هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يرتبط اسمُ الشاعرِ العراقيّ الراحلِ مظفر النواب، على الأقلّ لدى أبناء جيلي (مواليد السبعينيات) ، بشعرِ الرّفضِ والهجاءِ و النقدِ اللاذعِ لسياساتِ الحكومات العربية تجاه قضايا الأمة المصيرية المحسومة في تاريخنا، كما أنّ هذا الرفضَ كان قد أخذ شكلا شعريًا مميزًا.
وبالتالي فقد اتّسمَ بطابعٍ أقرب ما يكونُ إلى النشيد، وصار شعاراتٍ يتغنى وينادي بها أبناء ذلك الجيل والأجيال التي تلته، حيث كانت الكلمةُ سلاحًا يتقلدون به في مواجهة جميعِ الإحباطات والخيباتِ المتوالية التي كانت ولا زالت تُمطرنا بها جميعُ الدكتاتوريات في الوطن العربي.
إذا بحثنا عن المنجزِ الشعري مطبوعًا ومعتنىً به لهذا الشاعر الكبير، مظفر النّواب، فإنّنا، ومع الأسفِ الشديدِ، لن نجدَ له سوى المطبوعات، والتي، وعلى الأغلب، كان قد قامَ بجمعها محبو هذا الشاعرِ، ومعظمُهم ليسوا بذاتِ الكفاءةِ والأهليّةِ الشعريّةِ التي تمكنّهم من الإحاطةِ بشعرهِ بالدراسةِ والعنايةِ التامّة، حيث سيواجهُ القارئ لتلكَ الأشعار المطبوعة الكثير من الأخطاء العَروضية واللغويّة، أخطاءٍ فادحة لا يمكن لهذا الشاعرِ المبدع أن يكون هو من ارتكبها على الإطلاق!
إنّ السؤال المطروح هنا، لماذا لم يعتنِ مظفر النوّاب بشعره؟ ولماذا تركه لمغامرين أو لمحبين ليس لهم دراية بالمنهج الشعريّ وأساليبِهِ؟
اقرأ أيضا: وفاة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب في الإمارات
للإجابة على هذا التساؤل، فإنّ علينا أن نقومَ بإعادةِ النظرِ في طبيعةِ شعرِ مظفر النوابِ، وكذلك الأمر بطبيعةِ الانشغالاتِ التي كان منحازًا لها، وطبيعةِ حضورِه في القصيدة وفي الشاعر أيضًا، على أن يتمّ ذلك بعيدًا عن الجدلِ والنقاشِ الدائرِ حول ديانةِ الشاعر أو آرائهِ في الدينِ وفي الرموزِ والمقدّساتِ، وعلى الرغمِ من أنّ هذه الآراء كانت متداولة عند أبناء جيله من الشعراء، فإنّه تتم الآن محاكمتها بعد أن تم انتزاعها من سياقها التاريخيّ ودلالاتِها الرمزيّةِ والدوافعِ الكامنةِ وراء القولِ بها لحظة القصيدة.
على أيةِ حال، فإن ما يهمنا في الحقيقةِ هو مكانة الشعر من قصيدة الشاعر، وما دون ذلك فقد تتكفل به مقالات أخرى تدرس هذه الظواهر بتركيز أكبر.
إنّ القصيدة عند مظفر تصدرُ من باب العاطفة بالدرجة الأولى، كما أنها تتسم بطابع الإنشادِ الذي يخدعُ المتلقي بإمكانية التغيير والتعديل مع سهولة في الحفظ، وهذه المميزات بما فيها من تألق، قد تصبحُ مضرّةً في بعضِ الأحيان، كما أنها تستنزف الطاقة الشعرية على المدى البعيد، وذلك لأنها تعتمد في المقام الأول على طاقة الروح التي تتغذى على الحالة النضالية والحماسيّةِ، فتظهرُ في صورةِ الهجاء والرفض الذي يتناقص بتقدم العمر، بالإضافةِ إلى تغيرِ الآراءِ وتبدلها بما يتماشى مع طبيعة البشر وتحولاتهم في المواقفِ والأفكار.
إذا سلمنا بهذه النظرة فسوف ندرك أنّ حضورَ مظفر النضالي الهجَّاء هو أهم تمظهر للروحِ الشعريةِ الممتدةِ عبرَ قصائدِهِ المتداولةِ، وتعويلاً على ذلك، فإنه من الطبيعي أن يكون شعر مظفر رديفًا للحالةِ النضاليةِ التي تتسم بها تجربته، ولا يمكن تفكيكها إلا تحت ظلال هذه الأجواء، فالشعرُ وسيلة لا غاية، وسيلة لاستمرار الحضور، وهذا حسب اعتقادي هو الجوهر الحقيقيّ لمشروعه الشعريّ.
لم يشرف الشاعر على طبع دواوينه الشعرية في حياته، وهذا كان قد فتح بابًا للتكهناتِ حول الإجابةِ عن هذا السؤال، فهل كان ذلك كسلا؟ أم إيمانًا منه بعدم جدوى ذلك؟ أم أنه كان خائفًا من تلمس عيوب هذه التجربة؟ أم كل هذه الأسباب مجتمعة؟
وبغضِ النظرِ عن السببِ الحقيقيّ، فإنّ الخسارة الكبرى حلّت على القارئ العربي لعدم جمع شعر الشاعر بكتابٍ محترم يرتب قصائده زمنيا ويضع لكل مجموعة اسما وتاريخا، إنها حتمًا خسارة تتبع هذه الروح المعذبة الهجاءة والرافضة، هذه الروح التي أثرت وما زالت تؤثر في أجيال شعرية تربت على قصائد مفردة أو عبارات من قصائد أصبحت تشكل موقفا شعريا من كل ما هو معيق للمسيرة المتخيلة في الطريق إلى الحرية.
ربما نكتشف أنّ حامل هذه الروح كان يدندن على وتر واحد طول مسيرته الشعرية، ودون تحولاتٍ كبرى شهدت به حياته أو حياتنا، مع الإقرار بأنه ليس مطلوبًا من الشاعرِ أن يكون مرآة تعكسُ الواقع ولا يشترطُ أن تتبنى نظرتنا له، ولكن تلمس التطور في حرفه لابد أن يعكس حيويته الشعرية بل ومكانة الشعر من نفسه طوال عمره.
من ناحية أخرى فإن هذه التجربة الفريدة أكدت لنا أن الإنشاد الشعري ما زال يقترح صيغًا وأساليب تقربُ القارئ العربي من الشعرِ وتعيدُ ارتباطه الجمعيَّ بحالة الإنشاد، والتي تعيد تأكيد ارتباطه الفطري بالشعر الذي يمكن أن يصبح في حالتنا هذه خبزه اليومي وقوته المستمرَ في مواجهة مصاعب الحياةِ التي تزدحمُ بكل ما هو غير شعري.
إنّ الاستماع لمظفر له متعة خالصة تضع المتلقي أمام شلال متدفقٍ من الجمالِ، جمالٍ تتداخل فيه الحكمة وعذابات الروح وتجس بمهارة كل ما هو شفاف في وجداننا مع حضور دائم للنضال وبوصلة لا تحيد عن مبتدئ ومنتهى صراعاتنا مع السلطة أيًا كانت، كما أن هناك الكثير منا من يحفظ بعض مقاطعهِ الشعريّةِ ويستشهد بها في مواقف حياته، مقاطعَ تجاوزت الأيدولوجيات منفردة فتلقفها الناس بدون مقدمات لتعبيرها الحقيقي عن لحظات شعرية لامست أوجاعا وعبرت عنها.
أنا هذي طاولتي
يقرأني من يرغب حسب ثقافته
وقد يخطئ لا استاء