قضايا وآراء

قرار القضاء السوداني.. أكثر من دلالة (فولكر وآخرين)

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600
(1)

قرار القضاء السوداني بتبرئة ١٢ من الشخصيات السياسية السودانية يوم ٧ نيسان (أبريل) الجاري من تيارات إسلامية وطنية من تهمة تقويض النظام الدستوري وتمويل الإرهاب ومحاولة اغتيال د. حمدوك وآخرين، أو ما عرف بالبلاغ (5984) وضم سياسيين وناشطين وعسكريين، ليس مجرد قرار قضائي وإرساء لمبدأ العدالة، بل هو (انعطاف في الراهن السياسي السوداني)، وإضاءة على طبيعة المواقف الدولية وانتهازية بعض القوى السياسية السودانية..

ومع اختلاف المواقف بين احتفال وترحيب وتحفظ، فإن هناك الكثير من الدلالات والإشارات من الضروري التوقف عندها بين يدي هذا القرار:

وأولها ـ أكذوبة المجتمع الدولي في حماية الحريات العامة، ومواقفهم الحيادية وحديثهم عن الانحياز لحقوق الإنسان ومبادئ الأمم المتحدة، وخلال (22) شهراً من هذا العسف القانوني لم تنبس الأمم المتحدة ممثلة في منظماتها الحقوقية أو رئيس اليونتاميس فولكر بيرتس، ومع بياناته وأحاديثه الكثيرة وتنويره لجلسات مجلس الأمن، فإنه لم يشر تلميحاً أو تصريحاً لهذه القضية علماً بأن الإفادة الأخيرة له أمام مجلس الأمن ٢٨ آذار (مارس) الماضي تحدث فيها عن (معتقلين سياسيين وناشطين فتحت ضدهم بلاغات جنائية)، والإشارة هنا لمعتقلي قوى الحرية والتغيير دون غيرهم، فلم يمنع كون الاعتقال بسياقات قانونية من الإشارة لهم، ولكنه صمت ثلاث سنوات عن اعتقال متعسف لتيار سياسي آخر، وهذا الأمر يشير إلى أن مجموعة فولكر مجرد رافعة سياسية لجهة سياسية وطرف سياسي في الواقع السياسي لا أكثر، بل تفتقر الحياد ولا تقوم بوظيفتها في حماية حقوق الإنسان والعدالة.. وتقنن للإقصاء والتشفي والانقسام في المجتمع.. وتنحاز بمنهج مفضوح ومكشوف لطرف سياسي..

وهناك أطراف كثيرة تم اختبارها في هذه القضية، ومنها الترويكا الأوروبية وأمريكا وبريطانيا، فلم يكن شخص في قامة بروفيسور إبراهيم غندور وزير الخارجية الأسبق والنقابي ومدير جامعة الخرطوم الأسبق شخصية يمكن التغافل عنها أو تناسيها وتجاهلها، ما لم يكن ذلك يصادف هوى هذه المجموعة السياسية ويتسق مع أجندتها..

والحقيقة الثانية ـ انحياز منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية ومنظمات أخرى تمارس مهامها وبياناتها وفق أجندة مريبة ومثيرة للاشمئزاز وغياب المهنية والموضوعية.. فلم يتم الإشارة لهذه المجموعة من السياسيين في أي بيان أو تصريح أو طلب مراعاة ظروفهم الإنسانية..

والإشارة الثالثة ـ هي غياب العقل الوطني الرائد في السودان، ومع وضوح ضعف هذه القضية وأدلتها وسياقاتها، إلا أن القوى السياسية الكبرى لم تحرك ساكناً انتصاراً لقناعات أو ابتداراً لحوار وطني جامع، وحتى جماعات اتفاق السلام ارتضت السير في موكب (هتافي)..

وهذه ظاهرة مؤسفة في السياسة السودانية، أي توظيف الغوغاء في المواقف السياسية، وحتى المكون العسكري ساير هذا الإخلال بالعدالة لصالح نزع السلطة من خلال (مناورة طويلة الأمد) و(استنزاف الطرف الآخر)..

هذه القضية محورية في الواقع السياسي وهي المدخل للخروج من الأزمات الدائرية، أي إعلاء المبادئ على الانتصارات الصغيرة والخيارات الصفرية..

(2)

صحيح أن الحكم القضائي أثبت حقائق مؤكدة، وأولها: أن الحاكمين خلال السنوات الثلاث الماضية مجرد مجموعة (مغامرين سياسيين) أطاحوا بكل معنى لمفهوم الدولة والقانون والعدالة وسليم المنطق، وافتقروا للخيال والأفق والقراءة الصحيحة للوقائع والشواهد التاريخية ناهيك عن إدراك تعقيدات المشهد السياسي.. وتلفيق تهم هزيلة وقرائن ضعيفة، تكشف وتؤكد هذه ذلك.

والحقيقة الثانية: هشاشة مؤسسات الدولة السودانية، حيث تمكنت هذه المجموعة من المغامرين السياسيين، من توظيف النيابة العامة، ومنابر إعلامية ودوائر شرطية لصالح تصوراتهم أكثر من خدمة العدالة أو الحرية أو الانتصار الحقيقة، فهذه القضية التي جمعت بروفيسور إبراهيم غندور السياسي المتمرس، ود. محمد الجزولي رئيس تيار إسلامي وراشد تاج السر أمين عام حزب الإصلاح وأنس عمر سياسي فاعل والشاب معمر موسى من الفاعلين السياسيين مع عسكريين آخرين، ومعتقلين دون بينات أو أدلة، أو مضبوطات كلها تشكل أزمة (وظيفية في بنية الدولة السودانية)..

والحقيقة الثالثة: وجود بقية من الخير في القضاء السوداني، فقد أصدر القاضي قرار البراءة بعد تطاول الإجراءات اضطر معها المحبوسون لإعلان الإضراب عن الطعام، مطالبين بسرعة تقديمهم للعدالة.. دون أن ننسى أن هناك قضاة سمحوا باستمرار هذه (الحالة) من خلال تجديد الحبس والتمديد.. ودون أن ننسى أن المكون العسكري لم يغض الطرف بالرضا، بل غطى وحرس وحمى هذه الممارسات بالبندقية وبرئاسة لجنة التمكين حتى ذلك التاريخ (يونيو ٢٠٢٠م)..

(3)

من المؤكد أن قرار الإفراج عن هؤلاء القادة والسياسيين سيؤدي إلى حيوية المشهد السياسي السوداني، على أكثر من بعد، حيوية للتيارات الوطنية والإسلامية وإضافة فاعل جديد، ومن جانب آخر تحفيز (أطراف فترة الانتقال الراهن) ويشمل قوى الحرية والتغيير هو بأطرافها الحاكمة والغاضبة وحركات اتفاق سلام جوبا، وحالة إرباك في أجندة أجنبية متعددة، وما لم يتم إعلاء الخيار الوطني، فإن حالة الانسداد والاستقطاب لن تترك وطناً نعتز به ونعيش فيه..

التعليقات (0)