانتماء وحماية لحرية التعبير والإبداع وتكريسا لمبدأ التعددية المذهبية. ولم يكن اهتمامهم يزيد عن وضع قواعد تشريعيّة للعيش المشترك أو "الدستور"، فالقول بحرية الانتماء لا يعني القول بإمكانيّة التعايش والالتقاء.

وبقدر الأهمية التي أولاها العلماء لتقعيد الخلاف الفقهي فإن تنامي المد المذهبي واستفحال ظاهرة التعصّب بأشكالها المختلفة وحرصا على تحقيق الوحدة المجتمعيّة فإنّ الدكتور بنجمور يعتقد في ضرورة تحقيق الوحدة المجتمعيّة "ولَو باعتماد مذهب فقهي واحد اكتسب الشرعيّة التاريخية والاجتماعيّة في الفتوى والقضاء وممارسة الشعائر". ويعتبر بنجمور ذلك "ضرورة لتحقيق وحدة تشريعيّة كفيلة بانتظام المجتمع بسائر مكوّناته واستقراره بما يشبه الانضواء تحت الدّولة المدنيّة صاحبة السلطة العليا التي تنظّم المجتمع وتطبّق القانون".

فصل المقال وزبدة الأطروحة التي يطرحها الدكتور بنجمور هي أنّ "الدّعوة إلى تحقيق الوحدة التشريعيّة لا تلغي بالضرورة القول بالتعدديّة المذهبية، فالأمران يتكاملان من جهة أنّ الأوّل تأصيل للتعارف والثاني تفعيل للاعتراف بحق الاختلاف، وبهما جميعا يتحقق المقصود من التشريع ألا وهو الأمن الفكري والاستقرار الاجتماعي".


التعليقات (1)
عابر سبيل
السبت، 02-07-2022 12:07 م
المحاور يتسلح بفقه الخلاف وأدب الاختلاف ـ الانفتاح على المخالف والتسامح مقبول لكن من غير اضطراب في الدين وتذبذب في الفكر .فهناك دعاوى يطلقها دعاة التغريب في جمع صف المؤمنين والمشركين ووحدة الأديان أو تقاربها وهي مشتملة في بعضها على الشرك، [الديانة الابراهيمية! التسامح والتعايش مع الشرك والربا والفاحشة (الشذوذ الجنسي) والزنا والقمار ...!!!!!! ] فهذا لا يسمى أدبا، بل يسمى خروجا عن الدين وتجاوزا للنص، والتساهل فيها تمييع ..!أعظم آداب الخلاف أن تراعي حرمة القول، وحرمته أن تكون هذه المسألة أفتى بها علماء أجلاء ودرج عليها بررة أتقياء، وقد أوسع الله لنا الاجتهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد."